القدس.. منصة الشهود: من التمكين الرمزي إلى الاحتباس الحضاري (2/4)
(في دلالات الطوفان وواجبات الأمة)
بقلم: ماهر الملاخ
هذا هو المقال الثاني ضمن سلسلة رباعية، تحاول إعاد قراءة السيرة والتاريخ، على ضوء السابع من أكتوبر، في إطار منظور ترابط البيت الحرام بالمسجد الأقصى، باعتبار الأول مثابة الإيمان، والثاني منصة الشهود. ويتضمن هذا المقال ثمانية محاور مترابطة.
مدخل: من المثابة إلى المنصة… حين تتهيأ الأمة للشهادة:

إذا كانت مكة هي المثابة، فذلك لأنها هي الموضع الذي تُبنى فيه العقيدة، وتُصاغ فيه النواة الروحية الأولى. أما القدس، فإنها المرحلة التالية في هندسة الرسالة: إنها “منصة الشهود”، حيث يُعلَن الإيمان، ويُشهَد به، ويُختبر في ساحات العالم. إن وظيفة الأمة الإسلامية، كما عبّر عنها القرآن، ليست فقط العبادة، بل الشهادة: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143)
وهنا، تظهر القدس باعتبارها منصة عالمية لهذه الشهادة، حيث إنها موقع انطلاق، لا انغلاق، ومركز إشعاع، لا حصار، وساحة وعي، لا ساحة امتلاك.
فبينما مكة تشكّل قطب التكوين العقدي، فإن القدس تمثل اختبار الترجمة الحضارية لهذا الإيمان، و”فضاء الخطاب” الذي تُواجه فيه الرسالة بمسؤولية التبليغ، والأمانة، والنموذج الأخلاقي.
ولهذا، لم يكن اختيار القدس في الإسراء مجرد اختيار مكاني، بل بيانًا رمزيًا مباشرا، كون الرسالة التي انطلقت من مكة لا تكتمل إلا إذا نطقت من على منصة القدس، حيث يلتقي الوحي بالأرض، والنبوة بالتاريخ، والشهادة بالممارسة.
فحين تتحول الأمة من التلقي إلى البلاغ، ومن التمثل إلى التمثيل، تحتاج إلى “منصة” تحمل هذا المعنى… والقدس، منذ فجر الرسالات، كانت هي تلك المنصة.
إنها مسجد التلاقي، وفضاء التوريث، ومحراب التأكيد على أن الرسالة واحدة، وأن الأمة المكلَّفة بها مطالَبة بأن تُشهد العالم على عدلها، لا أن تنكفئ على تحفّظها.
المحور الأول: المدخل التأصيلي: من المثابة إلى المنصة – تأصيل المفهوم ووظيفة الشهود:
إذا كانت “المثابة”، تشير إلى مركز الجاذبية الروحية، التي تعيد تشكيل الإيمان داخل كيان الفرد والجماعة، فإن “المنصة” تشير إلى الفضاء الذي تُعلن فيه هذه الرسالة، ويُشهَد بها على العالم. هي لحظة الانتقال من الانتماء الداخلي إلى الفاعلية الخارجية.
- الشهود في القرآن: وظيفة الأمة في التاريخ:
فبمقتضى قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143)، يرتقي القرآن بوظيفة الأمة من كونها أمة متعبّدة فقط، إلى كونها أمة مُمثِّلة للرسالة، شاهدة على سلوك الأمم، وأمانةً على مقاييس العدل. فالشهود ليس ادّعاء، بل موقفٌ حضاري نابع من التزكية، والبلاغ، والقدرة على تمثيل الميزان الإلهي بين الناس.
ويكمن الفرق بين المثابة والمنصة في كون المثابة يُعاد بها تشكيل الإيمان، وتُجدد البيعة، ويترسخ التوحيد. وأما المنصة فيعلن منها ذاك الإيمان، ويُختبَر في علاقته بالعالم، ويظهر أثره في الفعل الحضاري. وبمعنى آخر: إذا كانت مكة تُخرّج الإنسان المؤمن، فإن القدس تُطالب هذا الإنسان بأن يشهد على الناس.
ولهذا، لم يكن الإسراء إلى القدس فقط تمهيدًا للمعراج، بل كان تثبيتًا رمزيًا لوظيفة الشهود، من قلب المدينة التي شهدت الرسالات جميعًا، لتستأنف الأمة دورها، باعتبارها مؤتمنة على العهد الرسالي المتجدد.
- المنصة بين التاريخ والوظيفة: لماذا القدس تحديدًا؟
لم تكن القدس أول قبلة فحسب، بل كانت – تاريخيًا – هي الفضاء الروحي والسياسي للتوحيد الإبراهيمي. فيها اجتمع أنبياء بني إسرائيل، وعليها تعاقبت الرسالات، وفيها استشهد الأنبياء والمصلحون، وفيها تم تحريف الوحي والتلاعب بكلماته.
ولأن الشهادة الحقيقية لا تكون إلا بعد معرفة الواقع ووراثة تاريخه، فقد كانت القدس منصة المواجهة الكبرى بين الحق والباطل، في أكثر صورها تركيبًا وتحديًا.
- الشهود وظيفة لا تتم إلا ببنية كاملة:
فكما أن التوحيد لا يتحقق إلا بمثابة تهوي إليها الأفئدة، فكذلك لا يتحقق الشهود إلا بـرسالة واضحة ووعي تاريخي، ومنصة جغرافية حقيقية، وقدرة على إقامة العدل وتحقيق النموذج.
ولذلك، فإن القدس قد سُمّيت “مقدسة” لأنها نقطة التوازن بين الأرض والتاريخ، ولحظة التحقق بين الرسالة والواقع.. إذ لا معنى للشهادة إن لم يُعلَن عنها من فوق هذه المنصة.
المحور الثاني: القدس في القرآن: بالرسالة يصبح للأرض معنى وقدسية:
لم يَرد اسم “القدس” صراحة في القرآن، لكن حضورها الرمزي والموقعي واضح، من خلال تعابير مثل “الأرض المقدسة”، و”المسجد الأقصى”، و”الأرض التي باركنا فيها”. وهذا الحضور ليس وصفًا جغرافيًا، بل تثبيت لوظيفة الرسالة في بعدها التاريخي والحضاري.
فالقرآن لا يتحدث عن الأماكن إلا حين ترتبط بـالوظيفة التوحيدية أو التجربة الرسالية، ولهذا فإن ذكر القدس في سياق الرسالات السابقة، وفي موقع الإسراء، يؤسس لوظيفتها بوصفها “منصة الشهود” التي تُختبر فيها الأمة، وتُحدَّد فيها مصداقية حملها للرسالة.
- “الأرض المقدسة”: استحقاق مشروط لا امتياز موروث:
ففي قوله تعالى على لسان موسى (1250 ق.م) لبني إسرائيل: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (المائدة: 21) تظهر القدس كأرضٍ ليست ملكًا أبديًا لقوم، بل وعدًا إلهيًا مشروطًا بالإيمان والطاعة.
ف“كتبها الله لكم” لا تعني كتابة تملك، بل كتابة دخول للقيام بواجب الشهود. لكن بعجزهم عن الدخول بقولهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة: 24)، فقد سقط الوعد من جهة الله، و سحب من ذلك الجيل الذي خاطبه الترشيح للشهود، فدخل مرحلة التيه، بمقتضى قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 26)
- أربعون سنة: عقاب لجيل الهزيمة بالتيه واستبدال بالجيل الجديد بالتكليف:
خلال أربعين سنة تاه في الصحراء وانقضى جيل النكوص عن الشهادة، وهو جيل العبيد الذين خرجوا مع موسى من مصر، وشهدوا المعجزات الكبرى (شق البحر والطور والمَنّ والسلوى…)،فاستبدله الله بجيل جديد، وُلد في الصحراء، لم يعرف الذلّ ولا حياة العبودية في مصر، ونشأ في شظف العيش والاعتماد على الله، فكان أصلب عودًا وأشدّ استعدادًا لتحمل أمانة الشهود. ومع أن النبي موسى عليه السلام قد توفي قبيل انقضاء تلك المرحلة، عند مشارف القدس من جهة الأردن، كما في الحديث الصحيح (البخاري ومسلم): “لو كنت ثمَّ لأريتكم قبره، عند الكثيب الأحمر.”، فقد استطاع خليفته النبي يوشع بن نون (1170ق.م)، وهو الذ تكفل بتربيته موسى عليه السلام، دخول القدس عن طريق أريحا من جهة الأردن، حوالي سنة 1200 قبل الميلاد. وفي عهده، تحقق الوعد الإلهي بالتمكين لهم، بعد أن أصبحوا مستعدين لتحقيق واجب الشهود من منصة القدس.
- حكم القدس ليس بالضرورة شهودا:
غير أنهم قد فقدوا القدس بعد ذلك مرتين لنفس الأسباب التي منعتهم من الدخول إليها أول مرة:
فبعد مرحلة الملوك والانبياء (1120ق.م-922ق.م)، ومن ضمنهم داوود وسليمان، انقسموا إلى مملكتين: مملكة إسرائيل (في الشمال، عاصمتها السامرة)، ومملكة يهوذا (في الجنوب، عاصمتها القدس). فانتشر من جديد الشرك والفساد، وعبادة الأصنام، ورفض دعوات الأنبياء، وقتل بعضهم. فجاء نبوخذ نصرالكلداني البابلي(586 ق.م)، فدخل القدس، ودمر المدينة والهيكل، وسبى كثيرًا من بني إسرائيل إلى بابل.
ثم سمح لهم الفرس لاحقًا بالعودة وبناء الهيكل، أُعيد إحياء بعض مظاهر الحكم تحت هيمنة خارجية (الفرس، ثم اليونان، ثم الرومان). لكنهم عادوا للفساد ورفض الرسالات، وختموا ذلك برفضهم لرسالة عيسى عليه السلام ومحاولة قتله، ثم التحالف مع القوى الرومانية ضد الإصلاحيين من شعبهم.
فجاءهم القائد الروماني تيطس (70 م)، الذي حاصر القدس وهدم الهيكل الثاني بالكامل، ودمّر المدينة، وشتّت بني إسرائيل في أصقاع الأرض (ما يُعرف بـ”الشتات”). ومنذ ذلك الحين لم تقم لهم دولة في القدس حتى القرن العشرين.
- القراءة المثابية-الشهودية لتاريخ اليهود مع القدس:
يمكن أن نقسم تاريخ اليهود بالقدس إلى ست مراحل:
- مرحلة الوعد التربوي (ما قبل الدخول)، موسى عليه السلام لم يُمنح دخول الأرض المقدسة، لأن الجيل الذي خرج معه من مصر خان المثابة الإيمانية: خافوا من الجبارين. وقالوا: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾. وبذلك حُرّمت عليهم الأرض المقدسة أربعين سنة. فمن لا يُكوِّن إيمانه على الصبر والثقة بالله، لا يستحق المنصة. إذ لا يُسمح لجيل مفرّط في العقيدة أن يصعد إلى مقام الشهادة أمام الناس.
- مرحلة الدخول بقيادة يوشع – بداية الارتقاء الشهودي: فمع يوشع بن نون، وبعد موت جيل التيه، دخلوا الأرض المقدسة. وبدا وكأنهم استكملوا شروط المثابة: جيل جديد، عقيدة أنقى، وقيادة نبوية. وهنا مُكِّن لهم في الأرض، وبدأت أول تجربة تمكين رسالي في القدس. لكنهم لم يُثبتوا طويلًا… لأن المثابة لم تُترسّخ، والمنصة لم تُحترم.
- عهد داوود وسليمان – لحظة التوازن النادر: في هذا العهد، اجتمع الإيمان التوحيدي الصافي (مثابة)، والتمكين السياسي والأخلاقي في القدس (منصة)، وأُقيم العدل، وتم بناء الهيكل، وكانت القدس منارة نور. وبذلك نستنتج أنه حين تستقيم المثابة، تُستحق المنصة. وهذا هو المعيار القرآني في قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا… لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124).
- مرحلة الانقسام والفساد – نزع المنصة: بعد سليمان، انقسمت المملكة وتنازع الملوك والكهنة. فُقِد التوحيد، وظهرت الوثنية. وقتلوا الأنبياء، وعبدوا العجل، وأفسدوا في الأرض. فكانت النتيجة أن سُحبت منهم القدس أولًا على يد نبوخذ نصر (586 ق.م)، ثم على يد تيطس الروماني (70 م)، فانتهت منصة الشهادة، لأن المثابة قد خُرّبت من داخلهم.
- ما بعد السقوط – الشتات وفقدان الشرعية: بعد السقوط الثاني، دخلوا في مرحلة الشتات، دون مثابة تؤويهم، ولا منصة تمثلهم. وظلوا يُطالبون بالقدس، لكنهم لم يتوبوا، ولا عادوا لعهد الإيمان، بل بنوا عودتهم لاحقًا على: التزوير الديني، والدعم الإمبريالي، والعنف الاستيطاني. وهكذا، نستنتج أن من عاد للمنصة بغير تكليف إلهي، وبدون تثبيت للمثابة، لا يحمل الرسالة، بل يغتصبها.
- قيام الكيان الصهيوني – منصة بلا مثابة: لقد تأسست “إسرائيل” سنة 1948 كدولة بلا شرعية روحية، ولا وفاء للعهد التوحيدي. فالقدس صارت عندهم مشروعًا قوميًا، لا ميدانًا للبلاغ الرباني. وكل محاولة لإعادة بناء الهيكل، هي محاولة لإحياء منصة بلا مثابة. ولذلك، لم تُقنع روايتهم العالم، ولا استقرت دولتهم رغم القوة، لأنهم لا يحملون الرسالة، بل يحتكرون الموقع.
وهكذا نستنتج أن من لا يُثبت الإيمان في قلبه (المثابة)، لا يصعد إلى منصة الشهادة، ومن اعتلى المنصة زورًا، سيسقط منها ولو بعد حين.
- “المسجد الأقصى”: الحلقة الكونية بين المثابة والمنصة:
في آية الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ (الإسراء: 1) نجد القدس وقد تم ربطها مباشرة بمكة في لحظة مفصلية من تاريخ النبوة. إذ لم يكن الإسراء رحلةً ليلية عابرة، بل كان إعلانًا رمزيًا بأن انتقال النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، يعني انتقال وظيفة الشهادة من بني إسرائيل إلى الأمة الجديدة. ولهذا كانت صلاة النبي إمامًا بالأنبياء هناك، إعلانًا أن الأمانة انتقلت، والمنصة ستتبدل.
لا يشير القرآن إلى القدس كمدينة فقط، بل كحقل رسالي مبارك. فـ”المسجد الأقصى” ليس نقطة معمارية فقط، بل حلقة من حلقات البركة الممتدة في المكان والزمان. وقد أشار الله إلى “الأرض التي باركنا فيها للعالمين” (الأنبياء: 71) – في سياق الحديث عن إبراهيم ولوط – مما يجعل فلسطين عموماً، والقدس خصوصًا، أرض رسالات واختبارات حضارية.
وهكذ نستنتج أن القدس ليست هبة قومية بل استحقاق رسالي. وأنها قد سُلبت من بني إسرائيل حين خانوا عهد الشهود. وأنه قد أُعيد ربطها بالأمة الإسلامية ليلة الإسراء. وأنها ستبقى أرض امتحان، ومنصة من يُمنَح التكليف أو يُسحب منه.
المحور الثالث: القدس في السيرة النبوية: وجهة الإسراء ومعراج الرسالة:
كان القطب الثاني الذي يوجه اختيارات النبي عليه الصلاة والسلام، هو القدس منصة الشهود، ويظهر ذلك في العديد من المحطات التاريخية في فترة السيرة النبوية، وأهمها ما يلي:
كان نزول سورة الروم في عام 613م تقريبًا، في أعقاب هزيمة الروم أمام الفرس وسقوط القدس، كان أول توجيه رباني ضمني يُثبّت مكانة القدس، ويُدخلها في الوعي النبوي والقرآني المبكر قبل الهجرة بقرابة 10 سنوات.
- سورة الروم أول توجيه رباني نحو القدس (10 ق.ه/610م):
إذ في سنة 613م، وقعت معركة كبيرة قرب أذرعات (حوران – جنوب الشام)، سُمّيت بـ”معركة أذرعات”، حيث انهزم فيها الروم البيزنطيون أمام انهزموا أمام الفرس الساسانيين. فسقطت القدس في أيدي الفرس، بمساندة من اليهود، الذين كانوا يطمعون في الثأر من الرومان بعد اضطهادهم الطويل. وقد حمل نزول سورة الروم في ذلك الظرف رسالة حضارية–إيمانية مبكرة، كون هذا الحدث مفصلي في مآلات الصراع العالمي. وأن المسلمين يُدعَون إلى قراءة التاريخ من علٍ، لا من موقع الهامش. وأن بيت المقدس صار جزءًا من مشهد البلاغ النبوي، قبل أن يصل النبي إلى المدينة.
ولم يكن الاستبشار بنصر الله، بالضرورة، لكون الروم هم أهل كتاب، إذ كان في الطرف الآخر أهل كتاب آخرون (أليهود)، كونهم هم من أوعز ودعّم الفرس لأجل الاستيلاء على القدس، ولكن لكون مشعل منصة الشهود ينبغي أن يُسلّم إلى الدين التوحيدي الجديد/الإسلام، من ممثل الدين التوحيدي السابق (النصرانية)، والذي سيحتفظ بمشعل المنصة 12 سنة، قبل تسليمها. وهكذا، يصبح سقوط القدس في يد الفرس، أول تنبيه تاريخي للرسالة المحمدية من أجل الاستعداد لمرحلة الشهود: فالمنصة القديمة تنهار، وعلى الأمة الجديدة أن تستعد لحمل الشهادة من جديد.
لقد كان وقوع الحدث في بداية الدعوة، رابطا بين التحولات السياسية في بيت المقدس، وبدايات التكوين الإيماني في مكة. ومن الملفت أن تحقق نبوءة انتصار الروم على الفرس بعد ذلك، واستردادهم للقدس سنة 624م، لم يواكبه أي احتفاء قرآني ولا نبوي، إذ إن الأمر لم يكن يتعلق بحجاج لإثبات صدق النبوءة، ولكن كان متعلقا بالدعوة للاستعداد لتحمل مشعل الشهود الحضاري، وهو ما تم في حينه.
- مشهد الإسراء: تسليم مشعل الشهود في محراب الأقصى (620م):
بعد انتصار الفرس على الروم بسبع سنين، وقبل الهجرة إلى المدينة المنورة بسنتين، سوف يصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في المسجد الأقصى، ضمن معجزة الإسراء. لقد كان ذلك المشهد تجسيدا رمزيا قويا لانتقال مشعل الشهود الحضاري من بقية الأنبياء السابقين إلى هذا النبي الخاتم. وكان المشهد أشبه بـ”تسليم أمانة النبوّات” من كل الأنبياء إلى خاتمهم، بعد ما يقارب 15 ألف سنة، منذ بداية أول رسالة. في مشهد جامع للصلاة، فوق أرض القدس. ولذلك استدعى المشهد المهيب تسبيحا لله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا…﴾. لقد جاءت هذه الرحلة الربانية لتربط بين مركزية الوحي (مكة) ومركزية الشهود (القدس)، وتؤسس هندسة الرسالة على قطبين لا ينفصلان. حينها أصبحت قبلت الصلاة هي المسجد الحرام، وظلت كذلك مدة من ستة عشر شهرًا، كما رواه البخاري في حديث البراء بن عازب: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا.”.
والجدير بالذكر، أن النبي حين أُسري به لمدينة القدس، كانت المدينة واقعة تحت الإدراة اليهودية، كون اليهود قد حصلوا على مكافأة تسيير محلي للمدينة، جزاء تمويلهم للحرب على الروم. وهذا مما يفسر توجه الخطاب في سورة الإسراء لبني إسرائيل لا لغيرهم. ومن البليغ حقا، من جهة أخرى، كون التحول الجديد للصلاة نحو الكعبة، قد تم في السنة الثانية للهجرة، وهي السنة التي ستشهد، داخليا، الانتصار الأول للمسلمين في معركة بدر، وخارجيا، الانتصار الأول للروم على الفرس في معركة أراكس بأذربيجان، سنة 624م، والذي كان ممهدا لدخولهم القدس بعد ست سنين. ولذلك لم يكن تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، لاحقًا، نفيًا لقدسية بيت المقدس، بل تثبيتا لمثابة الإيمان، بعد أن أصبحت منصة الشهود في يد من سوف يسلمونها أمانة بعد 12 سنة.
- التمدد الهادئ نحو الشام: سرايا الاستكشاف شمالًا (2–5 هـ):
رغم أن سريتي بواط وصفوان في السنة الثانية للهجرة، غالباً ما تُفسَّران، في السرد التاريخي التقليدي، على أنهما محاولات لقطع طريق تجارة قريش، إلا أنهما قد مثلتا حقيقة إجراء ميدانيا لاستكشاف وتأمين الطريق باتجاه الشام، مما يدل على بعج النظرة النبوية المستقبلية نحو تلك المنطقة الحيوية. إذ بدأت طلائع المسلمين تتجه شمالًا، نحو الشام، حيث بدأت أسوار مدينة القدس تترنح للسقوط بين يدي هرقل البيزنطي.
استمر هذا التوجه الاستراتيجي بتأمين مسارات الحركة نحو الشمال، حيث أُبرمت معاهدة مع قبيلة ضمرة في السنة الثانية للهجرة، والتي كان من نتائجها تأمين المسار الغربي المؤدي من المدينة المنورة نحو الشمال والشام والقدس. وفي نفس السياق التمهيدي، كانت سرية ذي مروة التي خرجت لنفس الغرض، وهو استكشاف وتأمين الطرق الشمالية. وتصاعد هذا التحرك التدريجي مع غزوة دومة الجندل في السنة الخامسة للهجرة، التي وقعت في منطقة تقع إلى الشمال الغربي من المدينة المنورة، ما يعني اقتراب المسلمين جغرافياً وسياسياً وعسكرياً أكثر من منطقة الشام.
ثم أُرسل النبي عليه السلام سرايا استكشافية نحو دومة الجندل (عبد الرحمن بن عوف س 6 هجرية).
- صلح الحديبية واستراتيجية ما بعد الحياد (6–7 هـ):
كان صلح الحديبية ينص على ست سنين، غير أنه لم يدم غير سنتين. خلالهما حيّد النبي عليه السلام خطر بني قريظة من قلعة خيبر، وتابع استراتيجية الاستكشاف للخط الشمالي الغربي و الشمالي، وذلك عبر إرسال السرايا، مثل سرية وادي القرى (زيد بن حارثة س6 هجرية، ثم أبو بكر الصديق س 7 هجرية)، وسرية خيبر (عبد الله بن رواحة س 7 هجرية)، في خطوات بدت عسكرية، لكنها كانت في جوهرها تحركًا استراتيجيًا لاستطلاع مجال القدس وتمهيد الطريق إليها.
خلال نفس الفترة توجه النبي بمخاطبة هرقل-نداءٌ إلى حاكم القدس (7 هـ / 628 م ليحقق الاشتباك الدبلوماسي والرمزي مع القوة العظمى التي تسيطر على المنطقة في ذلك الوقت، الروم. ولتمثّل تلك المراسلة أول تواصل مباشر على مستوى القادة، مما يعتبر “اشتباكاً رمزياً” مع القوة المهيمنة على الشام والقدس، وهو مؤشر على دخول هذه المنطقة في دائرة الاهتمام النبوي المباشر على المستوى العالمي. فدعا النبي هرقل، وهو يستعد لدخول القدس، بعبارات قوية جامعة: “أسلِم تسلَم، يؤتك الله أجرك مرتين… فإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسيين.”. ولم تكن الرسالة دعوة فردية، بل كانت إعلانًا عالميًا أن الشام – والقدس في قلبها – يجب أن تتحرر من سلطة الأباطرة وتخضع لسلطان التوحيد.
- غزوة مؤتة: كسر هيبة الروم على تخوم القدس (8 هـ):
هذا التشابك الدبلوماسي، سيتحول خلال نفس السنة، ومباشرة بعد دخول هرقل للقدس، إلى اشتباك عسكري تمهيدي، فكانت غزوة مؤتة أول مواجهة مع الحامية الرومانية (8 هـ / 629 م، في منطقة الكرك (البلقاء بالأردن)ً، وكانت، من جهة، لتكسير كبرياء الروم بعد دخول القدس، وتأكيداعمليا على أن وجهة المسلمين ستكون هي الشمال الشرقي (القدس). فكان هذا الحدث منعطفًا تاريخيًا، إذ كسرت فيه الرسالة حاجز الهيبة مع أقوى إمبراطوريات الأرض، ودخلت عمليًا مجال القدس السياسي والعسكري.
- غزوة حنين: اختبار التوازن بين المثابة والمنصة (8 هـ):
ومباشرة بعد فتح مكة، ستعرض المسلمون لهزة عميقة: ففي الوقت الذي قرر فيه النبي للحسم مع آخر وأكبر القبائل التي تهدد مثابة الإيمان، وهما قبيلتا هوازن وثقيف، بغزوة حنين جنوب مكة، تجلت في اختلال التوازن الإيماني، حيث مال معظم المسلمين إلى الاعتبار الكمي على حساب الكيفي، فظنوا أن قوتهم في كثرتهم. فعوقبوا بالتهديد بالهزيمة الشنعاء، حيث وقع أكثر من 12 ألفا من المسلمين (منهم ألفين من الطلقاء) في كمين محكم بوادي حنين الضيق، فنهزم معظمهم، وحينها نادى النبي صلى الله عليه وسلم بصوته الشريف: “يا أنصار الله، يا أصحاب بيعة الرضوان، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.” فقلب ذلك النداء احتمال الهزيمة إلى نصر.
- تأمين مسار الشهود عبر التحالفات الشمالية (8 -9هـ):
بعد ذلك، وخلال هذه السنة، وقّع النبي عليه السلام تحالفات تكتيكية مع مجموعة من القبائل الشمالية، لدعم تأمين الخط الاستراتيجي نحو منصة الشهود (المدينة-القدس): فكانت معاهدة أذرع الأولى (غرب معان) لتأمين مسار المسلمين وتقديم الحماية والإيواء لهم عند الحاجة، ومعاهدة ماجنا (جنوب العقبة) لتقديم ربع ما ينتجونه من الزراعة أو تصنيع الأسلحة للمسلمين، ومعاهدة أخرى مع أهل أذرع حيث أعطاهم النبي، بموجبها، الأمان لأهلهم وأرضهم، ثم أقطع تميما الداري منطقة جبرون (الخليل) وبعض نواحيها من أرض الشام، مثل بيت عينون وحبرى وبيت إبراهيم، تكليفا له بتأمين تلك المنطقة، وهي بعدُ لم تصبح تحت نفوذ المسلمين، وما كان ذلك إلا لكون تميم الداري له أصول نصرانية شامية، وله معرفة جيدة بأرض القدس، حيث سيصبح هو وذريته من بعده، من حماة الحرم الإبراهيمي وأوقافه إلى يومنا هذا، وهم الذين يعرفون اليوم ب”آل داري”.
وبعدها بسنة واحدة، سيكون الالتحام العسكري الأكبر مع الروم، حكام القدس، في غزوة تبوك، وذلك لأجل بسط الهيبة على تخوم القدس (9 هـ / 630 م). فقد قاد النبي بنفسه، هذه المرة، جيشًا من ثلاثين ألفًا إلى تبوك (أقصى شمال الحجاز جنوب الأردن)، وعمره ستون سنة هجرية. فانسحب الروم دون قتال، وتراجعت الحاميات التابعة لهم. فكانت غزوة تبوك أكبر إعلان رمزي بأن مشروع الرسالة لم يعد إقليميًا، بل بات على أبواب القدس، وأن الهيمنة الدينية للروم بدأت في التصدع.
- وديعة النبي إنفاذ بعث أسامة لبلوغ منصة الشهود(11 هـ/632م):
كان جيش أسامة وديعة النبي صلى الله عليه وسلم: ففي اللحظات الأخيرة من حياته، أعدّ النبي جيشًا بقيادة أسامة بن زيد، ووجّهه شمالًا إلى البلقاء وفلسطين، حيث وصل إلى تقع القدس في مرمى البصر.
لحظة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان جيش أسامة متأهبا في منطقة الجرف (3 كيلومترات شمال المدينة)،
د وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه في معسكر الجُرف، شمال المدينة المنورة، على بُعد حوالي 3 كيلومترات منها. وبعد تقريبا 20 يوما من وفاته عليه السلام تحرك الجيش إنفاذا للأمر النبوي. وتمكن جيش أسامة من الوصول إلى تخوم غزة عند منطقة الداروم وأذروعات في حوران والبلقاء والكرك وتخوم القدس مثل بيت جبرين وعمواس. وكانت الحاميات الزومانية إما تنسحب من مواقعها أو تتحصن في قلعاتها تفاديا لأي مواجهة. مما حقق للمسلمين أهدافا متعددة: أولها أنه أعطى رسالة للداخل والخارج أن أمة محمد مستمرة في تحقيق نهج نبيها، كما أن تحرك الجيش نحو الشمال كان قد أمن، دون تخطيط ظهر المسلمين في المدينة بعد أن تحركت القبائل المتمردة على أبي بكر. إضافة إلى تحقيق الضغط على الغساسنة الموالون للروم.
وبذلك كله، تم تثبيت معنى الشهود في وجدان الصحابة: فرغم أن النبي لم يدخل القدس بجسده، فقد دخلها برسالته وخطته. وترك خلفه تحالفات ممتدة شمالًا، وشبكة ولاءات تنهك العمق الرومي، وإرادة جامعة عند الصحابة، أن القدس هي الاستحقاق التالي بعد تحرير مكة. ولم تمر سوى ثلاث سنوات، حتى دخلها عمر بن الخطاب، فاتحًا لا غازيًا، مستلمًا مفاتيحها من بطريركها، محررًا إياها لا باسم الدولة، بل باسم العدل والتوحيد. فلم تكن القدس، في المشروع النبوي، مجرد هدف سياسي، بل كانت القبلة الأولى، التي وُجّهت إليها الصلاة قبل أن تُحوّل إلى مكة، ومسرى النبي، ومركز استلام الشرعية من سلسلة النبوة. ثم كانت منصة الشهود، حيث تلتقي الرسالة بالخاتمة، والعقيدة بالحضارة، والأرض بالمعنى.
إن تسلسل وتراكم هذه الأحداث لا يمكن تفسيره إلا على أنه تخطيط ونبض استراتيجي واعٍ لدى النبي صلى الله عليه وسلم نحو القدس والشام، كان يسير بشكل متوازٍ مع ترسيخ مركز الدولة والإيمان في مكة والمدينة.
وهذا ما يجعلنا نلقي باللائمة على الرؤى والقراءات التقليدية للسيرة النبوية، والتي تميل إلى تجزيء هذه الأحداث واعتبارها مجرد وقائع متفرقة، أو ردود أفعال لمواقف محدودة، ولا ترى في مجموعها هذا التوجه الاستراتيجي البعيد والواضح نحو الشمال.
المحور الرابع: الفتح العمري للقدس (15 هـ / 636 م): التجلي الأول المعنى الشهود الحضاري
كان فتح القدس على يد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لحظة فريدة في التاريخ الإسلامي والعالمي، ليس لأنه فتح مدينة، بل لأنه أعاد للمنصة رسالتها، وأثبت للعالم أن الشهود الإسلامي لا يعني الغزو، بل يعني تقديم نموذج أخلاقي بديل.
في السنة الخامسة عشرة للهجرة، وبعد معركة اليرموك التي حُسم فيها النفوذ البيزنطي في الشام، توجه جيش المسلمين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح نحو القدس. طلب سكان المدينة أن يسلموا المفاتيح يدًا بيد إلى الخليفة نفسه، فخرج عمر من المدينة المنورة، في مشهد سيبقى أول تطبيق عملي لمعنى “أن تكونوا شهداء على الناس”.
- عمر بن الخطاب.. حيث تجسد الشهود الحضاري في أبهى صوره:
دخل عمر القدس بثياب مرقّعة، وحذاء في يده، ووجه متواضع. لم يدخلها فاتحًا كالملوك، بل ممثلًا عن الرسالة التي تُحكم لا لتُتسلط، وتُقدَّم لا لتُحتكر. قال له أبو عبيدة حين رأى هيئته: “يا أمير المؤمنين، الناس ها هنا، لو لبست ثيابًا نظيفة!” فقال عمر: “كنتم أذلّ الناس، فأعزّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله.” وهكذا دخل عمر المدينة، لا كنهاية معركة، بل كتجسيد أخلاقي لحضارة الشهود.
- العهدة العمرية: وثيقة الشهود قبل وثيقة الحكم:
كتب عمر مع بطريك القدس “العهدة العمرية”، وهي واحدة من أول الوثائق الحقوقية في التاريخ الوسيط، نصّت على: حماية الكنائس وعدم تحويلها إلى مساجد، وعدم إكراه أحد على تغيير دينه، ثم حفظ أموال وأعراض أهل المدينة.
لم تكن هذه الوثيقة مجرد بيان سياسي، بل كانت عقدًا بين أمة الشهادة وأهل الكتاب، على أن تكون القدس ساحة للعدالة لا للانتقام.
- لماذا رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة؟:
حين حان وقت الصلاة، عُرض عليه أن يصلي داخل الكنيسة، فقال: “أخاف أن يتخذها المسلمون من بعدي مسجدًا فيأخذوها من النصارى.” فصلى خارجها، فبقيت الكنيسة على حالها حتى اليوم.
بهذا الفعل، لم يؤسس عمر فقط لاحترام العقيدة الأخرى، بل أثبت أن الشهادة لا تعني فرض الذات، بل احترام الحق حتى حين يكون لدى غيرك.
- القدس بعد الفتح: من الغنيمة إلى الحاضنة:
لم تُعامل القدس كغنيمة، بل كأمانة حضارية، ومركز تواصل بين الرسالات. لم تُنقل الخلافة إليها، ولم تُحوّل إلى قاعدة عسكرية، بل ظلت مدينة شاهدة، يُفترض أن يرتفع فيها منسوب العدل والرحمة والعقل.
لقد كان الفتح العمري للقدس أول لحظة تطابق فيها نموذج الدولة الإسلامية مع وظيفة الشهود القرآنية.
لم تُستعرض الجيوش، بل عُرض الإسلام في ثوبه الأخلاقي. لم يُجبر الناس على الانضمام، بل دُعوا إلى تجربة عادلة يمكن الوثوق بها. فمن هناك، بدأت الأمة تتكلم لغة العالم من منصة القدس… لا بالسيف، بل بالمعنى.
- رسالة من عالم شهودي إلى عالم مثابي: جهاد الثغور (160-181ه)
في أواخر القرن الثاني الهجري، أي بين 777–797م ، كانت القدس تحت الحكم العباسي، ونظرا للتهديد البيزنطي المستمر للقدس، فقد كانت ثغور الشام خط الدفاع الأول عن القدس والشام عمومًا. فانطلق ما يسمى ب”جهاد الثغور”، وكان حرب استنزاف شديد. حيث كانت طرطوس وأنطاكية وملطية نقاط تماس مباشرة مع بيزنطة.
وفي لحظة يقطة حضارية، كان فيه الرباط أعظم من القيام، والدم أصدق من الدمع، والمنصة أوْلى من المحراب، كان أحد العلماء الشهوديين مرابطا على ثغور طرطوس (تخوم الشام الغربية)، وهو عبد الله بن المبارك، مدركًا أن الأمة التي فُتحت لها القدس على يد عمر، لا بد أن تُقيم على تخومها رجالًا يحمون الشهود بقيمة الجهاد. ومع أن القدس كانت حينها آمنة، غير أن حمايتها لا تقوم على مثابة الذكر والصيام، بل على منصة الرِباط والجهاد.
وفي تلك اللحظة، كتب ابن المبارك إلى صاحبه الفضيل بن عياض، المنقطع للعبادة في الحرم، كلمات تنبض بفهم عميق لموازين الشهود، منبها إياه إلى واجبه الحضاري، فقال:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
من كان يخضبُ خدّه بدموعِهِ
فنحورُنا بدمائنا تتخضبُ
وكأنما يقول له: “قد فُتحت المثابة، وثُبّتت المنصة، لكن لا بقاء لهما إلا بحراسة الجبهات، لأن الذين يتغافلون عن المدافعة، قد لا ينعمون طويلا بأمن العبادة.” وحين وصل الفضيل كلام صاحبه بكى وقال: “رحم الله عبد الله، لقد وعظ فأوجز.”. لقد فهم الفضيل أن كلام صاحبه ليس منازعة بين الزهد والجهاد، بل اعادة ترتيب لعلاقة مثابة الإيمان بمنصة الشهود.
هنا تحوّلت طرطوس من مجرد ثغر عسكري إلى منصة رباط حضاري، تُؤسس للوعي الذي سيحمي بيت المقدس، بحد السيف وصدق الموقف. توثق تلك الأبيات تقريرا ميدانيا مكثفًا لفارق جوهري بين العبادة الفردية في المثابة، والبلاغ الجماعي في المنصة. لم تكن استنقاصًا من مقام الفضيل، بل كانت نداءً من خارج المحراب، يذكّره بأن اللحظة الحضارية تستلزم الانتقال من التربية إلى المواجهة، ومن السجادة إلى الساحة، حيث يصبح الواجب أوسع من الخشوع، وأكبر من الإنابة، لأنه يتعلق بشهادة الأمة على العالم.
لقد تحوّلت هذه الرسالة إلى لحظة رمزية قوية، تُلخّص ما نروم تسميته بـ”تحوّل الإيمان من التمركز إلى الإشعاع”، حيث تغادر المثابة حدودها الروحية، دون أن تفقد قدسيتها، لتصعد إلى منصة الشهود الحضاري.
المحور الخامس: من الأندلس إلى الحروب الصليبية: صعود الرسالة وتصدّع الشهود (92 هـ – 492 هـ):
ما بين دخول المسلمين إلى الأندلس سنة 92 هـ / 711 م، وسقوط القدس في أيدي الصليبيين سنة 492 هـ / 1099 م، تمتد أربعة قرون من الشهود الحضاري المتصاعد… ثم المتصدّع. ففي حين كانت الرسالة الإسلامية تنتشر في الغرب بسرعة مدهشة، كانت بنيتها الروحية في المشرق تُصاب بتآكل داخلي. وكانت النتيجة قوة تتوسع بلا عمق، ومنصة تفقد توازنها الرمزي… حتى سقطت القدس، لا لضعف السيف، بل لضعف الشهادة.
- فتح الأندلس: أوسع نطاق جغرافي للبلاغ الإسلامي (92 هـ):
في سنة 92 هـ، عبر طارق بن زياد البحر إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، حاملاً شعلة التوحيد من الشام إلى قلب أوروبا. ومع تأسيس دولة أموية بالأندلس، بدا وكأن الإسلام يحقق التمدد الأوسع لرسالته خارج النطاق الإقليمي المعتاد. لكن هذا التمدد لم يكن دائمًا مصحوبًا بتجذير ثقافي متين، ولا باحترام دائم “للشرط المحلي” كما فعل النبي مع أهل المدينة.
- اختلال الشهود في الأندلس: تمدد بلا اندماج:
ورغم الإنجازات العمرانية والعلمية والفكرية التي تحققت في الأندلس، إلا أن التعايش الاجتماعي العميق بين المسلمين وسكان الأرض الأصليين ظل هشًا. وما زاد الوضع سوءا، أن نقل بعض الفاتحين (القيسية واليمنية) صراعاتهم من المشرق ليجعلوا الأندلس ساحة تصفية حسابات بينهم، فلم يتمكنوا من ترجمة التوحيد إلى عقد اجتماعي يتجذر في الوعي المحلي.
وهنا تبرز أول علامات تصدّع المنصة: حين يفقد الإسلام قدرته على تمثيل العدالة في سياقات متعددة، تبدأ المقاومة ضده بالتماسك.
- بدايات الانكماش الروحي والسياسي:
في الوقت الذي كانت فيه الأندلس تضعف داخليًا، كانت الممالك القشتالية والأراغونية في الشمال الأوروبي تتقوّى، وتبني خطابًا نقيضًا للشهادة الإسلامية، قوامه: استعادة الأرض، وتسييج العقيدة، ثم بناء سردية نصرانية مضادة.
هذا التراكم المعنوي في الغرب، ترافق مع تصدّع رمزي في المشرق، فباتت القدس أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
- الحملة الصليبية الأولى: لحظة انكشاف الشهود (488–492 هـ)
في عام 488 هـ / 1095 م، دعا البابا أوربان الثاني إلى حملة صليبية لاستعادة القدس، فلبّى النداء الآلاف من أوروبا. وفي 492 هـ / 1099 م، سقطت القدس في أيديهم، في مجزرة مروّعة، دخلها الصليبيون على جثث النساء والأطفال، بعد أن سُحِبت منها الحماية، وتلاشت حولها المنظومة الحضارية الإسلامية.
كان هذا السقوط نتيجة مباشرة لانهيار وظيفة الشهادة، لا فقط للهزيمة العسكرية. فالمنصة التي كانت يجب أن تُنير، أصبحت بلا نور… فاستبيحت.
إنه حين تتوسع الرسالة جغرافيًا دون أن تتجذر رمزيًا، وحين تنتصر بالسيف دون أن تثبت بالعدل،
وحين تُهمل وظيفة الشهود لصالح وهم التمكين، تسقط المنصة… ولو ظلت قائمة بالحجارة.
إن سقوط القدس في القرن الخامس لم يكن غفلة، بل إنذارًا صارخًا أن الأمة فقدت قدرتها على تمثيل الرسالة أمام الناس.
المحور السادس: صلاح الدين وتحرير القدس (583 هـ / 1187 م): استعادة المنصة لا فقط الأرض:
بعد ثمانٍ وثمانين سنة من سقوط القدس في أيدي الصليبيين، جاء التحرير على يد صلاح الدين الأيوبي، لكنه لم يكن استردادًا جغرافيًا فحسب، بل كان لحظة بعث حضاري لوظيفة المنصة التي افتُقدت لعقود.
لقد فهم صلاح الدين أن القدس لا تتحرر بالسيوف فقط، بل بإعادة ترميم معنى الشهادة في الأمة، ولهذا سبق سيفه قلمُه، وسبق جندهُ إصلاحُه، وسبق معاركه تجديدُ وجدان الأمة.
- البناء قبل التحرير: إعادة هندسة الأمة للارتقاء إلى الشهادة:
قبل أي خطة عسكرية، أمضى صلاح الدين عقدًا من الزمن في: توحيد الجبهة الإسلامية بين مصر والشام، وتحجيم الانقسامات الطائفية والسياسية، وإحياء الروح الجهادية والتربوية في المساجد والمدارس، ثم إرسال الوعاظ، ونشر الخطاب الوحدوي المتزن.
لقد فهم أن المحراب لا يستعاد إلا حين تُستعاد الهيبة الأخلاقية للأمة، والجدارة الرسالية لحمل الأمانة.
- معركة حطين (583 هـ): استعادة المبادرة الرمزية:
في معركة حطين الشهيرة، تحطمت القوة الصليبية الرئيسية، وانهار معها الحاجز النفسي الذي سيّج القدس طيلة عقود.
لكن صلاح الدين لم يتوقف عند النصر العسكري، بل سار إلى القدس كقائد رسالي، لا كمحرّر منتصر فقط. دخلها بهدوء، بعد مفاوضات، وفتحها بلا مجازر، وبلا انتقام.
- من الاستباحة إلى الأمان: الفرق بين السقوط والفتح:
حين دخل الصليبيون القدس عام 1099، قتلوا ما يزيد عن 70 ألفًا في ساحات الأقصى. وحين دخلها صلاح الدين عام 1187، أمّن السكان، وسمح لمن أراد بالمغادرة، وافتدى الأسرى، وأعاد تنظيم المدينة دون إراقة دماء. وبذلك، لم يُحرر الأرض فحسب، بل حرر وظيفة المنصة من دنس الانتقام، وأعاد لها شرعية الأخلاق.
المحور السابع:
القدس بعد صلاح الدين: من ذروة المعنى إلى الفراغ الاستراتيجي (589 هـ- 1336 هـ):
غالبا ما يتم الاحتفاء بتحرير صلاح الدين للقدس، دون التركيز على ما تلا تلك المرحلة من أحداث، ستبدد ثمرات التحرير، وتدخل المنطقة، على مدى سبعة قرون في مرحلة التيه الحضاري، مما مهد للدخول البريطاني لفلسطين.
.
- من الفتح إلى التفكك: انكسار المشروع قبل الاكتمال (589 هـ):
بعد وفاة صلاح الدين سنة 589 هـ، توزعت دولته بين أبنائه وإخوته، وتحوّلت القدس من مركز مُوحِّد إلى نقطة خلاف، من منصة للشهود إلى ورقة في الصراعات الأيوبية. هذا التفكك البنيوي سلب المدينة من بعدها الجامع، وتركها معرّضة لأي صفقة تحت ضغط التحالفات والتوازنات الإقليمية.
- الانحدار الصامت: حين تُسلَّم المدينة بلا معركة (صلح يافا – 626 هـ):
بعد 36 سنة على وفاة صلاح الدين الأيوبي، وفي خطوة دراماتيكية غريبة، سلّم حاكم مصر السلطان الكامل ناصر الدين الأيوبي المدينة للإمبراطور الروماني الألماني فريدريك الثاني دون قتال.، ودون استشارة علماء المسلمين أو القادة المحليون في هذا القرار. وهكذا، تم تسليم المدينة التي فُتحت بالتضحيات، ببساطة عبر توقيع انفرادي، لا عبر مواجهة، وتحوّلت من “أمانة” إلى “مقايضة”، ومن “غاية” إلى “ثمن”. حيث كان السلطان الأيوبي في حالة صراع مع أبناء عمومتها، مما جعل وضعه العسكري ضعيفا أمام تهديدات الإمبراطور الألماني، فسلم له مدينة القدس، باستثناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة، إضافة إلى بعض المواقع الرمزية الإسلامية، مع ضمان حرية المسلمين في زيارة المدينة والصلاة فيها.
- استعادة بلا روح: لحظة الخوارزميين العابرة (642 هـ):
بعد نحو 15 سنة على تلك الاتفاقية المذلة، استعاد المسلمون المدينة المقدسة بتحالف دمشقي مع المماليك الخوارزمية. لكن هذا الاسترداد جاء بلا مشروع جامع، وبلا رمزية رسالية. فلم تكن هناك رؤية توحيدية، ولا خطاب تعبوي، بل كان مجرد تحرك عسكري، استعاد الجغرافيا وترك المعنى معلّقًا.
- العاصفة المغولية وتقهقر الرمزية (656 هـ):
حين زحف المغول وأسقطوا بغداد (656 هـ)، تراجعت القدس أكثر إلى الخلف، لا لأن العدو قد وصلها، بل لأن الأمة كانت منهكمة عنها بـ”معركة البقاء”. ففي معركة عين جالوت (658 هـ)، التي وقعت على مرمى البصر منها، لم تكن القدس هي الهدف، بل كانت مجرّد خلفية بعيدة لصراع أكبر.
- العهد المملوكي والعثماني: حماية بلا وظيفة (923 هـ –1336 هـ):
طوال العهدين المملوكي ثم العثماني (1517 م – 1917)، بقيت القدس في يد المسلمين، لكنها كانت مدينة ساكنة في الوجدان، لا فاعلة في التخطيط. فقد تُرِكَت للمتصوفة والزائرين، وبقيت رمزية دينية هامشية، فيما كانت موازين القرار تتحرك بين القاهرة، ودمشق، ثم لاحقًا إسطنبول. لم تُحتل القدس… لكنها لم تُحرّك. لم تُستهدف… لكنها نُسيت. والمقدّس إذا لم يُصنَع حوله مشروع، يخسر معناه قبل أن يُنتزع موقعه.
فمن تحريرها في زمن المشروع الجامع، إلى تسليمها في زمن الصفقات، إلى استعادتها في غياب الرؤية، إلى تجاهلها في العصور الإمبراطورية، إلى سقوطها في زمن الضعف العالمي…
سارت القدس من قلب الرسالة إلى هوامش الإدراك السياسي، حتى صارت مجرد ظل باهت لمنصة الشهود التي كانت ذات يوم.
المحور السابع: تفكك الخلافة، والحملة البريطانية: احتواء المنصة واستلاب وظيفتها (1917م):
في صباح 11 ديسمبر 1917، ترجّل الجنرال البريطاني “إدموند أللنبي” عن فرسه عند باب الخليل في القدس، ودخل المدينة المقدسة راجلًا، قائلًا: “اليوم انتهت الحروب الصليبية”.
بهذه الجملة، لم يكن يُعلن نصرًا عسكريًا فقط، بل كان يُدشّن مرحلة تفكيك نهائي لوظيفة القدس كمنصة شاهدة للأمة الإسلامية.
لم تُهزم المدينة في ساحة معركة فحسب، بل سُلبت منها الوظيفة الرسالية، وتحوّلت إلى رمزٍ مستلب، يُعاد تشكيله داخل خريطة الهيمنة الغربية الحديثة.
- من الفتح إلى الانتداب: انحدار طويل في وظيفة الشهادة:
منذ أواخر القرن 19، كانت الدولة العثمانية تعيش تآكلًا داخليًا سياسيًا وإداريًا وفكريًا، رافقه صعود مشاريع قومية علمانية، وانحسار حضور القدس في الوعي السياسي الإسلامي.
لم يكن سقوط القدس في يد بريطانيا فجائيًا، بل كان نهاية سلسلة طويلة من الانفصال بين الوجدان الإسلامي ووظيفة المنصة.
فأللنبي لم يحتل القدس… بل أراد أن يسحق رمزيتها الإسلامية، لقد أدى دورا مسرحيًا مدروسًا: إذ نزل عن فرسه، احترامًا للمكان الذي دخله الخليفة عمر راجلًا. ولم يتلفّظ بكلمة إلا حين قال: “انتهت الحروب الصليبية”، في إشارة إلى إعادة تدوير المعركة داخل الرمز الديني والتاريخي.
هكذا كان الاحتلال البريطاني للقدس تتويجًا لانكسار عميق في الوعي الإسلامي، أكثر من كونه حدثًا عسكريًا مؤقتًا.
- أين كانت الأمة حينها؟
حين دخل أللنبي المدينة، كانت الخلافة العثمانية على وشك السقوط. وكانت إيران في قبضة القاجاريين التابعين للنفوذ البريطاني. وكانت الهند تحت حكم الإنجليز. وكانت الحواضر الكبرى (القاهرة وبغداد ودمشق) مُجرّدة من دورها الحضاري المركزي.
لقد سقطت القدس حين لم تعد هناك أمة قادرة على الشهادة، بل جماعات منهكة تتلقى الإملاءات.
- من المنصة إلى المنفى الرمزي:
لم يكن الاحتلال البريطاني احتلالًا للمكان فقط، بل تحويلًا للقدس من منصة للشهود إلى ساحة للاستلاب: حيث أُعيد رسم هويتها المعمارية والثقافية، وصيغت فيها أولى خطوات المشروع الصهيوني، بغطاء “مدني”، تُمّ التحضير لتحويلها إلى عاصمة رمزية لمشروع نقيض للشهادة: مشروع الطرد، والتفوق، والإقصاء.
لم يكن سقوط القدس في 1917م انهيار جدران، بل انسحاب المعنى من الرمز، لم تسقط المدينة لأن العدو أقوى، بل لأنها لم تعد تُؤدي وظيفة المنصة التي بُنيت لها. فالمنصة إذا لم تنطق بالحق، تتحوّل إلى جدار يُعلَّق عليه كل شيء… إلا الشهادة.
المحور الثامن: هل كان من الممكن تجاوز قرون التيه السبعة والتي مهدت لفقدان منصة الشهود: (1244م – 1917م):
ولأننا عادة ما نقرأ انتصاراتنا قراءة عجايبية، ونقرأ هزاءمنا قراءة تآمرية، فمن السهل جدا استحضار ها المنطق لاختزالها فب معجزات الانتصار ومؤامرات الهزائم.
ولأننا هنا نرفض هذا المنطق، وننحو نحو القراءة السننية، فسنسعى لتلمس ما كان يمكن به أن نتفادى السقوط قبل الوقوع.
فمن خلال استقراء تلك القرون السبعة الفاصلة، بين لحظة التسليم الأول للقدس إلى لحظة الدخول البريطاني، يمكن أن نعتبرها قرون التيه والإنشغال عن واجب الشهود، حيث تم تفريغ القدس من وظيفتها الاستراتيجية في مراحل امتلاكها الآمن. لقد كانت القدس في يد المسلمين مدة تزيد على 700 سنة متواصلة (من 1244م حتى 1917م)، ومع ذلك، حين جاء الاحتلال البريطاني، دخلها دون مقاومة تُذكر. وهذا لا يمكن أن يفسَّر فقط بالضعف العسكري، بل بغياب “مشروع حضاري حول المقدّس”.
هنا نطرح السؤال التالي، في إطار ما يسمى في نظرية التاريخ التطبيقي ب”التاريخ الذي لم يحدث” (Counterfactual History)، وربما كان بإمكانه أن يتحقق: كيف كان يمكن التعامل مع القدس لتفادي سقوطها؟
وفي إطار هذا التصور، نرى أنه كانت هناك إمكانات كانت تزخر بها الأمة ولم يتم توظيفها، ومنها ما يلي:
ماذا لو أن المسلمين، منذ استرداد القدس من الصليبيين سنة 1244م، أعادوا تفعيلها كمنصة شاهدة لا كمكان للزيارة فقط؟ كيف كان ذلك ليؤثر على حضور القدس في وعي الأمة، وموقعها في الجغرافيا الاستراتيجية، عند لحظة الصدمة في سنة 1917م؟
حيث كانت قد توفرت مجموعة من إمكانات الفعل التي لم تستغل، ومن ضمنها ما يلي:
- إمكان اعتماد مرسوم سلطاني باعتبار القدس مدينة مركزية:
لقد أعاد الخوارزميون القدس، بفتحها سنة 1244م، للحكم الإسلامي، بدعم من السلطان الصالح نجم الدين أيوب. وقد كان بالإمكان إصدار مرسوم سلطاني من الصالح نجم الدين بإعادة القدس إلى مركز القرار الروحي والسياسي للأمة. وجعلها ولاية مستقلة تحت إشراف مباشر من دار الخلافة الأيوبية في القاهرة. كانت النتيجية المحتملة هي تأسيس مجلس علمي ومذهبي موحد في القدس، من علماء المذاهب الأربعة، يعمل كمجمع فقهي – سياسي دائم يُصدر مواقف الأمة من القضايا الكبرى. حتى تصبح القدس المنصة التي يُرفع منها الخطاب الإسلامي الموحد في مواجهة الغزو المغولي والرومي.
وقد كان هناك عدد من أبرز العلماء المشكلين المحتملين لهذا المجلس، والمتزامنين فعليًا مع فترة ما بعد تحرير القدس (1244م) وحتى منتصف القرن الثامن الهجري تقريبًا (1350م)، والذين كان بالإمكان نظريًا أن يُشكّلوا معًا مجلسًا علميًا ومذهبيًا موحدًا في القدس، لو وُجّهت الإرادة لذلك:
فعن الشافعية نجد العز بن عبد السلام (577–660هـ / 1181–1262م)، وقد كان في مصر والشام، وهو سلطان العلماء، وكبير الفقهاء المجاهدين. وكذلك الإمام النووي (631–676هـ / 1233–1277م)، وقد كان في دمشق، وقد كان فقيها شافعيا ومحدّثا وأصوليا، ومتقشفا قوي الرأي. وعن المالكية كان هناك الشيخ القرافي (626–684هـ / 1229–1285م) من مصر، وهو فقيه مقاصدي من الطراز الأول، مؤلف “الفروق” و”الذخيرة”. وكذلك ابن عبد السلام اللخمي (ت. بعد 680 هـ)، وهو تلميذ العز بن عبد السلام، عالم مالكي ووريث مدرسته. وعن الحنفية نجد آنذاك الشيخ برهان الدين بن مازة البخاري (ت. 673 هـ)، وهو من أعلام الحنفية في بلاد ما وراء النهر، وتأثيره حاضر في دمشق والقاهرة. ونجم الدين النسفي (ت. 701 هـ)، وهو فقيه حنفي أصولي، مؤلف “العقائد النسفية”، وكان له حضور معتبر في بغداد وخراسان. وعن الحنابلة نجد الشيخ مجد الدين ابن تيمية الجد (ت. 653 هـ)، وهو من كبار حنابلة الشام، جدّ تقي الدين بن تيمية، وله نفوذ في دمشق. والشيخ شمس الدين المقدسي الحنبلي (ت. 678 هـ تقريبًا)، وهو فقيه حنبلي من بيت المقدس، وكان يمكن أن يمثل المذهب مباشرةً في القدس.
كما يمكن أن يلحق بهذا المجلس لإكمال المشروع فيما بعد كل من: الشيخ تقي الدين ابن تيمية (661–728 هـ / 1263–1328م)، وقد كان في دمشق، وهو شخصية جامعة بين الفقه والواقع السياسي، وكان سيحمل المشروع بقوة لو دُعي إليه. والشيخ ابن دقيق العيد (625–702 هـ)، وهو فقيه منضبط على المذاهب ومتبحر، ترأس القضاء، وكان قادرًا على تنسيق الفروع. كما نجد الشيخ ابن القيم الجوزية (691–751 هـ) وهو تلميذ ابن تيمية، امتلك روح الإصلاح والربط بين النص والحركة. إضافة إلى العلامة المغربي ابن الحاج المالكي (توفي 737هـ / 1336م تقريبًا) – من فاس، وقد أقام بمصر، ممثلا للمذهب المالكي. فهو صاحب كتاب المدخل، من أعمق ما كُتب في إصلاح أحوال الأمة. وقد نقد حينها العادات الفاسدة في الدين والسياسة. وكان معاصرًا للعصر الذهبي المملوكي، وكان بالإمكان استدعاؤه إلى القدس.
كان بإمكان مثل هذا المجلس أن يصدر مواقف الأمة الفقهية والسياسية، وتجميع مجتمعات الأمة، وصياغة فقه تلك المرحلة. وكان بإمكانه أن يجعل من القدس مركزا لصناعة القرار الحضاري، لا فقط العبادة الرمزية، وكان ليصوغ فقها وحدويا ميدانيا لمواجهة الحملات المغولية والصليبية والاحتلال الأوربي في مهده.
- إمكان تأسيس القدس عاصمة روحية في عهد الظاهر بيبرس: (1260م – ما بعد عين جالوت):
حين انتصر السلطان الظاهر بيبرس على المغول في عين جالوت سنة 658هـ / 1260م، لم يكن ذلك مجرّد لحظة عسكرية فاصلة، بل نقطة انعطاف حضاري كان يمكن أن تُحوَّل إلى مشروع استراتيجي متكامل. فقد تسلّم بيبرس زمام المماليك وهم في ذروة الحاجة إلى ترميم هويتهم بعد سقوط بغداد (656هـ) وانهيار مركز الخلافة العباسية. في هذا الفراغ، كان بإمكانه أن يعيد صياغة مركز الثقل الرمزي للأمة حول القدس، بدل أن يكرّس التمركز الإداري في القاهرة وحدها.
إذ كان بإمكانه أن يعلن القدس عاصمة روحية رمزية للأمة الإسلامية، ومقرًّا لاحتضان “ما تبقّى من مقام الخلافة”.، فيُنشئ فيها ديوانًا علميًا رساليًا، يتكوّن من كبار العلماء المتبقّين من مدارس بغداد ودمشق والقاهرة. ويُعيد إحياء منصب “شيخ الإسلام في القدس” بوصفه نظيرًا مرجعيا لمنصب قاضي القضاة في القاهرة. ويُوجّه خطب الجمعة من المسجد الأقصى في الأحداث الكبرى، لتصبح القدس منبر الأمة حين تسكت العواصم.
كان من المحتمل وتم ذلك، أن تتحوّل القدس من مجرد مدينة “مباركة” إلى مركز تعبئة رباطية حضارية، تُصدّر فقه الصمود، وتجمع حولها الزوايا والرباطات والمدارس العلمية. فتُنسَج شبكة رباط علمي–عسكري عبر الثغور، يكون مركزها القدس، تربط بين: الزوايا في المغرب والمدارس في دمشق ورباطات الشام ومصر. كي تصبح المدينة منصة لتدشين خطابات الأمة في وجه المغول، والصليبيين، ومن بعدهم البرتغاليين والفرنسيين.
ولكن بدل ذلك، بقيت القدس تابعة إداريًا لولاية دمشق، محجوبة عن القرار، خارج مشروع التفعيل، وداخل ذاكرة الدعاء. وهكذا، في لحظةٍ كانت الأمة فيها تبحث عن عنوان جديد للنهضة، اختار القرار أن يبقى أفقيًا في العواصم، لا أن يرتفع رأسيًا من منصة الشهود.
- إمكان تكريس القدس ولاية مركزية للرسالة في عهد السلطان سليمان القانوني (923هـ / 1517م – منتصف القرن 10هـ):
حين دخلت القدس تحت حكم الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول سنة 923 هـ / 1517م، ثم تولى بعده سليمان القانوني الحكم، كانت المدينة قد انتقلت من الإطار العربي إلى التركي، ومن الخطاب الإقليمي إلى الإمبراطوري. وخلال فترة القانوني (1520–1566م)، برزت فرصٌ نادرة لتحويل القدس إلى “ولاية مركزية روحية” داخل بنية الخلافة العثمانية، تعيد تأسيس حضورها الاستراتيجي بعد قرون من السكون.
لقد كان بمقدور السلطان سليمان القانوني، في سياق إعادة ترميم أسوار المدينة وبناء البنية التحتية للقدس، أن يتجاوز الترميم المادي نحو: إعلان القدس ولاية مستقلة ذات صفة رمزية فائقة، على غرار “الأراضي المقدسة” في فقه العثمانيين. وإلحاق ممثلي القدس بمجلس الشورى السلطاني في إسطنبول بصفتهم “أوصياء الرمزية الإسلامية العالمية”. وإصدار فرمانا يُلزم كل ولاية عثمانية بأن: تُرسل ممثلًا دينيًا دائمًا إلى القدس. وتساهم ماليًا عبر أوقاف مركزية لخدمة المسجد الأقصى وسكّانه. واعتماد القدس منبرا خطابيا رمزيا في الأعياد، والبشائر العسكرية، والبيانات الكبرى. ثم تخصيص منصب جديد تحت اسم:
“المتحدث باسم المنصة الشاهدة”، يُعيّن من كبار العلماء أو الشعراء أو المفكرين، ليتولى مخاطبة الأمة من على منبر المسجد الأقصى أسبوعيًا.
كان بإمكان ذلك كله أن يجعل من القدس مركز قرار شرعي روحي، ضمن بنية الخلافة العثمانية، مقابل إسطنبول كمركز إداري–تنفيذي. وأن يتم تحييد القدس عن الصراعات الإقليمية بين الولاة، وجعلها رافعة توازن بين الأطراف المتنازعة داخل السلطنة. وأن تتعزز قدسيتها في وجدان الأمة، لا كمكان للحج الموازي فقط، بل كبوصلة رمزية للتماسك العقدي والسياسي. وأن تصير القدس مرجعًا جامعًا يُحتكم إليه عند الأزمات، وتُستخدم كـ”منصة إطلاق الخطاب الإسلامي العالمي الجامع” في وجه الهيمنة الأوروبية.
لكن التاريخ الذي تحقق قد اتجه نحو إبقاء القدس ضمن التبعية الإدارية لدمشق، أو لاحقًا لبيروت. وتم التوسع في تزيين المدينة عمرانيًا، دون إسنادها بمشروع رمزي، يعيد تعريف دورها في الأمة. فظلت خارج دوائر التنسيق السلطاني في لحظات حاسمة مثل: حصار فيينا وغزوات البرتغاليين ونشأة المطبعة وبدايات الاستشراق.. فتحوّلت القدس إلى “عاصمة مزارات لا منارة رسالات”، محفوظة من الخارج، ومعطّلة من الداخل.
- إمكان اعتماد خطة استراتيجية للمقاومة مركزيتها القدس/ (1800–1917م):
مع دخول القرن التاسع عشر، بدأت الحداثة الاستعمارية الغربية تطرق أبواب العالم الإسلامي بقوة غير مسبوقة. وكانت القدس، آنذاك، ما تزال تحت الحكم العثماني، لكن الخطاب الديني حولها أصبح يتّسم بما يمكن تسميته بـ”الجمود الرمزي”، حيث أُبقيت المدينة مقدسة في الوجدان، منزوية في التخطيط، وصار يُتعامل معها كما يُتعامل مع الطقوس المتكررة: تُحترم، لكن لا تُفَعَّل.
وفي ظل هذه اللحظة الحساسة، ومع ازدياد الضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية، كان بالإمكان أن يُعاد تعريف القدس ضمن “فقه المقاومة الرمزية”، عبر خطوات استراتيجية ممكنة تتجلى فيما يلي:
فصل القدس إداريًا عن بيروت ودمشق، ورفعها إلى “منطقة حكم خاص” (ولاية مقدسة)، لا تُدار كغيرها من المدن. وإنشاء “دار التأويل الإسلامي المعاصر” في القدس، تعالج التحديات الفكرية القادمة من: التبشير والاستشراق والقوميات الأوروبية. وتحويل المسجد الأقصى إلى مركز تربوي عالمي: تُرسل إليه بعثات الطلبة من الهند والمغرب وتركيا والبلقان. ويُجعل مركز إصدار موسوعي للفكر الإسلامي الحديث. إضافة إلى الربط بين المواسم التعبدية والمواسم السياسية: بتخصيص مناسباتٌ سنوية تُطلق منها “خطابات الأمة” من صحن الأقصى. وتُستثمر زيارات الزوار لأجل التعبئة الفكرية والتكوين الوحدوي.
لو طُبّق ذلك التصور، كان بالإمكان أن تتحول القدس إلى عاصمة مرجعية في وجه الحداثة الاستعمارية، تُعالج الأسئلة الوجودية الجديدة في الإسلام، لا مجرد مزار للطمأنينة. وتبدأ الأمة في التوحد حول معنى “المقدس الوظيفي”، لا “المقدس العاطفي”.، وتتأسس شبكات وعي شعبي جديد ترى في القدس: “المختبر الرمزي لصناعة الذات الإسلامية في عصر التحديات الكبرى”. وفي لحظة بروز المشروع الصهيوني، ستكون القدس: مركز رصد مبكر، ومنصة تحذير أممي، ومحراب يقظة حضارية.
غير أن كان هو العكس تماما: فقد اختُزلت القدس إلى مجرد محطة روحية أو سياحية. ووُكل أمرها إلى أوقاف شكلية وإدارات بيروقراطية. ولم يُستثمر علماء الأزهر، ولا المدارس الصوفية، ولا الجامعات العثمانية، في صناعة وظيفة معرفية جديدة للقدس. فغاب التأويل، وضعف البلاغ، وبقيت المدينة مقدسة… لكنها صامتة.
- إمكان إعلان القدس وقفا إسلامية تديره الأمة (1856م – 1917م):
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دخلت القدس مرحلة جديدة من الاستهداف، لم تكن عسكرية بالدرجة الأولى، بل رمزية وإدارية ودبلوماسية. فمع تصاعد التدخل الأوروبي في شؤون الدولة العثمانية، خاصة بعد معاهدة باريس (1856م)، بدأت تُطرح أفكار “تدويل الأماكن المقدسة”، بحجج إنسانية أو دينية، لكنها كانت في جوهرها محاولة لنزع يد المسلمين عن قيادة القدس حضاريًا، تمهيدًا لانتزاعها سياسيًا.
لقد كان بالإمكان في تلك اللحظة الحساسة، أن تتحرك الدولة العثمانية – ومعها نخب الأمة – باتجاه إجهاض مشروع التدويل الرمزي، وذلك عبر خطوات استراتيجية ممكنة، مثل: إصدار “فرمان سيادة رمزية” من الباب العالي، يُعلن أن القدس ليست مجرد ولاية عثمانية، بل: “وقفا أمميا للأمة الإسلامية، لا يُدار إلا من داخلها.” وتأسيس “مجلس سيادة رمزية” دولي، مقرّه القدس، يضم ممثلين دينيين وعلماء ومفكرين من:
فمن الهند (الراج البريطاني) كان هناك سيد أحمد خان (1817–1898م)، وهو مفكر إصلاحي مسلم، مؤسس جامعة عليكرة الإسلامية. ورغم تأثره بالتجربة البريطانية، كان من أوائل من دعوا إلى النهوض الحضاري عبر التعليم. إضافة إلى أمير علي (1849–1928م)، وهو مفكر قانوني ومؤرخ، كتب عن الإسلام باللغة الإنجليزية دفاعًا عن حضارته. وكان بإمكانه أن يُمثل الجناح الدبلوماسي في المجلس.
ومن المغرب نجد الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني (1873–1909م)، وهو عالم صوفي سلفي إصلاحي، وقف في وجه الاستعمار الفرنسي. وكان من أشد المدافعين عن الخلافة والقدس، حتى استُشهد بسبب مواقفه.
ومن اليمن نجد الإمام محمد بن يحيى حميد الدين (ت. 1948م)، وكان أميرًا ثم إمامًا قوي الشخصية. ويُعتبر رمزًا للتمسك بالخلافة والقدس، وله مواقف واضحة من التدخل الغربي. ومن مصر نجد الشيخ محمد عبده (1849–1905م) وهو مفتي الديار المصرية، إصلاحي، ومشارك في حركة النهضة. وقد نادى بمشروع نهضة شامل وكان مدافعًا عن قضايا الأمة خارج الحدود القطرية. إذضافة إلى الشيخ مصطفى المراغي (1881–1945م)، وهو شيخ الأزهر لاحقًا، وفقيه مجدّد. وله حس دولي ويؤمن بوحدة الأمة الإسلامية، وكان بإمكانه أن يمثل الأزهر رسميًا.
ومن الشام نجد سوريا ولبنان وفلسطين) الشيخ طاهر الجزائري (1852–1920م)، وهو من أوائل المفكرين الإصلاحيين. وله حضور علمي عابر للحدود، وموقف متقدّم من التعليم والهوية. إضافة إلى الشيخ يوسف النبهاني (1849–1932م) – فلسطين/لبنان، وهو قاضٍ ومتصوف وشاعر، شغل مناصب رسمية وقضائية، وكان من المدافعين عن قدسية القدس بوضوح.
ومن الأناضول (تركيا) نجد الشيخ محمد زاهد الكوثري (1879–1952م)، وهو نائب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية. ومن أبرز العلماء الذين دافعوا عن بقاء الخلافة. وله كتابات قوية عن مكانة القدس في الشريعة. إضافة إلى الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي (1877–1960م)، وهو مفكر ومفسر قرآني. بدأ مبكرًا بدعوة إصلاحية تشمل الأمة كلها، وكان يؤمن بالقدس كأفق روحي.
ومن البوسنة (البلقان) نجد الشيخ مصطفى سباهيتش (1863–1930م)، وهو مفكر وفقيه بوسني، أحد أقطاب مقاومة التنصير الثقافي في البلقان. كان بإمكانه أن يمثل “صوت المسلمين الأوروبيين” في المجلس، خاصة مع ارتباط البوسنة الرمزي بالقدس.
ومن إيران (القاجارية) نجد الشيخ محمد حسن النجفي (ت. 1266هـ / 1850م تقريبًا)، وهو صاحب كتاب جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ويُعد من أعلام الإمامية في الفقه والأصول. وكان يُعد المرجع الأبرز في فقه الإمامية، وكان له تأثير واسع في إيران والعراق. كما نجد الشيخ محمد حسين النائيني (1860–1936م)، وهو أحد أبرز مفكري الثورة الدستورية في إيران. وقد دافع عن الحرية السياسية في ظل المرجعية الدينية. وكان بإمكانه تمثيل الاتجاه الدستوري–الفقهي في المجلس، خاصة في موازنته بين الشريعة والسياسة.
ومن القوقاز وآسيا الوسطى نجد الشيخ شهاب الدين مرجاني (1818–1889م) – تتارستان، وهو مصلح ديني ومؤرخ تتاري، من أوائل من نادوا بتجديد الخطاب الإسلامي في مواجهة الروس. وصاحب دعوة فكرية متنورة تجمع بين التعليم الشرعي والعلوم الحديثة. إضافة إلى الشيخ علي قوشجي، الذي سيأتي لاحقا، لكنه يعتبر رمزًا للمنطقة، ولو وُلد قبيل نهاية العهد العثماني، لكان مثاليًا لتمثيل علماء أوزبكستان وبخارى.
هؤلاء العلماء، لو اجتمعوا رمزيًا أو فعليًا، لأمكن أن يكونوا “صوت الأمة الأخير قبل أن يُغلق باب القدس في 1917”.
ولقد كان بالإمكان ربط القدس بالمؤسسات الدولية العثمانية: كأن تصبح المرصد الإسلامي للرد على الخطابات الغربية (التبشير والاستشراق والقومية). وأن يُعلن أن أي اعتداء رمزي أو مادي على القدس، هو عدوان على مرجعية الإسلام العالمي.
كما كان بالإمكان بناء نظام تحصين ثقافي–إعلامي حول المدينة، بإطلاق: صحيفة رسمية باسم “صوت القدس”. وإنشاء دور نشر ووثائق باللغات الثلاث: العربية والتركية والفرنسية. وتشكيل شبكة مراسلين في أوروبا لفضح نوايا “التدويل التنصيري”.
لو تحقق ذلك، كان بالإمكان أن تتأسس قدسية سيادية معترف بها شرعيًا وشعبيًا ودوليًا. ويصير أي مساس بوضع المدينة، أو أي مساومة عليها، أمرًا مرفوضًا فقهيًا وسياسيًا وأخلاقيًا. وتنشأ حول القدس شبكة دفاع رمزية حقيقية تتجاوز الجدران… إلى الشرعية الحضارية.
لو كانت القدس، كما في هذا السيناريو، عاصمة روحية نشطة، ومركز قرار ديني موحّد، ومرتبطة بشبكة رباط علمي–سياسي، فحين سيصلها الجيش البريطاني إلى تخومها: لم يكن ليجدها مدينة خاوية من المقاومة. بل لربما واجهت جيشًا شعبيًا تعبويًا مرتبطًا بها عبر رباط معرفي–ديني عابر للقارات. ولربما لم يجرؤ أللنبي على دخولها صامتًا.
ولكن، ظلّت القدس، في نظر الدولة العثمانية، مجرد ولاية عادية بين ولايات الشام. حيث خضعت تدريجيًا للتدخل القنصلي الأوروبي (خاصة الفرنسي والروسي). ثم عُزلت رمزيًا عن مشروع الأمة، ومُهّدت لإخراجها من معادلة القرار. وهكذا، سقطت المدينة إداريًا، وتراجعت وجدانيا، قبل أن تُحتل عسكريًا، وصمتت سلطتها المعنوية قبل أن يُسكت مآذنها الاحتلال.
في كل مفصل من مفاصل التاريخ السباعي للقدس (1244–1917م)، كانت هناك فرصٌ استراتيجية لم تُغتنم، لا لأنها مستحيلة، بل لأن الرؤية كانت غائبة، والإرادة كان فاترة.
في التاريخ “الذي لم يحدث”، لم تكن القدس لتسقط لأنها لم تكن لتُفرَّغ أصلًا. فالمقدّس حين يُصاغ حوله مشروع، يُصبح عاصمًا من التنازل، لا عبئًا رمزيًا يُسلَّم عند أول منعطف.
- إمكان إنشاء جيش تعبئة شعبية (من 1850م إلى 1917م):
في العقود السبعة الأخيرة قبل الاحتلال البريطاني، كانت الأمة الإسلامية لا تزال تملك ما يكفي من المؤسسات العلمية، والطرق الصوفية الحركية، وحلقات التعليم العابرة للحدود، لتؤسس مشروعًا من نوع خاص: “جيش الوعي الشعبي”، لا يُعبّأ من الثكنات، بل من المدارس الشرعية، والزوايا، ومجالس الجمعة، والمواسم الروحية.
لقد كان بالإمكان إنشاء قاعدته المركزية انطلاقا من المسجد الأقصى – القدس، وأن يعبئ له الشيخ يوسف النبهاني (1849–1932م) الذي كان من أبرز علماء فلسطين في تلك المرحلة. وكان بإمكانه، بتأثيره الخطابي والصوفي، أن يقود تعبئة رمزية على مستوى الأمة. وذلك بالتنسيق مع المفتي العام للقدس ومشيخة الحرم، يُنشئون هيئة عليا اسمها: “رابطة الدفاع الرمزي عن أولى القبلتين”، يكون مقرّها: صحن الأقصى، وقبة يوسف تحديدًا، ووظيفتها: استقبال الوفود، تنظيم الجموع، إصدار البلاغات الأسبوعية.
وكذلك كان بالإمكان إنشاء خط الدعم المغاربي: فاس – تطوان – الجزائر – القيروان- طرابلس – القدس)، وذلك بتعبئة من الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني (1873–1909م) زعيم حركة الكتانيين، والذي كان على صلة قوية بفكرة “الأمة الواحدة”. إضافة إلى تعاون طريق الزوايا المرتبطة بزاوية الكتّانيين في فاس ومقام النبي داوود في القدس، والذي كان معروفًا للحجاج. حيث كان بالإمكان أن تُوجّه الكتّانية بعثات من مريديها عبر قوافل الحج إلى القدس، بإشراف شيخ الزاوية.
إضافة إلى تعبئة الحزام الشرقي، خاصة دار العلوم – ديوبند (الهند)، بإشراف الشيخ محمود الحسن الديوبندي (1851–1920م)، المعروف بلقب “شيخ الهند”، والذي كان يرى في القدس محورًا رمزيًا لتوحيد المسلمين ضد الاستعمار. ثم مدرسة دار العلوم ديوبند، التي أسسها سنة 1866م، وقد كانت تخرّج المئات سنويًا. وكان يمكن، من خلال “لجنة الأمة الآسيوية للقدس”، إرسال بعثات تعليمية إلى الأقصى، وتوزيع منشورات عن “القدس في وعي الهند”.
إضافة إلى جناح البلقان والقوقاز (سراييفو – غروزني – القدس)، بإشراف الشيخ مصطفى سباهيتش في البوسنة، والشيخ شهاب الدين مرجاني في تتارستان، الذان شكّلا امتدادًا فقهيًا–ثقافيًا فعالًا في أوروبا وآسيا.
ثم كان هناك زوايا البلقان والقوقاز، التي يمكن أن تُشارك في مواسم الحج الرمزي إلى القدس (خارج الحج الشرعي)، ووتشكيل فرق شبابية مدنية للرباط الثقافي في المدينة.
لو تحقق ذلك، كان بالإمكان حين تصل قوات أللنبي إلى أطراف القدس في ديسمبر 1917م، أن تُفاجأ بأن المدينة ليست خالية من السلاح فقط، بل عامرة بجيش من الوجدان الحي: حشود من الكتانيين، وطلّاب من ديوبند، وموكب فقهاء يحملون وثيقة “عهد الأمانة” موقعة من علماء الأمة.
حقيقة لم يكن مطلوبًا بالضرورة جيشًا نظاميًا… بل مجرد شبكة تعبئة رمزية صلبة، تنسج الأمة حول القدس حزامًا روحيًا فكريًا ثقافيًا يحول دون أن تدخلها جيوش المستعمر بلا مساءلة، أو حتى بلا شهقة اعتراض.
على سبيل الختام
لقد تتبعت هذه المقالة المسار المركب لمنصة الشهود، كما تجلّت في القدس عبر التاريخ الإسلامي، من لحظة التمكين الرمزي في الفتح العمري، إلى لحظات الانكسار السياسي والوظيفي التي انتهت باجتياح المدينة دون مقاومة عام 1917م. ومن خلال هذه القراءة، ظهر جليًّا أن فقدان القدس لم يبدأ يوم سقطت، بل يوم فرّغت من وظيفتها، وحوصرت في قدسيتها، واستُبدل فعل الشهادة فيها بمجرد رمزية صامتة لا تنطق باسم الأمة. فالقدس لم تكن أبدًا مجرد بقعة مباركة، بل كانت دومًا مرآة لحالة الأمة: حين كانت الأمة تملك مشروعًا، كانت القدس منصة تُعلَن منها الرسالة. وحين تعطلت المشاريع، تراجعت المنصة وضعفت، فدخلها الغزاة انكشافا، كما تُفتح القلاع المهجورة.
غير أن هذا المسار التاريخي الذي تحقق ليس قدرًا محتومًا، بل كان بالإمكان تفاديه: فالتاريخ – كما دلّ على سنن السقوط – دلّ أيضًا على إمكانات الاستئناف.
وعمدا فصلنا في الإممكانات التي كانت متاحة أمام الأمة لتجاوز السقوط، ليس انجذابا لأحلام اليقظة، بل لأن من لا يمكن مخيالا لتصور الماضي الذي كان بالإمكان أن يحدث، هو أعجز عن اجتراح إمكانات للمستقبل الممكن.
فالأمة التي استعادت القدس مرارًا، قادرة على أن تُعيد إليها صوتها، لا فقط سيادتها.
وقادرة أن تجعل من دماء الشهداء، وعقول العلماء، وحشود الوعي الجديد، سلمًا تصعد به المنصة من جديد. فالقدس لا تنتظر مَن يحررها فقط، بل تنتظر مَن يعي وظيفتها، ويعيد وصلها بحركة الرسالة:
رسالة البلاغ، والشهادة، والعدل، والجمال، حتى يتحقق التوازن بين مثابة الإيمان ومنصة الشهود.
فلا إسراء بدون مثابة، ولا معراج بدون منصة. ولكل منا في هذه الحياة اسراؤه ومعراجه: فمن كان إسراؤه معتلا، كان معراجه مختلا. ومن كان إسراؤه محرقا، كان معراجه مشرقا.
انظر المقال الأول: مكة مثابة الإيمان: من مركز التكوين الإيماني إلى قطب الوظيفة الحضارية” (4/1):
تعليق واحد