العمرانالفن التشكيلي

رقصة الأحاسيس: حينما تبوح المشاعر في ساحات الفوضى (نقد سيميائي)

تحليل سيميائي للوحة الأولى، للفنان التشكيلي يوسف حسان

تقديم:

يعتبر الفنان التشكيلي يوسف حسان، إحدى الكفاءات الفنية المجددة، في مجال الخط العربي، وهو المدير التنفيذي لأكاديمية الخط العربي بالدوحة، إذ ما فتيء ينفذ التجارب الفنية، كي يستكشف المساحات غير المألوفة في أبعاد الخط، مسخّرا قدرته التشكيلية المتميزة، وإيمانه العميق، بأن هذا المجال لا يزال فضاء خصبا، يحتمل رؤية إبداعية جريئة، ويتطلب تضافر جهودا جماعية جادة، كي تتحقق نهضة فنية عربية مبدعة.

أولا: نظرة تقديمية للأسلوب التعبيري التجريدي في الخط العربي:

يمكن أن نصنف الفنان يوسف حسان، إذا اعتبرنا هذه اللوحة معبرة وفية عن نهجه الفني، ضمن سياق النمط الفني التعبيري التجريدي، الذي يوظف الخط العربي. وهو تطور حديث نسبيًا في عالم الفن، ويعكس التفاعل بين التقاليد الفنية الإسلامية والمعاصرة. وقد بدأ هذا النمط في الظهور بقوة في منتصف القرن العشرين، خاصةً مع تزايد الاهتمام العالمي بالفن الإسلامي والخط العربي. وإذا كان من الصعب تحديد “رائد محدد لهذا النمط، نظرًا لأن الفنانين في مناطق مختلفة من العالم العربي والإسلامي بدأوا بشكل مستقل في استكشاف هذا النمط. إلا أنه يمكن الإشارة إلى بعض الفنانين الذين كان لهم دور مهم في تطوير هذا الأسلوب: ومنهم الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925-2004)، والذي كان له تأثير كبير في استخدام الخط العربي في تكوينات تجريدية. إضافة إلى مواطنه الفنان الشاعر والتشكيلي محمد مهدي الجواهري (1912-2006)، والذي اشتهر بأعماله التي تجمع بين الشعر والخط العربي في تكوينات فنية فريدة.
وفي السنوات اللاحقة، ازداد عدد الفنانين الذين يعتمدون الخط العربي في أعمالهم التجريدية، مثل نجا محفوظ وإبراهيم الصلحي. هذا النمط من الفن استمر في التطور والازدهار، خاصة مع تزايد الاهتمام الدولي بالفن الإسلامي والثقافة العربية في العقود الأخيرة.
وإسهاما في مقاربة جزء من هذا الجهد الهادف، سأحاول استقراء هذه اللوحة الأولى، والتي أبدعتها مخيلة هذا الفنان، لعلها تنجح في اجتراح مسارات واعدة، في اتجاه ذاك الأفق. حيث سنعتمد اثني عشر معيارا فنيا نقديا، تتوزع على خمس مستويات: تميز الأسلوب الفني وطريقة التنفيذ، والمعاني والرمزية، والتطوير الفني، وتمييز النمط. إذ سنقدم قراءتين: قراءة تركيبية للوحة، ثم أخرى استبدالية.

ثانيا: رقصة الاحاسيس (قراءة تركيبية):

نقصد بالقراءة التركيبية، قراءة اللوحة كمكونات داخلية مجردة عن العوامل الخارجية أو الاقتراحية. فمن الواضح أن الفنان يوسف اعتمد الأسلوب التعبيري التجريدي أسلوبا للوحته، حيث استخدم ضربات الفرشاة الديناميكية والإيمائية: فليس المهم، بالنسبة له، أن يكون الخط مقروءًا على الفور، بقدر ما هم مهم ذلك التأثير العاطفي الذي توحي به تلك الحروف، وهو أسلوب سيميائي للتعبير، يتساوي فيه فعل الرسم بالمنتج النهائي.
وعلى الرغم من أن طابع الجرأة تبدو أقل وضوحًا مما هي عليه في بعض فنون الجرافيتي، إلا أن انسيابية الخطوط، جنبًا إلى جنب مع تباين أحجام الحروف، يوحي ببعض الفوضوية المقصودة، وكأن الفنان يفترض من المتلقي قدرا مع الحيادية والاستعداد لتقبل ذلك التداخل البصري الحذر، إذ لا يتعدى خط على ما يجاوره، ويسمح لكل منهم بالتكيف مع الفضاء الذي يتمدد فيه، بغض النظر عن احترامه قواعد الخط الديواني من عدمه. وكأن بين المتجاورين قواعد تعايش، في ظل اضطراب متحرك باستمرار. وبذلك يذكرنا ذلك الأسلوب بالكتابة على الجدران: فهناك إحساس مدني حضري وحيوي بالعمل، على الرغم من أنه لا يُظهر أسلوب الطلاء بالرش المميز أو زخارف فن الشارع المرتبطة غالبًا بالكتابة على الجدران.
وإذا انتقلنا إلى مجال اللون، فسنجد أنه قد اعتمد، خلفية للوحة خافتة هادئة، حيث تستخدم ظلالًا من اللون الرمادي، يهمن على جل مساحة اللوحة، ويسمح لأشكال الخط الأسود بالظهور. غير أن لونا ساخنا طارئا يخترقه في جرأة، وكانه يتحدى كل تلك القواعد التي أرستها الخطوط السوداء فيما بينها.: ذلك هو الخط ذي اللون الأحمر. فيما تحيل بقعة باردة هذا الخط الاحمر على التلاشي، تلك هي البقعة الصفراء. فيما تجعل الخط الأسود يستحيل لونا ازرق. وكلا اللونين يشيران إلى البرود وجمود الحركة، وكأن الفنان يشير إلى حالة الموت. لننطبع، كمتلقين، بعناصر لونية تتحدى برودُتها سخونتَها، وحيويتَها سكونُها.
وإذا التفتنا إلى المهارة الفنية المستخدمة من جهة الفنان، فسنجد أن هذا العمل، قد تطلب مستوى وافٍ من التحكم والمهارة، في التعامل مع أدوات الخط، لإنشاء مثل هذه الأشكال المرنة المنسابة، باعتمادها على الخط الديواني. إذ تم تنفيذ الخط بطريقة احترافية، غامر به الفنان إلى أبعد الحدود، لكنه ظل محافظا على هويته برغم تكسير قواعده التقليدية.
واما من حيث رصيد التكوين الكلي للوحة، فقد تم ترجيح التركيبة الكلية للوحة نحو المركز، مع مجموعة من الأشكال الخطية التي تخلق نقطة محورية هلامية، مما يبقي الزمن المهيمن على اللوحة زمنا متحركا ديناميكيا: فالتوازن فيها دائم التكيف وإصلاح أي خلل قد يفرض نفسه على المشهد العام. ذلك المشهد الذي يذهب بالفوضى إلى أقصاها، دون أن يدعها تتسبب في انهيار كلي للتكوين العام. كما يذهب بالتزاحم إلى منتهاه، دون أن يسمح له بتعدي المسحات الممكنة. وهو ما يؤبد حالة التوتر البصري بين الأشكال والمساحات الإيجابية والسلبية المحيطة بها.
ولم يكن لذلك التوازن الديناميكي المتوتر المستمر أن يتم، دون وجود التفاعلً المتباين ما توحي به الطبقة الخلفية من نعومة وهدوء. وهو تباين شرطي وجودي. إذ لو اكتست الخلفية خاصية السطح، أو كان العكس، لاستحال تحقيق ذلك التوازن المستمر، ولانهار بنيان اللوحة برمته.
من خلال كل تلك التقنيات، من الواضح أن الفنان يعبر عن حالة من الجموح العقلاني، حيث تتعايش كل العواطف المتناقضة، بما يسمح لبقيتها بالاستمرار في الوجود. وهو وضع واقعي غير مريح، لكنه ضروري، يعكس قدرا من الصراع الشخصي أو الاجتماعي.
إن السمة التي غلبت على عمل الفنان يوسف في هذا العمل، استخدامه للخط العربي بطريقة تجريدية، حيث يتم ركز على الشكل والحركة أكثر من المعنى الحرفي. فيما أظهر اللوحة قوة تعبيرية وعاطفية، معتمدا على الألوان والخطوط لنقل تلك المشاعر والأحاسيس. دامجا بين الفن التقليدي (الخط العربي) وأساليب الفن الحديث، مثل الأسلوب التعبيري الانطباعي وأسلوب الجرافيتي. موظّفا تباين السطح الديناميكي والخلفية الساكنة. وهو ما منح عمقاً وغنى للعمل الفني. وقد اعتمد الفنان، في ذلك على لوحة ألوان محددة، تراوح بين الأبيض والرمادي الفاتح، مع اختراق للأحمر ثم الأصفر، وظهور خجول للون الأرزق، لإضفاء التباين والديناميكية. وهو في كل ذلك يتلاعب بعناصر التكوين لخلق توازن ديناميكي، مع استخدام التوتر البصري أحياناً لإضفاء القوة على العمل. ومع كل ذلك الجموح، يظل الفنان مرتبطا بجذور ثقافية وروحية عميقة، وهو ما يدل عليه استخدام الخط العربي وتجسيده للتراث الفني العربي والإسلامي.
وبناء على كل ما سبق، وكون اللوحة تعكس الحيوية والتعبير العاطفي الغني، فإننا نقترح تسميتها: “رقصة الأحاسيس”.

ثالثا: برزخ العتيق والبديع (قراءة ستبدالية):

نقصد بالقراءة الاستبدالية، تلك القراءة النقدية التي تستحضر نقط القوة والضعف، والإمكانات الممكنة لتطوير العمل الفني.
يمكن إثبات أن لهذا العمل عناصر قوة، وعناصر ضعف: إذ تتجلى قوته في القدرة على دمج الخط العربي مع أساليب فنية معاصرة، وهو ما يظهر مستوى عالٍ من الإبداع والابتكار. كما يتجلى في استخدام الألوان والخطوط بطريقة تنقل الأحاسيس بفعالية، مما يخلق تجربة عاطفية غنية للمتلقي. فيما يظهر الفنان اتقانًا لتقنيات مختلفة، مثل الطبقات والملمس، وهو ما يعطي عمله عمقًا وجودة معتبرة. ثم إن استخدامه للخط العربي يضفي بعدًا ثقافيًا وروحيًا، وأبعادا غنية بالمعاني، وربطا مشتركا قويا، بينه وبين المتلقي العربي والإسلامي خاصة.

وأما من جهة أخرى، فيمكن تسجيل بعض نقط ضعف هذا العمل، في هاجس التجريد المفرط، والذي يجازف فيه الفنان باحتمال فقدان الارتباط مع الجمهور الذي يستهدفه، والذي قد لا يتمكن من تفسير أو فهم الرسالة المقصودة. كما قد يواجه الفنان تحديات أخرى، تتجلى في القدرة على الحفاظ على توازن التكوين للوحة، خاصةً عندما يكون هناك تركيز كبير على المناطق المركزية أو الطبقات الكثيفة.
وإذا ما نظرنا إلى هذا العمل، في سياق بقية أعمال الفنان يوسف المتنوعة، فيمكن أن نسجل أنه، بينما يعد التنوع ميزة، وتعبيرا عن التطور المطرد للمراحل الفنية في مسار الفنان، إلا أن أي نمط إذا لم يصل به الفنان إلى منتهاه، حتى يجسد مرحلة فنية ناضجة، ليتحول إلى غيرها بعد ذلك، فقد يؤدي أيضًا إلى اضطراب في الهوية الفنية، حيث قد يبدو الأسلوب متقلبًا أو غير متسق في بعض الأحيان.
وهنا نصل إلى بعض المقترحات التي قد تستثمر نقط قوة هذا النمط، وتقلص أوجه ضعفه.
فللتعامل مع خطر الإفراط في التجريد، نقترح تطوير التوازن بين التجريد والتمثيلية، إذ يمكن للفنان تقديم عناصر تمثيلية أو شبه تمثيلية لتوجيه الجمهور نحو تفسير معين. كما يمكنه استخدام بعض العناصر السردية الرمزية، بدمج رموز أو عناصر تساعد في سرد قصة أو توصيل فكرة محددة. ولتحسين التوازن في التكوين، يمكن الاهتمام أكثر بتوزيع العناصر بشكل متوازن في اللوحة. واستخدام المساحات السلبية، بتركها فارغة أو أقل كثافة لتحقيق التوازن البصري.
ولمعالجة التنوع الشديد في الأسلوب، يمكن تطوير “بصمة فنية” مميزة، حتى مع الحفاظ على التنوع، باعتماد العناصر التركيبية والنحوية للقوة، والعناصر التركيبية والنحوية المقترحة، واعتمادها كبصمة فنية خاصة. ومنها: الاستمرار في استخدام الخط العربي بأسلوب تجريدي وتعبيري، حيث إن هذا هو العنصر الأكثر تميزًا في أعمال الفنان يوسف حسان. ولكن يمكنه تطوير هذا الأسلوب بشكل أكبر، مع الحفاظ على الجوهر العاطفي والتعبيري للخط. ثم إن استخدام حاملة الألوان المميزة أو التقنيات اللونية الفريدة، يمكن أن يكون جزءًا مهمًا من بصمته الفنية، حيث يمكن للفنان استكشاف تركيبات لونية تعكس شخصيته الفنية. وحتى مع التركيز على بعض العناصر الثابتة، من المفيد أن يستمر الفنان في التجريب والابتكار لتطوير أسلوبه وتوسيع حدود تعبيره الفني، دون الخروج التام عن النمط العام، الذي تضمنه العناصر المشتركة التي اختارها هوية فنية له.

أن الاستمرار في اتجاه يجمع بين الخط العربي التجريدي والتعبيرية اللونية، مع التركيز على الطابع العاطفي والروحي في أعمال الفنان يوسف، هو عنصر قوة كبير، ينبغي الحفاظ عليه. مثله مثل التركيز على دمج العناصر الثقافية التقليدية بأسلوب عصري، والذي يخلق توازنًا بين التراث والابتكار.
بهذه الطريقة، يمكن للفنان تطوير هوية فنية قوية تعكس شخصيته ورؤيته الفنية، مع الحفاظ على المرونة والقدرة على التطور والتجدد.
وفي هذا الصدد، نستحضر فنانين مؤثرين، لا تزال أعمالهم تتفاعل لحد الآن، وقد استكشفوا هذا النوع من الفنون. مثل الفنان العراقي حسن مسعودي، والذي يُعتبر من رواد الخط العربي المعاصر، حيث يمزج بين التقليدية في الخط والتجريدية في الرسم، مقدماً تفسيرات جديدة وعصرية لهذا الفن. كما نجد الفنان إل سيد، وهو فنان فرنسي من أصل تونسي، يجمع في أعماله بين الخط العربي والفن المعاصر، مقدماً أعمالاً تتميز بحجمها الكبير وتأثيرها البصري القوي. أما الفنان المصري أحمد مصطفى، فيُعد من أبرز الفنانين في مجال الخط العربي المعاصر، والذي استطاع أن يجمع في أعماله بين الأسلوب الجمالي التقليدي والتجريد الحديث.
كل هؤلاء الفنانين يقدمون نماذج محتملة، لكيفية تطوير أسلوب فريد يمزج بين التقاليد الفنية والتعبيرية المعاصرة.

خاتمة:

إن اللوحة التي أمامنا، هي عبارة عن مزيج معقد من الأساليب والتقنيات والتقاليد. إنها خطاب مرئي بين الماضي والحاضر، والنص المقدس والفن السكولاريتي، والتراث الثقافي والتعبير الشخصي: فقد اجتاز الفنان هذه التقاطعات بمهارة، ليصنع قطعة غنية بالتفاصيل والمعاني. ولتطوير هذا العمل بشكل أكبر وتعزيز تميزه، قد يستكشف الفنان المزيد من الأنسجة المتباينة أو يقدم عناصر توفر نقطة محورية أكثر وضوحًا، وتوجه عين المشاهد خلال رحلة الخط.

ماهر الملاخ

ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى