من اختيارناالشهودالفلسفة

الاحتباس الحضاري والقابلية للاستنهاض

مقدمة

تهدف هذه الورقة إلى تقديم أرضية أولية لإنضاج مقاربة جديدة لمشروع النهوض، بما يعنيه ذلك من محاولة تقييم حصيلة المشاريع السابقة، وتشخيص اللحظة الحالية، واقتراح مسارات مغايرة للتفكير والعمل في المرحلة القادمة.

فبعد سنوات قليلة قادمة، سيكمل القرن دورته على ذكرى سقوط آخر رمز من رموز قوة الحضارة الإسلامية، حيث تم احتلال معظم الكيانات السياسية المتشظية في العالم العربي والإسلامي وألحقت بحضارة أخرى.

ولئن كانت حملة نابليون على مصر قد مثلت العلامة المبكرة على بداية التدهور الفعلي للأمة العربية والإسلامية، وكشفت مدى الترهل الحضاري الذي وصلت إليه، فإن السقوط المتوالي للدول الإسلامية الكبرى كان مؤشرًا مباشرًا على نهاية مرحلة مفصلية، وبداية أخرى في تاريخ الأمة، نتج من تلك النهاية نشوء مجموعة من القضايا والتحديات.

وتبعًا لتفاقم تلك التحديات، ظهرت محاولات عديدة تحت عنوان “مشاريع النهضة”، تفاوتت من حيث طبيعتها ومنطلقاتها وقدرتها على التأثير والفعل.

 غير أن الواقع الذي لا تزال الأمة تعيشه اليوم يدل على أن تلك التحديات ما زالت قائمة، مما يدعونا بكل تأكيد إلى إعادة قراءة تلك المشاريع. كما يدعونا ذلك الأمر إلى طرح أسئلة تقييمية نقدية، من قبيل ما يلي: هل تكون تلك المشاريع في عمومها قد أخطأت طريقها نحو النهوض؟ وإذا كانت كذلك، فأين يكمن جوهر الخلل؟ هل في تشخيصها لطبيعة التحدي؟ أم في البدائل التي اقترحتها؟ أم في حجم العوائق الخارجية التي اعترضتها؟ وفي حال ما إذا أردنا تجاوز منطق تلك المشاريع النهضوية السابقة، فما هي الأسس المغايرة التي يمكن أن نبني عليها تفكيرًا وعملاً نهضويًّا جديدًا؟

أولاً: قرن التحديات المزمنة

يجمع المهتمون بالشأن النهضوي على أن نهاية هذا القرن الذي نعيشه، لا يزال يطرح، في العمق، التحديات نفسها التي كانت قد طرحتها بداياته. فعلى مستوى قضيتي الاستقلال والاستقلالية، يمثل التدخل العسكري الغربي في عدد من المناطق في قلب العالم الإسلامي تحكمًا مباشرًا في قرارات الأمة وخياراتها الاستراتيجية. كما يمثل احتلال فلسطين المثال المادي على ذلك الاستعمار؛ وهو ما أفرز تحديات فرعية خطيرة، منها تهديد هويتها وخصوصيتها الثقافية، وكذا إفراز ظاهرة الإرهاب، فضلاً عن استمرار احتلال عدد من الجيوب العربية والإسلامية.

كما مثلت القواعد العسكرية الأجنبية برًّا وبحرًا وجوًّا، والمتمركزة داخل ترابها والمحيطة بمجالها، أداة مباشرة للتحكم المطلق في منابع الطاقة وممراتها وأسواقها.

كما شكلت العولمة، كشكل متقدم للمشروع الليبرالي المتوحش، تحديًا بالغًا عبر واقع الشركات العملاقة العابرة للقارات، والمقتحمة للأسواق المحلية المفتقدة للقدرة التنافسية، إما عن طريق اتفاقيات “التجارة الحرة”، أو عن طريق التدخلات العسكرية المباشرة.

وقد لعبت اليوم شركات منصات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث العالمية، الدور الفعال في تطويع الأنماط الحياتية لهذه البلدان، لإقحام المنتجات المعروضة من قبل هذه الشبكة أو تلك في أفق ينذر بمستويات عالية من التحكم في الهيمنة.

أما إذا نظرنا إلى قضية الوحدة، فإننا اليوم نعيش مستوى سيئًا من أشكال النزاع بين الكيانات السياسية، وصلت في عدد من الحالات إلى المستوى العسكري. فضلًا عن استمرار التوترات الحدودية البينية. يأتي هذا بعد مرور 100 سنة على اتفاقية سايس بيكو، التي قسم بموجبها العالم الإسلامي والعربي إلى 86 دولة، بعد أن كانت لا تتجاوز، في مراحل معينة، ستة أقاليم.

ولأن مشروع التجزئة هو مشروع متحرك ومتفاعل، فإن دعوات وقرارات التقسيم ما فتئت تنتعش خلال هذا القرن، لتعيش الأمة اليوم على حافة مشاريع تقسيمية جديدة، اكتست أسماء متعددة، واتخذت لها مداخل مختلفة.

وعلى مستوى قضية التنمية، لا تزال معظم الدول الإسلامية تحتل أسفل سلم مؤشرات التنمية، بالرغم من التحفظ الذي يمكن أن يسجل على العديد من تقارير التنمية. والواقع المعاش يدل على تخلف كبير عن اللحاق بركب الدول الرائدة عالميًّا.

وأخيرًا تأتي قضية العدالة والوقوع تحت طائلة الاستبداد، حيث كان من حظ دول العالم الإسلامي أن تحكمت فيها عدد من الأنظمة المستبدة، مكنت الحكم لفئة سياسية أو عسكرية أو طائفية أو عرقية، مما جعل معظم شعوبها تعاني من ضعف المشاركة الفعلية في تدبير شؤون البلاد، واختلال كبير في تقسيم الثروات؛ ذلك أن الأنظمة السياسية التي ورثت الحكم عن مرحلة الاستعمار قد اعتمدت على ذات المؤسسات السياسية والاقتصادية الاحتكارية التي زرعتها الأنظمة الاستعمارية من قبل، مما انعكس على مستويات الحريات السياسية والاجتماعية والإعلامية.

وبالرغم من محاولات التغيير التي كانت تحاولها الشعوب، والتي كلفتها ولا تزال أرواحًا ودماء وتشريدًا، فإنها في النهاية كانت ترتكس في أتون الاستبداد من جديد. ولعل آخر تلك التجارب ما أطلق عليه اسم: “الربيع العربي”، وهو الذي آلت موجته الأولى إلى انتكاسة كبيرة، مع ما يمكن أن يطرح على تلك الهبّة من تساؤلات حول شروط اندلاعها، والقوى التي انخرطت فيها، والجهات التي استثمرت نتائجها.

لقد مثل هذا القرن بحق قرن التحديات المزمنة. فماذا حققت مجمل المشاريع النهضوية التي جاءت استجابة لتلك التحديات؟

ثانيًا: مشاريع النهوض: نجاحات وإخفاقات

منذ بداية القرن التاسع عشر، ومع ظهور بوادر الضعف والتدهور، انطلقت مجموعة من المحاولات النهضوية لتفادي السقوط، فوجدنا أسماء نهضويين عديدة في العالم الإسلامي والعربي، ثم جاءت بعد السقوط أعلام أخرى ثم حركات وأحزاب. كما ظهرت حركة صحفية كبيرة.

ويمكن تصنيف تلك المشاريع حسب ثلاثة معايير متوازية:

فهناك مشاريع حاولت تقديم إجابات شاملة أو جزئية على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية. وعبرت مشاريع أخرى عن نفسها في شكل مشاريع نظرية قدمها مفكرون ومنظرون، أو تنظيمية تشكلت في أطر حزبية أو جماعية، أو تنفيذية قام بها حكام ومسؤولون. وأخيرًا تمايزت تلك المشاريع على أساس الخلفية الأيديولوجية التي حكمتها.

يمكن أن نميز على المستوى الأيديولوجي بين أنموذجين متقابلين: أنموذج القطيعة، الذي دعا إلى إقامة “قطيعة معرفية” مع التراث والتاريخ، لأجل تحقيق الاندماج في مشروع “الحداثة الغربية”. وقد تبنت هذا الأنموذج أيديولوجيتان: ليبرالية ويسارية. أما أنموذج الاستئناف، فقد اتجه إلى تحقيق “إحياء تراثي” يضمن “الاستئناف الحضاري”. وتبنت هذا الأنموذج أيديولوجيتان: قومية وإسلامية.

لقد سلكت تلك المحاولات الأيديولوجية في سبيل النهوض مسالك متعددة، من النزعة الجذرية العنيفة إلى النزعة الإصلاحية السلمية. من هذه المحاولات ما استطاع أن يتحول إلى مشروع دولة جربت تنفيذ ما آمنت به، ومنها ما ظل في المستوى الحركي والتنظيمي ولم يفلح في تجاوز ذلك.

وإننا في الوقت الذي نتشاطر الرأي مع من قال: “إنه كانت هناك نجاحات وإخفاقات”، فإنه في الوقت ذاته لا يمكن أن نتجاوز النظر إلى حقيقة نسبة تلك النجاحات في مقابل الإخفاقات؛ لاعتبار أن العوامل الذاتية تظل حاسمة في تحديد الحالة التي تؤول إليها الأمة.

 كما أننا، من جهة أخرى، لا نستطيع أن نسير في اتجاه التضخيم من أهمية العوامل الخارجية المعيقة لنبرر تلك الإخفاقات.

إن معظم من أحصى نجاح المشاريع النهضوية لم يتجاوز ثلاثة مشاريع اتسمت بمحدودية التأثير، وهي: الحفاظ على الشعور بالانتماء للأمة العربية والإسلامية؛ إضافة إلى الحفاظ على الوحدة الثقافية للأمة، خاصة اللغة العربية والتاريخ المشترك؛ ثم تحجيم المشروع الصهيوني والوقوف دون تحقيق مجمل أهدافه.

تدل حصيلة عمل تلك المشاريع النهضوية، بالرغم من تلك النجاحات، على أنها قد قصرت على تحقيق جل ما كان منتظرًا منها، بخصوص تجاوز التحديات الخمسة (الاستقلال، الاستقلالية، الوحدة، التنمية، العدالة). وحتى ما تم في بعضها لم يكن شاملًا وتامًّا. مما يجعلنا نستنتج، بكل حذر، أن تلك المشاريع قد آلت إلى حالة من القصور الشديد. وهو ما يدعونا إلى التساؤل: ما هي أسباب ذلك القصور؟

ثالثًا: مشاريع النهوض: أسباب القصور

من خلال استقراء مجمل مشاريع النهوض، نجد أن أسباب قصورها متعددة المستويات، معقدة الطبيعة، وموزعة بين ما هو داخلي وما هو خارجي، وبين ما هو أساسي وما هو ثانوي. ولكن بالإمكان التركيز على أهم ثلاثة أسباب داخلية أساسية، باعتبارها كانت أسبابًا مشتركة وحاسمة في عدم قدرة تلك المشاريع على تحقيق النهوض المنشود، وهي:

أولًا: الوقوع في التشخيص السياسي للحظات توالي سقوط الدول الإسلامية الكبرى، ما أفقدها أي بعد نظري حضاري.

ثانيًا: وقوع أفق مشروع النهضة تحت سقف “إقامة الدولة البديلة” للدولة المنهارة. وحتى حينما ظهرت بعض المحاولات النهضوية المبنية على الأساس المعرفي، لم يكتب لها الاستمرار والتبلور لارتكازها على البعد الشخصاني، وافتقادها الطابع المؤسساتي.

ثالثًا: الوقوع تحت تأثير حالة الاستلاب التام نحو الآخر (الغرب) إما سلبًا أو إيجابًا، بدل الانطلاق من حاجات الذات وإمكاناتها ورسالتها؛ فسقطت تلك المحاولات في منطق ردود الأفعال، بدل أن تمثل مشاريع أفعال لها استراتيجيتها الخاصة وخططها الذاتية.

أما إذا التفتنا إلى الأسباب الموضوعية الخارجية، فإننا نجد أن مشاريع النهوض العربية والإسلامية قد ظهرت، قبل أكثر من قرن من الزمان، في سياق وجود ثلاثة مشاريع أخرى معاكسة هي: المشروع الليبرالي الأوروبي؛ والمشروع الاشتراكي؛ والمشروع الصهيوني. وقد كان ذلك التزامن طبيعيًّا من الناحية التاريخية ولم يكن مفاجئًا. بل كان بعضه سببًا لوجود بعض. فلقد كان المشروع الحداثي الليبرالي الأوروبي، بحد ذاته، رد فعل للمشروع الحضاري العربي والإسلامي. كما كان المشروع النهضوي الماركسي رد فعل للمشروع الليبرالي. فيما استطاع المشروع الصهيوني أن يستفيد من كلا المشروعين الأوروبيين فينشأ في كنفهما، مستغلًّا التناقض الحاصل بينهما وبين المشروع النهضوي العربي والإسلامي.

ولذلك، لم يكن منتظرًا من تلك المشاريع الأوروبية المعاكسة أن تدع محاولات النهوض العربية والإسلامية تتجذر وتحقق ما تصبو إليه. ففي سياق هذا التدافع الحضاري، كان طبيعيًّا أن تنزل تلك القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا، بكل ثقلها على المنطقة العربية والإسلامية، لتعيد هيكلة مؤسساتها السياسية والاقتصادية، كي تحقق تحييد وظيفتها المهددة لوجودها، ثم لتمكن للمشروع الصهيوني من قلب الأمة العربية، ليظل أداة احتواء خارجية يخدم هدف إعاقة انطلاق أي مشروع نهضوي.

المشروع النهضوي العربي: توقف خاص

لا يمكن الحديث عن أي مشروع نهضوي جديد دون التوقف عند “المشروع النهضوي العربي”، والذي أُنجز تحت إشراف مركز دراسات الوحدة العربية؛ وذلك لكونه المشروع النهضوي الفعلي الوحيد الذي صيغ بشكل متكامل، ليمثل ورقة عمل استراتيجية بعد مشروع عبد الرحمن الكواكبي “مؤتمر النهضة الإسلامية: أم القرى” الافتراضي.

كما إنه المشروع النهضوي الوحيد الذي ساهمت في صياغته ثلة عريضة ونوعية من المفكرين العرب من جل الأطياف السياسية والأيديولوجية. وقد تم التحضير له عبر مجموعة من الندوات والورشات امتدت على مدى اثنين وعشرين سنة.

ومع ذلك، فإن “المشروع النهضوي العربي” لا يبدو أنه قد استطاع تخطي المعيقات الأساسية لقصور المشاريع السابقة، وذلك للأسباب التالية:

غياب رؤية حضارية تكون قادرة على تشخيص لحظة السقوط والتراجع، في مقابل طغيان التحليل السياسي. ومع وجود خلط بين أسباب الانهيار ونتائجه، إضافة إلى التوليف المخل في التحليل، الذي كان سببه الرغبة في “استرضاء” جميع الأطياف الأيديولوجية التي شاركت في صياغته.

عدم تقديم رؤية نقدية وازنة للمشاريع النهضوية السابقة، وفي مقابل ذلك تم تضخيم العوامل الخارجية لتبرير قصورها أو فشلها.

تقليص دائرة مجال الأمة داخل النطاق العربي، مع غياب شبه شامل لأي تصور من أجل استثمار القوة الحضارية للأمة الإسلامية غير العربية.

افتقار المشروع إلى آليات عملية وزمنية. فبالرغم من تقديم بعض المقترحات ذات الطابع العملي والانتهاء من صياغته منذ ما يقارب العقد من الزمن، فإنه يبدو حتى الآن شعارًا لم يتحقق منه الشيء الكثير. وهو ما يدل على أنه قد ظل مفتقرًا إلى شرط “إطلاق الشرارة الفكرية الضرورية للإضرام”.

لكل تلك الأسباب، يمكن الاستفادة من مكتسبات المشروع ومحاولة العمل على تجاوزه، أخذًا بعين الاعتبار كل تلك المؤاخذات.

رابعًا: مدخل جديد لمقاربة جديدة: (محور نظري)

تستوجب أي محاولة جديدة لوضع مسارات واضحة للمشروع النهضوي ثلاثة شروط:

أولاً: تجاوز التشخيص السياسي إلى التشخيص الحضاري، مع الاشتغال في العمق الحضاري وفق قوانين التاريخ والحضارة الإنسانية.

ثانيًا: الوضع بعين الاعتبار شرط التدافع مع المشاريع المناقضة، لتحقيق آليات الحد من تأثيرها، مع ضرورة تجاوز الاستلاب نحو الخارج إيجابًا أو سلبًا، والانطلاق من حاجات الأمة وإمكاناتها ورؤيتها ورسالتها.

ثالثًا: الوعي بخاصية التجدد والمراجعة، التي هي من سمات أي مشروع له علاقة بالحضارة والتاريخ.

إن هناك سؤالاً مركزيًّا لا يجوز تجاوزه؛ لأنه سيكون مرتكزًا لإعادة تشكيل أنموذج جديد ينتظم عبره تفكيرنا في مشروع النهضة، وهو كالتالي:

ما حقيقة ما حصل لحظة توالي سقوط الدول الإسلامية الكبرى (المغولية بالهند 1857، والعثمانية بتركيا 1924، والقاجارية بإيران 1925)، وانفراط عقد الأمة العربية والإسلامية؟ فإذا كان ما حصل هو مجرد سقوط دول مركزية تمثل قوة الأمة، فلماذا لم تنهض كيانات سياسية بديلة تستأنف الدور نفسه كما كان عليه الأمر من قبل؟

نعتقد أن أسئلة من هذا النوع لا يمكن أن نجيب عنها دون أن نضع أساسًا نظريًّا قد يسعفنا في فهم اشتغال الحضارات، عبر نشوئها وتطورها وموتها.

 وعليه سنقترح دليلاً إرشاديًّا نسميه: “الهرم الحضاري”، كتصور نظري لتشخيص وتفسير ما حصل.

نموذج “الهرم الحضاري”: (التأسيس النظري).

استلهامًا من ثلاث نظريات أساسية:

يمكن أن نستخلص دليلاً إرشاديًّا نطلق عليه اسم “نموذج الهرم الحضاري”، نأمل أن يسعفنا في إعادة تشخيص التاريخ الحضاري ووضع معالم مشروع النهوض.

إن الهرم الحضاري المقترح هرم رباعي الطبقات، كل طبقة تمد الأخرى بمقوماتها، لتتشكل في الأخير حضارة متكاملة. ويتلخص في الشكل التالي:

يدل ” الهرم الحضاري” على أن المسار الإيجابي لأي حضارة يكون من أدنى إلى أعلى، عبر اشتغال المكونات الأربعة للهرم، وفق ما يلي:

تحيا قيم الحرية والعدالة والكرامة في ضمير الشعوب، باعتبارها مشتركًا واحدًا بينها، مع وجود اختلاف في تمثل مقادير تلك القيم وتجلياتها. وهي التي تشكل مادة أولية للمعارف والعلوم والفنون.

تقوم النخبة المعرفية والعلمية والفنية ببلورة منظومة القيم من معان مجردة إلى رسالة ورؤية، قابلة للتحقق على أرض الواقع. حيث تقوم المعرفة بعقلنة القيم ومنطقتها (جعلها منطِقية)، فيما تقوم العلوم بإجرائها وتوظيفها، وأخيرًا تقوم الفنون بتجويدها وتجميلها. وتعد استقلالية تلك النخبة شرطًا حيويًّا لقيامها بهذه الوظيفة الثلاثية.

تشكل الرسالةُ والرؤيةُ الكياناتِ السياسية، سواء الحركية منها (جمعية أو حزب)، أو التنفيذية (دولة)، ومن ثمّ تعد رسالتها مبرر وجودها. ولذلك تدخل تلك الكيانات السياسية في تنافس مستمر للاستئثار بتمثيل تلك الرسالة والرؤية.

وبهذا الشكل تشتغل مكونات الهرم الحضاري وفق مسار إيجابي، يمكن أن نطلق عليه “مسار الانتعاش الحضاري”. وهو ما يحمي كيان الهرم ويصونه.

أما حين ينعكس اتجاه اشتغال مكونات الهرم الحضاري؛ فيصبح من الأعلى إلى الأسفل: فإن الكيان السياسي حينها يعمل على إعادة تكييف الرسالة والرؤية وفق منطق السلطة لضمان استمرارها، بدل أن يعمل على تحقيق مقتضياتها. وهو ما يطلق عليه مصطلح “أدلجة”الرسالة والرؤية.

فتصبح الرؤية والرسالة المؤدلجة الجاهزة تلك نموذجًا ينبغي تبريره من قِبل النخبة المعرفية والعلمية والفنية، بدل أن تتبلور هي وفق مخرجات العمل المعرفي والعلمي والفني. وحينذاك، تنصرم العلاقة بين عمل تلك النخبة وبين منظومة القيم، فيقع ما يمكن أن نسميه “احتباسًا حضاريًّا”، يؤذن بانهيار الهرم الحضاري ولو بعد حين.

تطبيق نموذج الهرم الحضاري: (التطبيق التاريخي)

وإذا اتفقنا على تبني نموذج الهرم الحضاري، يكون باستطاعتنا إعادة صياغة الأسئلة التي من شأنها أن تقودنا للجواب عن سؤال النهضة، لتصبح كما يلي:

إلى أي حد كانت النخبة المعرفية والعلمية والفنية، عشية تدهور الحضارة العربية والإسلامية، قادرة على بلورة منظومة القيم؟ وإلى أي حد كانت تلك النخبة قادرة على مقاومة إملاءات السلطة في تبرير شرعيتها واستمرارها؟ وإلى أي حد كانت الرسالة والرؤية التي تتقاسمها الأمة تعبر عن كيانها لا عن الكيان السياسي المتحكم؟ وأخيرًا، إلى أي حد كانت تلك الكيانات السياسية منسجمة مع منظومة القيم التي بنيت على أساسها الأمة؟

سيقودنا الجواب عن هذه الأسئلة إلى وضع التشخيص المناسب لحالة الحضارة الإسلامية قبيل التدهور والانهيار، حيث تتمثل أمامنا أربعة مظاهر:

المظهر الأول: تحكم السلطة في المجال المعرفي:

بالرغم من الاستثمار الهائل الذي رصدته الدولة العثمانية، مثلًا، والدول الموازية لها، على مر خمسة قرون، لخدمة المجال العلمي والمعرفي، فإن تلك الجهود لم يوازها إفراز لنوعية علمية ومعرفية خاصة. وبالرجوع إلى اتجاه تعامل السلطة مع المعرفة آنذاك، نجد أن الدولة العثمانية، والدول الموازية لها، قد نهجت نهج التحكم في كل المجالات، بما فيه المجال المعرفي. إذ كان المجال المعرفي من قبل يتمتع بقدر معتبر من الاستقلالية، بحكم استقلالية مصادر تمويله، ونقصد بها الوقف الإسلامي[3] بالأساس، والذي كان يدار بواسطة أعيان كل بلدة، أو بتعبير آخر، كان تابعًا في تمويله للمجتمع المدني، وليس للمجتمع السياسي.

ومرحلة التحكم في النخبة العلمية كانت هي مرحلة ما يسميه ابن خلدون: الاستبداد بالملك. فحصل، بعد ذلك، ما بات يعرف بـ”نكسة القرن الخامس عشر”[4].

المظهر الثاني: عجز المؤسسات المعرفية عن تفعيل منظومة القيم

 عند إلحاق الوقف الإسلامي بمالية الدولة، والتحكم في المجال المعرفي بشكل كلي، ضاقت مساحة حرية المعرفة والعلوم ومجالات الإبداع، وتحولت المؤسسات المعرفية إلى راعية لتوجهات السلطة، مائلة إلى التقليد، معادية للتجديد، بدل أن تكون ناقدة مجددة. إلى درجة أن أصبح النزوع نحو المراجعة والاجتهاد مدعاة للمحاكمة[5].

فعجزت تلك المؤسسات المعرفية عن القيام بدورها الحضاري والمتمثل في تفعيل منظومة القيم داخل المجتمع، مما أضر بالعمق الحضاري للكيانات السياسية. بل لقد تم تسجيل تراجع النخبة المعرفية عن مطالبة الكيانات السياسية بالالتزام بمنظومة القيم مقابل قيم أخرى: ومن ذلك ما أصبح يختزل في مطلب “المستبد العادل”[6].

وهناك بدأت تلك الكيانات السياسية تدخل، خلدونيًّا، في مرحلة “تبذير ثمرات الملك”.

المظهر الثالث: انكماش رسالة ورؤية الدولة

تدل مجموع الأحداث التي سادت خلال القرن الأخير، قبل سقوط الدول المغولية والعثمانية والقاجارية، على أنها كانت مستنزفة بصراعات داخلية وخارجية حادة: فداخليًّا، كان الصراع ضد العرب على كل الأصعدة، مما فسح المجال في الأخير إلى قيام ما سمي “الثورة العربية الكبرى” التي نجحت في المساهمة في إسقاط الدولة العثمانية، تلك “الثورة” التي سقطت في الأخير لقمة سائغة في فم الاستعمار الأوروبي. وأما خارجيًّا، فقد كانت الدولة العثمانية مستنزفة بصراعها مع الدول الأوروبية (فرنسا، بريطانيا) غربًا، ومع روسيا شرقًا.

وبكلمة واحدة، يمكن اختصار الرؤية والرسالة التي طغت عليها حينها فيما يلي: “إن الدولة تتعرض لخطر داخلي وخارجي، وعليها الحفاظ على استمرار الحكم ضد الخصوم الداخليين والخارجيين”، وتحولت إلى مجرد دولة جابية، همها التحكم والهيمنة بكل السبل.

وهكذا افتقدت رسالتها ورؤيتها للعنصر الجامع للأمة، ولمبرر وجودها، فتُركت لحالها تقاوم مصيرها. وهي مرحلة متقدمة جدًّا من مراحل “تبذير ثمرات الملك”.

المظهر الرابع: تناقض الكيان السياسي مع منظومة القيم

وباعتبار أن الرؤية/الرسالة التي حكمت الدولة العثمانية تجلت في الحفاظ على الحكم من الأعداء المفترضين داخليًّا وخارجيًّا، فقد دفعها ذلك لتبرير أي خرق لمنظومة القيم الثلاثة، وذلك بتشريع عمليات الريع واغتصاب الأموال، وتحشيد المواطنين قهرًا للدخول في حروب لا يشاطرونهم الإيمان بجدواها، وهو ما غذى كل النزعات المعادية لها، فتوحدت تحت شعار: “المطالبة بالحرية ضد الاستبداد العثماني”. ولقد ضاق صدر الدولة حتى من أولئك الذين دافعوا على استمرارها لمجرد أنهم قد انحازوا إلى انتقاد استبدادها[7].

فما كان من الدول الأوربية، وعلى رأسها كل من فرنسا وبريطانيا، إلا أن استغلت تلك الثغرة الكبرى، فسوّقت نفسها داعية لإصلاح الدولة العثمانية دستوريًّا وقانونيًّا. الأمر الذي وجد صدى له لدى معظم النهضويين العرب والمسلمين آنذاك، بل حتى داخل نخبة المسيطرة في الدولة العثمانية. وبذلك تحقق ما يسمى خلدونيًّا “مرحلة التدهور والتفكك”.

وهكذا يمكن اختصار مسار الانهيار الحضاري للأمة العربية والإسلامية، عبر ست مراحل:

  • مرحلة تحكم السلطة في المعرفة، منذ تأميم الوقف الإسلامي.
  • مرحلة عجز النخبة المعرفية عن الاستمرار في تفعيل منظومة القيم، فمالت للتقليد وحاربت الاجتهاد.
  • مرحلة انكماش الرسالة والرؤية للدولة، فتحولت إلى دولة مستبدة تجبر الرعية على التضحية في سبيل أهدافها التي انفردت بها.
  • مرحلة تناقض الدولة مع منظومة القيم.
  • مرحلة عجز المعرفة عن صياغة الرسالة/الرؤية، بعد أن فقدت العلاقة بمنظومة القيم.
  • مرحلة فقدان الدولة عمقها الحضاري، مما أدى إلى تفككها وانهيارها.

وبناء على ذلك كله، يمكن توصيف تلك الحالة بأنها حالة “احتباس حضاري شامل”.

ولذلك يأتي السؤال المشروع الموالي: إلى أي حد توجد هناك إمكانات لتحقيق شروط القابلية للاستنهاض الحضاري في ظل حالة الاحتباس الحضاري؟

خامسًا: إمكانات القابلية للاستنهاض في ظل “الاحتباس الحضاري”

إذا اتفقنا أن الحضارة الإسلامية اليوم تعاني من “حالة احتباس حضاري”، فهل تسمح قوانين التاريخ بإمكانية النهوض من جديد؟ أم إن مشروع النهوض لا يعدو أن يكون مشروعًا طوباويًّا وحنينًا عاطفيًّا؟ وإذا كانت قوانين التاريخ والحضارة تسمح بإعادة النهوض، فهل تتوفر الأمة حاليًا على شروط “القابلية للاستنهاض”؟[8] وما هي تلك الشروط بالتحديد؟ وإذا كانت تتوفر على شروط النهوض، فكيف يمكن أن نحقق “شرط إطلاق الشرارة الفعلية لإضرامها”؟ وكيف يمكن تفعيل تلك الشروط لتؤدي إلى الانطلاق نحو مسار نهضوي جديد؟ وأخيرًا كيف نضمن الحد من تأثير المشاريع المعاكسة سلبًا على لحظة انطلاق المشروع؟

تجارب حضارية منتكسة وناهضة:

بالرجوع إلى التاريخ، ومن خلال استقراء مسار اثنين وثلاثين تجربة حضارية كبرى[9]، منذ حضارة السومريين بالألفية الرابعة قبل الميلاد، إلى انطلاق الحضارة الأوربية الليبرالية، نجد أن هناك أربعة مؤشرات إيجابية في هذا الصدد، نوجزها فيما يلي:

المؤشر الأول: أن الحضارة الصينية قد انتكست أربع مرات ثم استأنفت أربع مرات[10].

المؤشر الثاني: أن الحضارة الرومانية قد انتكست ثلاثًا ثم استأنفت ثلاثًا[11].

المؤشر الثالث: أن الحضارة الليبرالية الغربية الحالية، تشهد إمكانية إعادة النهوض بعد الانتكاسة الحضارية، كونها تعدّ نفسها مشروع “إعادة ميلاد”[12] للحضارتين الرومانية واليونانية كلتيهما.

المؤشر الرابع: أن منطقة غرب آسيا (النواة الجغرافية للحضارة الإسلامية) قد شهدت عشر تجارب حضارية قائدة عبر التاريخ[13]، ممثلة بذلك أعلى عدد من الحضارات المتوالية عبر التاريخ البشري، مما يدل على أن تلك المنطقة هي منطقة فارزة لأكبر عدد من شروط التحدي والاستجابة، بما يؤهلها لتوليد حضارات ناهضة أخرى.

الشروط الذاتية للاستنهاض: القوة الكامنة

إذا اعتبرنا الأمة عبارة عن بنية ومشروع، فإنه يصلح أن نطبق عليها أي نموذج تحليلي من النماذج المعتمدة في تحليل المؤسسات، حينها ستتجلى لنا نقط قوتها وضعفها، ثم نوع الفرص والتهديدات الماثلة أمامها.

ومن ضمن شروط النهوض نجد نقط القوة الكامنة والمتحصلة في الأمة. لذلك، فإننا حين نتبنى الاعتقاد بإمكان النهضة لهذه الأمة، فإن تلك القناعة هي نتيجة تشخيص واقعي لما تتوفر عليه من مقدّرات حضارية مادية ومعنوية كامنة، تنتظر التفعيل والتوظيف.

ويمكن أن نستعرض تلك المقدرات، دون تفصيل، كما يلي:

  • الدين الإسلامي بوصفه الدين الحضاري للأمة العربية والإسلامية.
  • اللغة العربية بوصفها اللغة الحضارية للأمة.
  • التاريخ المشترك للأمة العربية والإسلامية.
  • أهمية المجال الجغرافي للعالم الإسلامي اتساعًا وثروةً واستراتيجيًّا.
  • القوة الديمغرافية الكبيرة للمسلمين والعرب.
  • وفرة الكفاءات العلمية والإنتاجية داخل وخارج المجال العربي والإسلامي.

 الدعائم الخارجية للاستنهاض: الفرص الداعمة

إضافة إلى نقط القوة الكامنة والجاهزة التي بالإمكان استثمارها، هناك فرص خارجية أمام مشروع النهوض بالإمكان توظيفها، ويمكن أن نستعرضها أيضًا دون تفصيل كما يلي:

شيوع المعرفة والتقانة البالغة الدقة.

 تصاعد الثورة الاتصالية العالمية.

تصاعد دول صاعدة ورافضة لهيمنة المشروع الغربي[14].

تكاثر الحركات العالمية الرافضة لهيمنة المشروع الغربي[15]

 المعيقات الذاتية للنهضة: الضعف الكامن

نتيجة لتراكم ما عانته الأمة العربية والإسلامية، جرّاء تعقد الوضع الحضاري لها من إرهاب وأمية وطائفية وفساد وتراث فاسد[16]، فقد أصبح لدينا رصيد مركب من المعيقات الذاتية، لا يمكن الحديث عن شروط النهضة دون التخلص منها.

التحديات الخارجية للاستنهاض: تهديدات في وجه النهوض

إن وجود تحديات خارجية بحجم ما هي عليه، والمرصودة لإثقال كاهل الأمة العربية والإسلامية، لهي المؤشر المادي على أن هذه الأمة لا تزال تتوفر على عوامل كامنة للنهوض، من شأنها في أي لحظة أن تحولها من أمة سابتة تابعة مستغَلة إلى أمة ناهضة رائدة محررة. وهو ما يفسر مدى التوجس الذي تعانيه الحضارة الليبرالية، إضافة إلى النهضة الصهيونية، تجاه الأمة العربية والإسلامية.

ومن أهم تلك التهديدات الخارجية، إضافة إلى التبعية والاستعمار، نجد ما يلي:

انعدام العدالة لدى النظام العالمي الذي أنشأه الحلفاء منذ الحرب العالمية الثانية.

تفاقم اتجاه تنميط الكائن البشري عبر مشاريع العولمة العاملة.

تفاقم مشاريع الاستغلال والتقسيم الموجهة للمزيد من التحكم في الأمم الفقيرة.

جموح الشركات العابرة للقارات، وعلى رأسها شركات الخدمات التواصلية الحديثة.

تمادي المؤسسات المالية الدولية في إغراق الأمم في دوامة التبعية المالية والاقتصادية.

في مواجهة تلك العوامل الخارجية يتموقع مبدأ “المقاومة”[17]، باعتباره دفعًا للتحديات الخارجية وتقليصًا لتأثيراتها السلبية عن الذات.

على أن العوامل الخارجية المعيقة، مهما بلغ حجمها، لا يمكنها أن تصمد أمام العوامل الداخلية الدافعة إذا ما تم تفعيلها وتوظيفها. إذ إننا إذا كنا لا نملك أن نوقف إنتاج الغير لأسباب إعاقتنا، فإننا بكل تأكيد نملك أن ننتج أسباب نهضتنا.

إن نقطة انطلاق مشروع النهضة تكمن في تغليب إمكانات الاستنهاض، بما فيها من نقط قوة وفرص خارجية، على تحديات الاحتباس الحضاري، بما فيها من نقط ضعف وتهديدات خارجية.

سادسًا: مداخل الفعل والانطلاق:

ولتحقيق هدف “تغليب إمكانات النهوض على تحديات الاحتباس الحضاري”، هناك مداخل متوازية من الممكن تحققها، لتتكامل الشروط الكامنة في الأمة مع الشروط الممكنة، باعتبار أن الأولى هي متحصلة جاهزة للتفعيل والتنمية، فيم تتمثل الثانية في الأدوات المفعلة لها.

وتتجلى مداخل الفعل والانطلاق فيما يلي:

مدخل صياغة الرسالة – الرؤية:

ما كان للمشروع النهضوي الليبرالي أن يقوم ويتمدد عبر العالم، لولا أن توحد كل مفكري أوروبا، من كافة الأيديولوجيات[18]، على هذه الرسالة والرؤية، وقد كان مفادها: “أوربا تحمل حضارة مدنية، وعليها مسؤولية تحضير بقية الشعوب المتوحشة في كل العالم”.

وهذا من شأنه أن يدفع كل تلك الأطياف الأيديولوجية لإيجاد أرضية مشتركة للفعل في ذات الاتجاه، مهما اختلفت منطلقاتهم، ومواجهة التحديات التي تعترض الأمة الواحدة[19].

ولذلك، فهناك سؤالان يطرحان اليوم على مشروع نهضتنا: هل لدى الحضارة العربية والإسلامية اليوم من رسالة/رؤية تتوحد عليها الأمة بكل أطيافها، من جهة أولى؟ وهل تلك الرسالة/الرؤية يحتاجها العالم لتجيب عن تحديات البشرية فوق الأرض؟

بخصوص سؤال وحدة الرسالة، فيمكن اعتبار مؤشرين اثنين قد يشكلان نواة في اتجاه تجميع طاقات الأمة نحو رؤية/ رسالة جديدة موحدة: إنها الفكرة الغرامشية لمحمد عابد الجابري[20] والتي سماها “الكتلة التاريخية”. إضافة إلى مشروع المؤتمر القومي الإسلامي[21]. مع كل ما طرحناه من انتقاد أعلاه.

وأما بخصوص السؤال الثاني، فإن مفاد اعتقادنا أن أي رسالة تقوم عليها نهضة لها امتدادات عالمية، عليها أن تجيب عن التحديات التي تعيشها البشرية جمعاء، لا تلك التي تعيشها فئة من البشرية.

إن على من يتعاطى مع المشروع النهضوي أن يوقن أن العالم لن يشاطره شعارات من قبيل “إعادة أمجاد الأمة”، أو “الانتصار لعزة الأمة وكرامتها”. وإنما قد يشاطره رسالات مثل “العالم في حاجة إلى نظام عالمي حر وعادل، وعلينا أن نعمل لأجل تحقيقه”، وما يساوق ذلك من هموم وتحديات إنسانية عالمية وملحة[22].

وتتضح موضوعية هذا التوجه إذا ما تأملنا التهديدات التي تتعرض لها الأمة؛ كونها كلها تهديدات مشتركة بين بقية الأمم الفقيرة الأخرى، وليست بالضرورة خاصة بها، وإن كان الضغط عليها أكبر لاعتبارات عديدة.

المدخل المعرفي:

نقصد بالمدخل المعرفي الأساس النظري الذي لا بد أن يبنى عليه مشروع النهضة، بما يعنيه من تجاوز للتوصيفات السياسية الأيديولوجية المباشرة، دون إغفالها، والتي لا تستطيع بأي شكل من الأشكال إقامة تشخيص حقيقي للتاريخ الماضي والحاضر، فضلاً عن تحقيق استشراف للمستقبل. وهو المطب الذي وقعت فيه جل محاولات المنظومة العربية والإسلامية السابقة.

إن أي نهضة مرتقبة جديدة لن تحدث أبدًا دون قاعدة معرفية شاملة ومتراكمة، تقودها عقول مفكرة تشتغل على تعميق منظومة القيم عبر مشاريعها المتخصصة، حيث الجامعات ومراكز البحث والدراسات هي الرافعة الحقيقية لتلك المشاريع. وهو ما دلت عليه كل الوقائع النهضوية الناجحة، للأمم الحديثة: حيث تنبثق ثورات شعبية لمجتمعات، أو إرادات سياسية لحكام، تتبنى المقولات المعرفية مشروعًا سياسيًّا، ثم إنجازًا ماديًّا على الواقع، فتقف النهضة على أرضية فكرية صلبة تمكنها من الاستمرار، بفضل مشاريع مفكريها وجهود شعوبها وعزائم سياسييها[23].

أما حين تتحرك الإرادة السياسية الفوقية، خِلوًا من أي خلفية فكرية، فهي لا تنتج غير الاستبداد[24]. وإذا ما تحركت الثورة الشعبية، بذات الفراغ الفكري، فهي لا تنتج غير الفوضى[25]. فيكون مصيرها الفشل.

المدخل الاستراتيجي:

يطرح المدخل الاستراتيجي ثلاث قضايا: الخريطة الثقافية للأمة، والتبادل المعرفي الداخلي، والكيانات السياسية القاطرة[26].

بخصوص مسألة الخريطة الثقافية، فبالرغم من أن المشروع المقصود هو مشروع أمة واحدة، فإن ذلك لا يعني اختزالها في قالب ثقافي واحد، بل يستلزم النظر إليها بوصفها أقاليم ثقافية متمايزة بقدر من الأقدار، حيث لكل إقليم ثقافي خصوصيته المميزة.

إننا ندين بهذا المفهوم لمالك بن نبي، الذي طرحه في مشروع “كومنويلث إسلامي”، حيث قسم قطاعات العالم الإسلامي إلى خمسة[27]: العربي، والعربي الإسلامي المهاجر، والإيراني الفارسي، والهند-صيني، ثم الماليزي الإندونيسي.

غير أننا نضيف إلى تلك القطاعات الخمسة قطاعين آخرين أهملهما مالك وقتذاك، وهما: القطاع التركماني، والقطاع الأفريقي.

هذه القطاعات السبعة هي المجالات الاستراتيجية للاشتغال ضمن مشروع النهوض. بما يعني أنه على مشروع النهوض أن يتجاوز بالضرورة المنطق القومي العربي الضيق، في الوقت نفسه الذي يتجاوز المنطق الطائفي الإقصائي؛ كي يستحضر، في مقابل ذلك، القارة الحضارية للأمة، بكل أقاليمها الثقافية، بما تعنيه من امتداد جغرافي وتنوع عرقي وديني، واختلاف أيديولوجي ومذهبي.

أما الأمر الاستراتيجي الثاني، وهو التبادل الثقافي الداخلي، فيتعلق بضرورة الوعي بالشرخ والتفاوت الحاصل اليوم بين العالمين العربي وغير العربي داخل الأمة. ففي الوقت الذي تبدو فيه عملية الترجمة أساسية لمواكبة المنتوج المعرفي والعلمي العالمي، فإن هناك حاجة ملحة إلى تكسير الحواجز الداخلية بين أطراف العالم العربي والإسلامي، وذلك بالسعي القوي نحو تحقيق التبادل المعرفي والعلمي والأدبي، والذي ينتجه أبناء الأمة من أقصاها إلى أقصاها.

أما المسألة الاستراتيجية الثالثة، فتتعلق بطبيعة الكيانات السياسية القاطرة لمشروع النهضة. فمثل سائر النهضات الحضارية على مر التاريخ لا تتحقق النهضة إلا ضمن كيان سياسي واجتماعي محدد، مثل ما كان عليه الأمر بالنسبة إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

ونحن الآن إذا أردنا أن نقطر هذه النهضة الجديدة، فسوف يكون لها بالتأكيد كيانات سياسية قاطرة، تجد في المشروع حافظًا لوجودها ومؤمنًا لاستقرارها، ثم ضامنًا لتنميتها. ويجد فيها المشروع (النخبة النهضوية الفاعلة)، من جهته، الدعم اللامشروط لأعماله ومشاريعه.

المدخل العملي: شرارة الإضرام:

وحتى لا تظل أفكار مشروع النهوض مجرد أفكار حالمة، فلا بد أن تحقيق “شرارة الإضرام الضرورية”، وذلك بوضع خطوات عملية للإطلاق، وهي التي يمكن أن نقترحها متمثلة في سبع مراحل، كما يلي:

تتبنى هذا المشروع كفاءات علمية فكرية مستقلة، باعتبار أنه يصلح ليكون أرضية عمل أي إقليم من الأقاليم السبعة. من خلال عقد ندوة عامة أولى.

تعمل تلك الكفاءات إقليميًّا على التكييف الإقليمي لأرضية المشروع إقليميًّا، من خلال لقاءات مباشرة.

تشرع تلك الكفاءات إقليميًّا في إنشاء مراكز دراسة مشروع النهوض، وتأمين أوقاف مدنية مستقلة لتمويله، بالموازاة مع المرحلتين السابقتين.

تعقد تلك المراكز الإقليمية مؤتمرًا إقليميًّا لصياغة مشاريع رؤى متخصصة حسب كل تحد من التحديات الخمسة، وحسب كل ورشة من الورشات موضوع المشروع.

وبإمكان تلك المراكز أن تنسق مع بعضها بعضًا كلما نضجت الشروط لذلك. وذلك بعقد مؤتمر جامع لصياغة مشروع النهوض، وفق حصيلة المؤتمرات الإقليمية المتخصصة.

الشراكة مع المؤسسات التي تقتسم مع المشروع نفس الرؤية والرسالة، والشروع في بناء المؤسسات المتخصصة الداعمة لمشروع النهوض، مع تأمين أوقاف مدنية مستقلة لتمويله.

تعقد المؤسسات المتخصصة مؤتمرها الجامع كل فترة زمنية محددة لتقييم حصيلة أعمالها.

بإمكان مراكز مشاريع النهوض الإقليمية أن تعقد مؤتمرات تنسيقية كل فترة زمنية محددة لمواكبة أعمال المؤسسات المتخصصة وتركيب أعمالها، كلما نضجت شروط ذلك التنسيق.

المدخل المجتمعي:

لا يمكن لمشروع النهوض أن ينتظر انطلاقه في لحظة صفر محددة، بل سيتأتى تدريجيًّا، انسجامًا مع طبيعة حركة التاريخ والحضارة.

لذلك، يكون اشتغال النخبة المثقفة، ضمن المساحات الاجتماعية الواسعة، أمرًا في غاية الأهمية لتحضير البيئة الاجتماعية العامة لحركة نهضوية شاملة، عن طريق تأهيل المنظمات الأهلية المختلفة لتبني قيم النهوض في شتى المجالات، وتشجيع تلك المنظمات لإنتاج مخرجات تلك المفاهيم في شكل مبادرات عملية، وأعمال فنية وأدبية، واختراعات علمية.

على سبيل الختام:

لقد طرحت الورقة/الأرضية عبر محاورها الستة الأساسية إشكالية استمرار التحديات خلال هذا القرن، وما عساها تكون أسباب استمرار تلك التحديات كما هي.

فخلصت إلى أن تلك النتيجة راجعة إلى وجود مجموعة من أوجه القصور في معظم المشاريع النهضوية، والتي مثّل غياب البعد الحضاري عنها أحد الأسباب الأساسية لذلك القصور.

وقد طرحت الورقة مشروع أنموذج تحليلي سمته “أنموذج الهرم الحضاري”، لاعتماد تشخيص حضاري يسعف في وضع مقاربة جديدة لمشروع النهوض. وقد تمت محاولة اختباره من خلال فقرة تاريخية تطبيقية، خرجت بخلاصات تشخيصية لحقيقة لحظة “الاحتباس الحضاري”.

بعد ذلك تساءلت الورقة حول مدى علمية مشروع النهوض في ظل حالة الاحتباس الحضاري، حيث تم الاستشهاد بتجارب المشاريع الحضارية الإنسانية السابقة، التي تؤكد إمكانية النجاح إذا ما توفرت لها شروط الانطلاق والفعل من جديد. لتصل بعد ذلك إلى استعراض مجموعة من العناصر الموجبة للعمل النهضوي، في مقابل عناصر سالبة ينبغي استحضارها. ثم خلصت الورقة إلى اقتراح المداخل الأربعة للفعل والانطلاق، كي لا تظل أفكار مشروع النهوض، مجرد أفكار حالمة وشعارات مرفوعة.

تبقى قضية أخيرة وجب تأكيدها، وهي أن مشروعًا كهذا يتطلب الاشتغال بطول نفس، كما اشتغلت بقية الأمم التي حققت نهوضها[28]. خاصة أن المعطيات الذاتية والخارجية هي ذات طبيعة متحركة باستمرار.


هوامش:

[1]      باحث مغربي، تخصص لسانيات. ومخرج ومنتج للعديد من الأفلام الوثائقية.

[2] للدكتور معن بشور تعريف دقيق للرؤية صاغه في الشكل التالي: فالرؤية هي تقاطع الطموح الذي تطلقه الأحلام والأفكار أو العقائد مع الأوضاع التي يرسمها الواقع بكل شروطه وتفاصيله. ومن هنا تختلف عن الأيديولوجيا”. انظر: مجموعة مؤلفين، نحو مشروع حضاري نهضوي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص 1039.

[3] تأسس الوقف في الحضارة الإسلامية على أساس المبادرة الذاتية للأفراد، والتدبير المدني للأوقاف، حيث يتم احترام شرط الواقف، ويتولى تدبيره من ينتدب مدنيًّا لذلك، فيما يقوم القاضي بوظيفة مراقبة شفافية ذلك التدبير ومحاسبة من يقوم عليه. انظر: السيوطي، أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1967، 2/167. فكان يسمى الجهاز الرقابي على الأوقاف في العهد الأموي (هشام بن عبد الملك) ديوان الأوقاف. ثم في العهد العباسي أصبح يسمى من يشرف على الأوقاف: صدر الوقوف. وظل الأمر في الغالب الأعم على هذا الشكل، حتى جاءت الدولة العثمانية، التي ورثت، في تعاملها مع الوقف، تراث الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، إضافة إلى تراث الإيغور والسلاجقة، فعملت على تأميم الأوقاف، وألحقته بمالية الدولة. وقد تم ذلك منذ عهد الخليفة العثماني الثاني أورخان غازي (1326-1361). (انظر: أوغلو، نعمان ترك. “الوقف العثماني: حضارة واقتصاد”، مجلة حراء، 28 مارس 2018).

[4] يمكن الرجوع في موضوع “نكسة القرن الخامس عشر/ قرن الاحتباس الحضاري” إلى: سكيربك، غنار، ونلز غيلجي، تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة إلى القرن العشرين، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2012، ص 326-327.

[5] ومثال ذلك ما حصل خلال ما سمي “محاكمة المجتهدين” سنة 1896 بسورية. حيث تم اتهام مجموعة من العلماء، وعلى رأسهم جمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار، بتحريض التلاميذ على مراجعة آراء المذهب الحنفي.

[6] يمكن الرجوع إلى مقالة محمد عبده الشهيرة: “إنما يُنهض بالشرق مستبد عادل”، المجلة العثمانية، مايو 1899.

[7]وقد عبر عن ذلك بشكل واضح محمد رشيد رضا في مجلة المنار انطلاقًا من افتتاحية العدد الأول (1898) إلى آخر عدد لها (1935).

[8]                  نقترح مفهوم “القابلية للاستنهاض” في مقابل مفهوم “القابلية للاستعمار”، أملًا في بلورته بشكل أدق في أعمال قادمة، باعتبار أن مالك بن نبي قد اكتشف العامل الداخلي السلبي الذي يجعل الأمة مفتوحة على الاستعمار والتخلف والتجزئة.. وغيرها من الأدواء الحضارية. لكنه نادرًا ما أشار إلى الشروط النقيضة الواجب تحققها. وإن طرحها فعرضًا فعل. ويجدر تأكيد أننا ونحن نروم صياغة مفهوم: “القابلية للاستنهاض” ندين بالفضل إلى مالك بن نبي نفسه، الذي اكتشف تلك العوامل الذاتية للحالة الحضارية والكامنة في العوامل الذاتية سلبًا وإيجابًا.

[9]منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، تم تسجيل أكثر من 32 حضارة إنسانية تركت بصمتها على تاريخ البشرية.

[10] انتكاسات الحضارة الصينية: 2070 ق.م، و160 ق.م، و1046 ق.م، و256 ق.م. وتوقفت سنة 1912.

[11]انتكاسات الحضارة الرومانية: 509 ق.م، و27 ق.م، 476م، وتوقفت سنة 1454.

[12]أطلق مصطلح النهضة في الأصل على المجال الثقافي الفرنسي، وأصله الفرنسي: “Renaissance” وهو مصطلح مركب من جذر: “Naissance”ويعني “الميلاد”، وسابق:“RE” ويعني “الإعادة”. ثم توسع استعماله ليشمل كل ما هو أوروبي غربي المستند إلى خلفية ثقافية يونانية ورومانية لاتينية.

[13]التجارب الحضارية العشرة في منطقة غرب آسيا: السومريون، الفراعنة، الأكاديون، الآشوريون، الفينيقيون، البابليون/الكلدانيون، السلوقيون، البارثيون، الساسانيون، الحضارة الإسلامية.

[14]مثل: الصين، وفنزويلا، والهند وجنوب أفريقيا…

[15]مثل: أتاك الفرنسية (Association pour la Taxation des Transactions financières et pour l’Action Citoyenne) ، وزتجيست الأمريكية(The Zeitgeist Movement) ، وحركة الشعوب الشاملة  (Peoples’ Global Action).

[16]نقصد بالتراث الفاسد كل التراث الذي يتعارض مع منظومة القيم، وهذا التصنيف هو في مقابل صنفين آخرين: التراث الفاعل، وهو التراث الداعم والمنسجم مع منظومة القيم، ثم التراث الميت، وهو التراث الذي لم ينفع ولم يضر، واجتراره عبء ثقيل.

[17]يؤكد الدكتور معن بشور موقع المقاومة في مشروع النهوض فيقول: “والحديث عن المعوقات الخارجية لا يهدف إلى التقليل من عناصر الخلل البنيوي الذي يعصف بواقعنا، كما لا يسعى على الإطلاق إلى الدعوة للانصراف عن معالجة هذا الخلل الداخلي بذريعة مقاومة التدخل الخارجي… ومن ثمّ يجب أن يكون حافزًا لكي تقترن إرادة النهوض بإرادة المقاومة لكل احتلال”. انظر: مجموعة مؤلفين، نحو مشروع نهضوي…، مصدر سابق، ص 1045.

[18]ومثال ذلك: موافقة المادي الجدلي كارل ماركس، مثلًا، أستاذه المثالي الجدلي جورج هيجل، في دعمه التوسع الأوروبي، انظر: رسائل هيجل لصديقه نيتهامر، حيث يعتبر نابليون هو روح العالم:

Revue HEGEL en toutes lettres n° 7. La version electronique : https://bit.ly/2KxA4tP

وانظر المقالة الشهيرة لكارل ماركس سنة 1853: “الحكم البريطاني في الهند”، حيث يشيد فيها بالتقدم البريطاني في الهند وعملية التحديث التي تجريها:

Marx, Karl. “The Future Results of British Rule in India.” New-York Daily Tribune, August 8, 1853; reprinted in the New-York Semi-Weekly Tribune, No. 856, August 9, 1853. MECW Volume 12, p. 217. Electronic version: https://bit.ly/37fwSfZ

وللتنويه فقط، لا يهمنا من إيراد هذه الأمثلة الجانب الأخلاقي للمواقف، بقدر ما تهمنا تأكيد حصول نوع من التوافق التام بين كل الأطياف الفلسفية حول رسالة ورؤية الحضارة التي انتمى كل منهم إليها.

[19]لقد عمل كل من الوضعي أوغست كونت، وهو ملحد من أصول مسيحية، مع الوظيفي إيميل دوركهايم، وهو ملحد من أصول يهودية، عمل كلاهما على مشروع إنقاذ الحضارة الأوربية من “الاضطرابات الاجتماعية الناتجة من التصنيع المفاجئ”، حينما غزت القيم الفردانية المجتمع الغربي، فهددته بالتفكك والانهيار خلال سنوات معدودة.. فما كان منهما إلا أن بحثا، كل على حدة، في العمق الثقافي للمجتمع الأوروبي، فأعادا الاعتبار لمجموعة من المقولات الإنجيلية التي تعلي من شأن الأسرة. وإليهما يرجع علماء الاجتماع الغربيون فضل إعادة التوازن للمجتمع الغربي بعد ذلك إلى اليوم. فطورا مفهوم (le consensus Social) (الاتفاق الاجتماعي). انظر:

Comte, Auguste. Cours de philosophie positive. La Gaya Scienza, décembre 2012. Collection dirigée par Laurence Hansen-Løve. Edition numérique : Pierre Hidalgo :

http://www.ac-grenoble.fr/PhiloSophie/old2/file/comte_khodoss.pdf

[20]أول ما طرح محمد عابد الجابري فكرة الكتلة التاريخية كان بمجلة المستقبل العربي، عدد نوفمبر 1982. بناء على ما كان قد طرحه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لمعالجة النهضة الإيطالية.

[21]فكرة المؤتمر القومي الإسلامي جاءت تفعيلًا للتوجه التقريبي بين الأطياف الأيديولوجية، وقد قاد هذه العملية مركز دراسات الوحدة العربية، الذي عقد مؤتمرًا أولاً لهذا الكيان الجديد بالقاهرة عام1989.

[22]هذا المشروع المعرفي هو فلسفي بامتياز، لذلك يمكن الاشتغال فيه بمعية العديد من الفلاسفة المعاصرين والمحدثين على مشاريع إنسانية ملحة، أمثال فريديريك نيتشه وإدموند هوسرل وبرتراند راسل ومارتن هايديجر وجاك دريدا. ومن تلك القضايا ما يطرح عليه سؤال القيم (التحكم في الجموح) – سؤال الغايات (المعنى) – سؤال المآلات (السوق الكونية – مصير البيئة العالمية).

[23]ومثال ذلك نجد النهضة الليبرالية الأوروبية وثوراتها الحقوقية خلال القرون 17 و18 و19، فإننا حين نتحدث عنها نستحضر معها هامات فكرية كبيرة: فقد ارتبطت ثورة بريطانيا (1618) مثلا بكل من ديكارت (1599-1650)، وهوبز (1588-1679). كما ارتبطت ثورة فرنسا (1789) بكل من مونتسكيو (1689-1755) وروسو (1712 – 1778) وفيورباخ (1804-1872). أما ثورة ألمانيا (1848) فقد ارتبطت بهيجل (1770-1831) وماركس (-1818 1883).

[24] ومثال ذلك نجد مثالين: التنموية المصرية (1815) مثلًا، حيث نستحضر السلطان محمد علي باشا (1805-1848). إضافة إلى النهضة التحررية المصرية (1952)، حيث لا نعدو ذكر الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970).

[25]ومثال ذلك نجد مثالين: ثورة الشريف حسين (1908-1917) الذي قاد “الثورة العربية الكبرى” (1916). إضافة إلى انتفاضات 2011 التي تسمى “الربيع العربي” (2011)، حيث غاب المفكر والسياسي كلاهما.

[26]مفهوم “الكيانات القاطرة” يتقاطع مع مفهوم “الإقليم القاعدة” في الفكر القومي العربي خلال الستينيات، ومفهوم “الإقليم الثوري” في الفكر الماركسي خلال الستينيات والسبعينيات.

[27]ابن نبي، مالك، فكرة كومنويلث إسلامي (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني)، دمشق: دار الفكر، 2017، ص 977.

[28]إن تتبع مسارات تطور المشروع النهضوي الليبرالي الأوربي، يبين المدى الزمني الذي يتطلبه المشروع الحضاري للتأسيس والانطلاق في ظل التحديات الذاتية والموضوعية المعقدة. فخلال ثمانية قرون تطورت النهضة الأوروبية: فحركة الترجمة انطلقت منذ ق12، ليفسح المجال أمام قرني 13 و14 الاكتشافات الجغرافية، وبعد ذلك سيحل قرن الثورة الصناعية، أما القرنان 16 و17 فقد كانا قرني الثورة العلمية. ثم جاءت الثورة السياسية والحقوقية بعد ذلك. لتصل أوروبا مع القرن 19 لبداية قيادة العالم.

ماهر الملاخ

ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى