“مكة مثابة الإيمان: من مركز التكوين الإيماني إلى قطب الوظيفة الحضارية” (4/1)
(في دلالات الطوفان وواجبات الأمة)
بقلم: ماهر الملاخ
مقدمة:

حدث السابع من أكتوبر قد فرض علينا إعادة قراءة كل شيء، ابتداء من القرآن الكريم إلى السيرة إلى التاريخ إلى الواقع الحالي.. ومن ضمن ما فرض علينا أن نعيد قراءة ذواتنا كأمة، هويتنا وأسس تكويننا ورسالتنا ووظيفتنا في هذه اللحظة من التاريخ: ففي زمن التمزق الرمزي، وانفلات البوصلة الروحية، تبرز الحاجة إلى إعادة اكتشاف “المثابة” ليس بوصفها مكانًا جغرافيًا، بل باعتبارها قطبًا إيمانيًا ووظيفة حضارية. وحين نعود إلى القرآن الكريم، نجد أن مكة لم توصف بأنها مجرد بيتٍ مبارك، بل وُسمت بـ”المثابة”، بقول الله تعالى:
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ (البقرة: 125).
هذه “المثابة” ليست محطة حجٍ موسمية فحسب، بل نقطة مركزية في هندسة الإيمان ذاته، ومفتاح لفهم بنية الرسالة الإسلامية، وتاريخها، ووظيفتها الكونية.
فكما لا تقوم الصلاة بغير قبلة، لا يكتمل الإيمان بغير مركزٍ تُشدّ إليه الأفئدة، ويُجدد فيه العهد، وتُستعاد عنده المعاني الأولى. فقد كانت مكة، ولا تزال، محور الثبات حين تتهاوى المراكز، وبوصلة النجاة حين تفقد الأمة اتجاهها.
كما اختارها الله عز وجل لتكون مهبط الوحي، ومنطلق الرسالة، ومعراج المعنى، ومهوى الأفئدة… لا لأنها الأقرب إلى مراكز التحكم والتأثير، بل لأنها الأبعد عن الجاذبية الأرضية للقوة، والأقرب إلى نقاء التوحيد المجرد من الوسائط.
هذا المقال لا يستعرض فقط تاريخ مكة، بل يفكك وظيفتها في بناء الأمة، ويحلل محاولات تفريغها من معناها عبر التاريخ، من التأسيس التوحيدي الإبراهيمي، إلى الانحراف الوثني قبل البعثة، إلى مشاريع التغريب، وحتى الأطماع الصهيونية المعاصرة التي تحاول إعادة كتابة الخريطة الرمزية للعالم.
فمن أراد أن يفهم سرّ تماسك الإسلام، فعليه أن يبدأ من هناك… من مكة، لا كمدينة تضم الكعبة المشرفة، بل كمثابة للإيمان والمعنى.
المحور الأول: المدخل التأصيلي: في معنى المثابة؟ ولماذا لا يكتمل الإيمان دون مركز تُشدّ إليه الأفئدة؟
في مستهل هذا التأصيل، لا بد أن نُمعن النظر في المفردة القرآنية التي اختارها الوحي لوصف مكة: “المثابة”. فاللفظة جاءت في قوله تعالى:
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ (البقرة: 125).
- المثابة في اللغة:
يفيد جذر الكلمة (ث و ب) معنى الرجوع والتكرار والعودة المستمرة. ومنه “ثاب الناس إلى المكان” أي رجعوا إليه مرارًا. فالمثابة ليست مجرد موضع يُزار، بل نقطة إيمانية يعود الناس إليها كلما تاهت بهم السبل، أو تفرقت بهم الأهواء، أو ضعفت منهم العزائم. إنها مرجع دائم ومتكرر لتجديد الإيمان وتماسك الرموز.
- المثابة في المنظور القرآني:
حين وصف الله عز وجل البيت الحرام بـ”المثابة”، لم يكن المقصود مجرد مقصد للحج أو الطواف، بل مركزا يُعيد تشكيل الإيمان كلما تآكل. ولهذا قال إبراهيم عليه السلام في دعائه:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي… عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ… فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (إبراهيم: 37).
فالهُويّة الإيمانية لا تُبنى فقط بالنص، بل تحتاج إلى فضاء تُشدّ إليه الأفئدة، فتتجدد فيه النية، ويتجذر فيه العهد، وتُستعاد فيه معاني الرحلة إلى الله.
- المثابة: أكثر من جغرافيا، إنها مصدر للإسناد الإيماني:
الفرق بين المكان والمثابة كالفرق بين “الساحة” و”المرجعية”. فالساحة قد تُحتل، أما المثابة فهي ما يُعيد الأمة إلى أصلها، مهما تغيرت الأمكنة.
فالمثابة لا تعني وجود الكعبة فقط، بل تدل على حضور مركز روحي جامع، يعيد إنتاج المعنى، ويوجه بوصلة السير، ويمنح الرسالة انبثاقها وتجددها.
- لماذا لا يكتمل الإيمان بدون مثابة؟
لأن الإيمان – بوصفه مركبًا من المعنى والانتماء – لا يستقيم في الفراغ. وكل أمة رسالية تحتاج إلى مثابة تُجمع عندها شتات العقائد والتأويلات، وتُعيد إليها الأرواح تجديد العهد كل عام، وتحفظ وحدة القلب مهما تباعدت الأجساد.
من دون “مثابة”، تصبح الرسالة عرضة للتلاشي، وتتحول القبلة إلى رمزية متشظية، ويتحول الدين إلى طقس ملتبس.
ولذلك، كانت مكة هي أول ما ثبت الله به أركان الإيمان، وأساس ما بدأ به التوحيد، وقاعدة ما سعى الأنبياء إلى حمايته: من إبراهيم إلى محمد صلى الله عليهما وسلم.
المحور الثاني: مكة في القرآن: تأسيس رمزي يتجاوز الجغرافيا:
لم يكتفِ الوحي الإلهي بوصف مكة بالمثابة، بل جعل منها محورًا سرديًّا متكرّرًا في بنية القرآن، يرتبط فيه المكان بالمعنى، والجغرافيا بالرسالة. ومن بين أعظم تجليات ذلك، ما ورد في قوله تعالى:
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ (البقرة: 125).
فهذه الآية لا تؤسس فقط لعلاقة المؤمن بالبيت الحرام، بل تؤسس لهندسة روحية تجعل من مكة رمزًا دائمًا للتجدد العقدي والأمان الوجودي.
- التأسيس الإبراهيمي: من الوادي غير ذي زرع إلى المركز الروحي للعالم:
بدأت قصة مكة من نقطة تبدو – جغرافيًا – بعيدة عن مراكز الحضارة: وادي غير ذي زرع. لكن هذا البُعد عن أدوات القوة المادية كان في الحقيقة تأسيسًا لقدسية بديلة، تقوم على الاتصال بالله لا على السيادة البشرية. ولذلك جاء دعاء إبراهيم: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ (إبراهيم: 37).
وفي هذا الدعاء، تتحول مكة من مجرد سكن ذريّة، إلى مقصد تتجه إليه أفئدة الناس: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾. وهنا، تنبثق رمزية مكة من كونها بيتًا لله لا بيتًا لسلطان بشري، ومن كونها قبلة للقلوب لا فقط وجهة للأقدام.
- رمزية الأمن في بيت الله: أمن العقيدة قبل أمن السلاح:
يربط القرآن بين المثابة والأمن، لا بوصفه فقط أمنًا سياسيًا أو عسكريًا، بل أمنًا عقديًا يُحرّر الإنسان من الخوف الوجودي والتيه الروحي. ولهذا وصف البيت بأنه:
﴿أَمْنًا﴾، أي ملاذًا لا تخاف فيه الأرواح من التيه، كما لا تخاف فيه الأجساد من القتل.
وقد أكد ذلك في قوله: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (القصص: 57)،
ليربط، في نسق متكامل، بين الأمن والاكتفاء، وبين الإيمان والاستغناء.
- الاستثناء الجغرافي لمكة: مركزية التأثير رغم هامشية التحضر؟
كان في زمان إبراهيم، كما في زمن محمد صلى الله عليهما وسلم، مراكز حضارية كبرى: ممفيس الفرعونية، وبابل الآشورية، وفارس الأخمينية، وقسطنطينية البيزنطية… لكنها، مع ذلك، لم تكن مؤهلة لتكون مركزًا للوحي. لماذا؟
لأن الرسالة تحتاج إلى أرض لا تطغى فيها سلطة القوة على نداء الفطرة. فمكة – ببعدها عن جبروت السياسة – كانت أنسب لتكون مركزًا خالصًا لبيت الله، لا يشوّش فيه الناسُ على جلال سلطانه.
- تكرار الحديث عن البيت الحرام في القرآن:
بناء التصور التوحيدي الجماعي: لقد جاء ذكر مكة والبيت الحرام في سور عديدة: البقرة وآل عمران والتوبة وإبراهيم والحج والفيل وقريش، وغيرها. وهذا التكرار لا يُقصد به فقط تثبيت المعلومات، بل بناء ذاكرة جمعية للأمة حول قدسية هذا المركز، وربط العقيدة بالتاريخ، والمكان بالرسالة.
من الجغرافيا إلى الوظيفة:
مكة ليست موقعًا، بل مركزًا وظيفيًا للإيمان: لا يتعامل القرآن الكريم مع مكة المكرمة كمجرد نقطة على الخريطة، بل باعتبارها مؤسسة رمزية لإنتاج المعنى، وتجديد العهد مع الله. ولهذا لا يُذكر البيت الحرام إلا مقرونًا بفعل تعبّدي، أو وظيفة توحيدية، أو قيمة روحية. وهذا ما يجعل مكة ليست مكانًا يُزار فقط، بل معنى عميقا يُستبطن في الوعي، وتُشدّ إليها أفئدة الأمة، كلما احتاجت الى استعادة صفاء البدايات.
المحور الثالث: مكة كمختبر إيماني في السيرة النبوية (610–630م): التكوين والتحدي والرسوخ:
حين نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم سنة 610م، لم تكن مكة مجرد مدينة، بل كانت المختبر العقدي الأول لصياغة التصور الإيماني في بيئة مشبعة بالشرك، ومفتوحة على التجارة، ومتجذرة في تقاليد قبلية ضاغطة. غير أن مكة قد تحوّلت، خلال العشرية الأولى من البعثة إلى منصة اختبار كبرى لمعاني التوحيد، وللقدرة النبوية على إنتاج مجتمع جديد من قلب بنية مغلقة جامدة معادية.
- دار الأرقم: أول مدرسة سرية لإعادة صياغة الإنسان:
فمنذ اللحظة الأولى، لم يعتمد النبي على قدرات عجائبية لتغيير الأشياء، بل انطلق من تربية توحيدية لإعادة صياغة الإنسان، في مكان متوار خفي: دار الأرقم بن أبي الأرقم. فبين سنتي 610 و613م، كانت تلك الدار مختبرًا لصناعة الجيل الأول، جيل الإيمان والوعي والالتزام.
لم تكن النهج النبوي مجرد تلقين للمعطيات، بل تحويل للباطن الإنساني، من الارتباط بالقبيلة والعشيرة، إلى خضوع لله وحده. بهذا الجيل، بدأت ملامح “أمة التوحيد” تتشكل، لا في بنيات سياسية، بل بتشكيل إرادات متحررة للنفوس والعقول.
- المسجد الحرام: من ساحة شعائر جامدة إلى ساحة تدافع رمزي:
ففي 613م، وبعد ثلاث سنوات من العمل السري، جاء الأمر الإلهي: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: 94)،
فانتقلت الدعوة من التخفي إلى الإعلان. وهنا، تحوّل المسجد الحرام من مكان لممارسة شعائر متوارثة إلى ساحة مواجهة رمزية حادة. فأصبح الموقع الذي تدار فيه “الشعائر الشركية” هو نفسه منصة لتفكيكها.
إنه تفكيك من الداخل: أن تُفقد الأصنام هيبتها في قلوب الناس قبل اللجوء الى كسرها، وهو الدرس الاول في استراتيجية تكسير الارادة للبنية.
- التهجير الجزئي والحصار الكامل: تثبيت قدسية المكان بالصبر لا بالرد:
ومع تصاعد الاضطهاد، استشعر النبي عليه السلام احتمال الحصار، فوجّه بعض أصحابه إلى الحبشة (615م)، لا هروبًا بل بحثًا عن فسحة خارج القبضة القريشية، بينما ظلّ هو في مكة ليواجه، هو وبقية اصحابه وأهله مرحلة الحصار الكامل في شعب أبي طالب بين 616 و619م.
ثلاث سنوات من الجوع والعزلة، لكنها كانت – بعمقها – فعلًا تأصيليًا لقدسية المثابة: أن الصبر على المكان، وعدم التفريط فيه، هو جزء من الدفاع عن رمز التوحيد.
- غياب السند وانكسار البديل: موت الزوجة والعم وجفاء الطائف:
في عام الحزن (619م)، ماتت خديجة، ومات أبو طالب، وذهب النبي إلى الطائف، فقوبل بالصد والدفع. لكن اللافت، أن النكسة لم تنتج ارتدادًا، بل رسوخًا. فكلما ضاقت الأرض على النبي، ازداد ارتباطه بالبيت، بالصلاة فيه، وباستحضار رمزيته.
- الإسراء والمعراج: مكة بوابة الاتصال الكوني:
فقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج – في نفس سنة الحزن – لتؤكد أن مكة ليست فقط موطن الضيق والمعاناة، بل بوابة الوصول إلى أفق الشهود. فمنها بدأ الإسراء، وإليها عاد في ذات الليلة، لتبقى المثابة هي البداية والنهاية. لم يُنقل النبي من مكان إلى مكان، بل من بُعد إلى آخر… من المختبر الأرضي إلى العهد السماوي.
- بيعة العقبة الثانية (622م): انتقال الحماية دون زحزحة المركز:
حين بايع أهل المدينة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن البيعة مجرّد دعم سياسي، بل إقرارًا بأن المركز الروحي للأمة لا يزال في مكة، حتى وإن كانت تحت الحصار. لقد انتقلت الحماية الجسدية إلى المدينة، لكن الوجدان ظل مشدودًا إلى الكعبة، والمشروع النبوي لم يُحوّل بوصلته عن مثابة التكوين الأولى. وحتى وإن كانت القبلة آنذاك نحو القدس، فإن مكة لم تُغادر قلب النبي، ولا وعي الرسالة؛ فقد كانت الانتماء المؤسس، والمقصد المنتظر، والبيت الذي سيُطهَّر عند اكتمال المسير. كانت تلك البيعة أول اتجاه نحو تحويل الارادة الى بنية موازية.
لقد كانت مكة في السيرة النبوية مختبرًا لإنتاج التصور الإيماني الجماعي، وتقوية الإرادة التوحيدية الجديدة، لم تُؤسس فيه دولة، لكن تأسس فيه مفهوم الأمة. لم تكن فيه معارك كبرى، لكن دارت فيه أشرس معارك الوعي.
ومن يفهم ما جرى في مكة، يفهم أن الإيمان لا يُبنى على القوة، بل على المعنى، وأن الإرادة لا تنتصر بالمناجزة، بل بالصبر والمصابرة.
المحور الرابع: التحول من المثابة إلى المثابة الكبرى: الهجرة لا تعني التخلي (622م – 630م):
لم تكن الهجرة النبوية مجرّد انتقال مكاني من مكة إلى المدينة، بل كانت تحوّلًا استراتيجيًا في هندسة الرسالة، حيث انتقلت الدعوة من طور التكوين إلى طور التمكين، دون أن تتخلى عن مركزها العقدي الأول. فمكة، رغم الاضطهاد والحصار، ظلت المثابة الأصلية التي يُشد إليها القلب، ويُقاس بها صدق الاتجاه. وعندما غادرها النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ذلك انسحابًا من موقع القدسية، بل خطوة نحو استعادتها في صورتها الكبرى: محررة، مطهَّرة، وموحِّدة للأمة. هنا سنتابع كيف حافظ المشروع النبوي على وفائه للمثابة، رغم الابتعاد عنها جغرافيًا، وكيف تحوّلت الهجرة إلى توسعة للفضاء الرسالي، لا استبدالًا للوجهة أو المعنى.
- الهجرة: تفكيك الحصار الجغرافي لا الرمزي (622م):
فالهجرة لم تكن هروبًا من الاضطهاد، بل تحررًا من الحصار المكاني لمواصلة المعركة الرمزية الكبرى حول مكة. فالنبي لم يهاجر من أجل استيطان المدينة، بل من أجل العودة إلى البيت، إلى “المثابة”. ولهذا قال حين خرج من مكة:
“والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت” (رواه الترمذي).
فالمكان لم يُغادر وجدانه، بل تحوّلت المدينة إلى قاعدة لإعادة توجيه البوصلة نحو مكة.
المدينة في قلب الهندسة النبوية: لقد مثلت المدينة المنورة حاضنة التمكين ومختبر البناء الحضاري: فهي المرحلة التي تحوّل فيها الإيمان من عقيدة فردية إلى جماعة واعية، وتحولت في إرادة التوحيد الى بنية قائمة: ففيها بُني المسجد، ووقعت المؤاخاة، ووضعت الصحيفة، وتشكلت أول كيان سياسي تستبطن توجيهات الوحي. فكانت فضاء لتحويل القيم إلى نظم، والأخلاق إلى سياسة، والرسالة إلى مؤسسة. وتحقق فيها قوله تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم…”
المحور الخامس: هي مركز التوازن بين الروح والمؤسسة:
لم تكن دولة المدينة مجرد سلطة، بل كانت إطارًا يؤمِّن حرية التوحيد، ويجعل الشهادة على الأمم ممكنة وفاعلة. فالمدينة هي الجسر بين التوحيد المجرد في مكة، والوظيفة العالمية القادمة في القدس. هي الحلقة الوسطى التي دونها لا يتحقق لا الفتح الأول، ولا الشهادة الكبرى.
- الصلاة نحو القدس… والقبلة في القلب مكة:
رغم أن المسلمين صلوا بداية في المدينة نحو بيت المقدس، إلا أن ذلك لم يكن انسلاخًا عن مكة، بل مرحلة مؤقتة في التوجيه التعبدي. وقد ظل النبي يتطلع إلى إعادة القبلة، حتى جاء الوحي الحاسم في السنة الثانية للهجرة: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا…﴾ (البقرة: 144) هنا، تمت استعاضة الحضور بالاتجاه: فبعد الابتعاد الجغرافي عن مكة، هي ها تصبح حاضرة كقبلة للعبادة.
- الغزوات الكبرى: كل الطرق تؤدي إلى مكة:
فمنذ السنة الثانية للهجرة، بدأت الغزوات الكبرى: فكانت بدر (2هـ/624م): أول نصر كاسر لهيبة قريش، الحارسة السياسية لمكة. ومثلت أُحد (3هـ/625م)، رغم الخسارة، حالة ثبات وتضحية.وشكلت الخندق (5هـ/627م) محطة انكسار لمحاولة اجتثاث للتوحيد، فبدأ ميزان المبادرة يتغير.
كل هذه المحطات كانت تمهيدًا لانتقال المشروع من الدفاع إلى الهجوم، ومن الحصار إلى التحرير.
- صلح الحديبية (6هـ/628م): كسر الحاجز النفسي قبل الحاجز العسكري:
كان النبي يحاول العمرة، لا القتال. ومع أن قريش صدته، إلا أن صلح الحديبية أعاد رسم المشهد: فاضطرت قريش الى الاعتراف ضمنيًا بشرعية البنية التوحيدية الجديدة في المدينة. وبذلك كُسر الحاجز الرمزي الذي كان يُحيط بمكة كمدينة محرّمة على المؤمنين. ومهّد الصلح الطريق للفتح دون قتال، فكان النصر بالمعاهدة، لا بالسيف.
- فتح خيبر (7هـ/629م): تحييد العمق المعادي لمكة:
لم يكن فتح خيبر مجرد نصر على اليهود، بل تفكيكًا لحلف استراتيجي كان يمد قريشًا بالقوة، وتأمينًا للطريق من المدينة إلى مكة، عبر تحصين الشمال.
وهكذا يتأكد، الهجرة لم تكن أبدا لحظة انفصال عن مثابة الإيمان، بل لحظة تحوّل نوعي يعيد ترتيب الأولويات دون التخلي عن المركز. فمكة لم تُغادر الرسالة، بل ظلت الهوية والقبلة والغاية والذاكرة.
ولهذا، فإن الفتح القادم لن يكون فتح أرض… بل فتح معنى.
المحور السادس: فتح مكة: لحظة ترسيخ المثابة كركن في الشرعية الإسلامية (8 هـ / 630 م):
في صباح العشرين من رمضان، من السنة الثامنة للهجرة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة مهيبًا، متواضعًا، منتصرًا بلا سفك دماء، وأعادها إلى أصلها الأول: بيتًا خالصًا لله، ومثابةً للناس. لم يكن فتح مكة مجرد نصر عسكري أو انتصار سياسي، بل كان اللحظة الفاصلة التي استعادت فيها المثابة معناها الكامل، وصدر فيها إعلان التوحيد العالمي من قلب البيت المحرّم.
- إزالة الأصنام: تحرير الرمزية من هيمنة الوثنية:
كان أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة أن كسر الأصنام بيده، وهو يردّد قول الله: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: 81)
وبذلك، لم تكن العملية تحرير أرض فقط، بل تطهير معنى، واستعادة للرمز المختطَف.
- عفو المنتصر: مكة لا تعود بالسيف، بل بالرحمة:
فقد قال لأهلها: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” بهذه الكلمة، أُغلقت دورة الدم، وفُتحت دورة البناء. مكة عادت، لا لأنها خضعت، بل لأنها استُرجعت إلى وظيفتها الأصلية. ولهذا، لم تُعيّن عاصمة سياسية، بل بقيت قلب الرسالة لا مركزا للسلطان.
- إعلان عالمي للتوحيد:
لقد أُعلن من المسجد الحرام نداء: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.” كانت هذه الجملة إعلان تحرير الرمزية، وتحويل مكة من نقطة نزاع إلى منصة نداء عالمي للتوحيد.
- تصحيح المعايير: مكة ليست غنيمة:
رغم فتحها، لم يُقسّم النبي أرضها، ولم يعط أهل المدينة شيئًا منها. فمكة ليست فريسة انتصار، بل ميراث نبوّة. ولهذا لم يجعلها مركزًا إداريًا، ولا دار خلافة، بل أبقى عليها قبلة ومعقلًا، لا عاصمة ومقرًا.
- ما بعد الفتح: استعادة الشرعية من نقطة الانطلاق:
لقد تحولت مكة إلى منطلق جديد للدعوة، فأرسل منها النبي السرايا إلى الطائف، واليمن، ونجران. وأوصى بحجة الوداع سنة 10 هـ ليؤكد رسالتها الكونية. ثم قال في خطبته الأخيرة: “خذوا عني مناسككم”، لتتحول مكة إلى ذاكرة عملية للرسالة، ومرجع تعبّدي أبدي.
لم يكن فتح مكة خاتمة المسير، بل بداية التثبيت. لقد تحولت مكة من مثابة رمزية إلى مرجعية شرعية، ومن موقع مختطَف إلى قطب رسالي تُقاس به المواقف والولاءات.
ومنذ ذلك اليوم، لم يعد التوحيد مجرد عقيدة تُؤمن، بل مثابة تُقصد، وسيرة تُحيا، وشرعية تُستمد.
المحور السابع: الوظيفة المتجددة: لماذا تظل مكة معيار الثبات في زمن التمزق؟
في كل لحظات الانهيار الكبرى في تاريخ الأمة، ظلت مكة ثابتة في موقعها، متعالية على الصراع، شاهدة على الوفاء أو الانحراف. لم تكن حاضرة بالسلاح ولا بالبيان السياسي، لكنها ظلت المحراب الصامت الذي يفضح الانقسام، ويكشف غربة القلوب عن المثابة. وهذا هو جوهر وظيفتها المتجددة: أن تكون مرآة الإيمان، ومقياس الصدق، وبوصلة العودة.
- المثابة معيار ثابت لا يتغير:
“ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم” (الحج: 25)، وعد ووعيد لا أوضح منه، تحقق عبر الازمان، فمكة ليست كأي أرض، بل هي منطقة حدٍّ إيماني وأخلاقي. تكفل ربها بها، أمر وعاه جد النبي حين قال لأبرهة الاشرم: “للبيت رب يحميه”. وكما أن كل رغبة في العبث بالمثابة، يكشف خللًا في جوهر الانتماء، فكذلك، دلت الوقائع، أن كل من لم يثبت على عهد مكة، لن يثبت على عهد القدس.
- لا شرعية خارج اتجاه القبلة:
وسواء في زمن الخلافة أو الاحتلال، في عصر الحداثة أو ما بعدها، فلم ينجُ مشروع من التآكل إن قطع صلته بمكة: فمن يروم نزع الشرعية من القبلة، أو يسوّغ لنفسه المساس بهيبة الكعبة ومكانة مكة، بدعوى التحديث أو الاندماج في النظام العالمي المهيمن، ومحاولة إخضاعها لمعايير المصالح السياسبة وحالات بورصات السوق، إنما يسارع في تدمير ذاته وإنهاء كيانه.
- مكة ليست طقسًا… بل ميثاقًا:
الحج ليس فقط أركانًا، بل تجديدًا للانتماء إلى بيت إبراهيم ومحمد.فالطواف والسعي والوقوف… ليست حركات فحسب، بل مبايعة سنوية لمثابة الإيمان.
- الثبات عند المثابة… شرط الوصول إلى منصة الشهود:
لا يمكن للأمة أن تشهد على العالم، إن خانت بيتها الأول.فمن لم يثبت على صخرة مكة، لن يثبت على أسوار القدس، ولا على أطلال بغداد، ولا في أروقة الأمم. فمكة هي نقطة التوازن الإيماني والسياسي.من اختل في التعامل معها، اختل في موقعه في التعامل مع كل العالم المحيط به.
- الوجدان الجمعي للمؤمنين يبدأ منها:
حين تضعف الهوية، تبقى الذاكرة الروحية للمؤمن معلّقة بمكة: تُشدّ إليها القلوب، ويُرتّل فيها القرآن، وتُقام فيها الصلوات التي لا تنقطع. فيها تذرف عيون التائبين، ويعتكف المجتهدون، وبها يجد المهاجرون معنى الانتماء الأول. هي ملاذ القلوب حين تستوحش الدنيا وتتغير الأحوال.
- لا تحرير للقدس إن لم تُسترد مكة:
لا استعادة للقدس، ما لم تكن مكة حاضرة في الوجدان والبوصلة. واهمٌ من يظن أن تحرير المسرى سيتم دون رفع الحصار عن مكة، فالطريق إلى منصة الشهود لا يمر إلا عبر الاستقامة على مثابة الإيمان.
ليست مكة مجرد بداية في الزمن، بل هي ثبات في المعنى. منها بدأت الرسالة، وفيها تُختبر المواقف، ومن عندها يُستأنف البناء. فلا مناص من أن تسترد الأمة موقعها في هذا العالم، قبل أن تعيد تجديد إرادتها عند البيت.
المحور الثامن: تفكيك المثابة: محاولات نزع مركزية مكة من ذاكرة الأمة ووظيفتها الرسالية:
ليست هي المرة الأولى في التاريخ، التي تتعرض فيها مكة الى محاولات التفكيك الرمزي لهيبتها ومركزيتها، فأحداث الأمة الإسلامية يشهد سلسلةً من المحاولات ـ الداخلية والخارجية ـ الرامية إلى إفراغها من مضمونها التوحيدي، وتحويلها إلى مجرد شكل يمارس فيه طقس منزوع الدلالة.
- الانحراف القرشي المبكر – تحويل المثابة إلى منصة وثنية:
قبل البعثة المحمدية، لم يكن الخطر على البيت الحرام خارجيًا بل داخليًا. فقد حولت قريش قدسية الكعبة إلى رأس مال ديني-تجاري، فوضعت فيها 360 صنمًا، وربطت حج الناس إليها بمنظومة مصالحها السياسية والاقتصادية. كان هذا أول استهداف وظيفي للمثابة: حين تُفرغ الرمزية من التوحيد، وتُدار بالشرك والسوق لا بالرسالة والميثاق.
“تفكيك المثابة: محاولات نزع مركزية مكة من ذاكرة الأمة ووظيفتها الرسالية”:
لم يكن مستغربًا أن تكون المثابة هدفًا مبكرًا للعدوان الخارجي، كما في واقعة أبرهة الحبشي، الذي قاد جيشه لهدم الكعبة سنة مولد النبي، في محاولة لنقل المركزية الدينية من مكة إلى اليمن، عبر بناء “الكنيسة القليس”.
كان ذلك أول إعلان صريح لمحاولة انتزاع مركز التوحيد لصالح مشروع سياسي/ديني بديل، لكن السماء أسقطت تلك المحاولة قبل أن تتحقق، ليُحفظ للمثابة عهدها.
غير أن الأخطر من عدوان الخارج، هو عدوان الداخل باسم الدولة أو التأويل، كما فعل الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 73 هـ، حين قصف الكعبة بالمجانيق، وأحرق جانبًا منها، فقط ليُسقط خصمه عبد الله بن الزبير.
لقد تحوّلت الكعبة حينها من “مثابة” تُشدّ إليها القلوب، إلى رهينة في معركة سلطة دموية.
وكان ذلك أول شرخ داخلي في حرمة المثابة، حيث قُدّمت الدولة على البيت، والملك على الميثاق.
- ما بعد الخلافة الراشدة – إقصاء مكة عن مركز القرار:
مع انتقال العواصم السياسية إلى دمشق ثم بغداد، تم إقصاء مكة من مركز صناعة القرار، ظلت مكة مثابة روحية، لكن غابت تدريجيًا عن التأثير الاجتماعي والثقافي والحضاري. ومع الزمن، تراكم شعور ضمني بأن مكة تُزار ولا تُستشار، تُمارس فيها الشعائر ولا تُصاغ منها المشاريع.
- البدائل المذهبية والباطنية – محا ولة احتلال “رمزية القبلة”:
ظهرت عبر التاريخ تيارات باطنية ومذهبية روجت لبدائل عن مكة: فجعلت من الكوفة أو النجف أو قم أو القدس نفسها مراكز روحية موازية. وسعت إلى خلق “محج” أو “مرجعية” لا تستند إلى المثابة الأولى. وهكذا بدأ انفصال الإيمان عن القبلة، والرسالة عن البيت، لتُؤسَّس ولاءات جديدة خارج ميثاق إبراهيم ومحمد عليهما السلام.
- التحديث القومي والاحتلال الفكري – مكة مناسك بلا رسالة:
منذ القرن التاسع عشر، ومع صعود الدولة القومية والأنظمة العلمانية، تم تقليص مكة إلى موقع شعائري، يُفصل عن الحضارة والفكر والشرعية، فأُفرغ الحج من مضمونه التوحيدي العالمي، وظهرت كتب مدرسية تفصل بين “الدين كمناسك” و”السلطة كمصدر وضعي”، وأُقصيت مكة من تصورات الأمة الحديثة عن القيادة والتشريع والتجديد.
- مشاريع التدويل الغربي – من مكة الخاصة إلى مكة الدولية:
بعض القوى الغربية ـ منذ حملة نابليون، ومرورًا باتفاقيات سايكس بيكو ـ طرحت تدويل مكة والوصاية عليها، وجعلها منطقة دولية تحت إشراف أممي. وقد كُشف عن وثائق في القرن العشرين تلمّح إلى ضمّ الحرمين إلى تراث الإنسانية لا الأمة، في محاولة لنزع السيطرة الرمزية للمسلمين عن مركزهم العقدي.
- الإعلام الحداثي – تفريغ مكة من المعنى:
تحولت مكة ـ في الإعلام الرسمي والمحلي ـ إلى صورة صامتة، ومشهد تقني: فالحج يُقدَّم كمناسبة لوجستية وتنظيمية، والمسجد الحرام يُعرض صامتا بلا صوت، والكعبة تُبثّ في نشرات الأخبار كما تُبث معالم باريس أو نيويورك… لكن بدون رسالة أو ذكر للتوحيد أو لاستئناف الرسالة أو تثبيت لقيمة المكان وقدسيته.
- الأطماع الصهيونية – “العودة إلى مكة” بدل القدس!:
منذ سنوات، ظهر تيار في بعض الأوساط الصهيونية المتطرفة، يدّعي أن مكة هي معبد بني إسرائيل الأصلي! ومن أخطر الأمثلة: كتاب: “The Return to Mecca: The Fractured Desert Tale of Adam and Eve” لـ A.J. Deus، والذي يسعى لإثبات أن اليهود يجب أن يعودوا إلى مكة لا إلى القدس، زاعمًا أن التاريخ التوراتي أُخفي، وأن الكعبة هي معبد سليمان الأصلي! إنه مشروع لإعادة هندسة الخريطة الروحية للعالم، وإفراغ مكة من رمزيتها الإسلامية، تمهيدًا لتحويلها إلى مَعلم مفتوح للرواية التوراتية الصهيونية.
لم تكن الهجمة على مكة دائمًا بسلاح، بل غالبًا ما جاءت بلبوس التجديد، أو باسم العالمية، أو بروايات بديلة.
لكن القاسم المشترك لكل المحاولات هو: تفكيك “المثابة” بوصفها ميثاقًا ومركزًا للرسالة. ومن أراد أن يُعيد نهضة الأمة، فلا بد أن يُحرر مكة من الغربة الرمزية، ويعيدها إلى موقع القيادة العقدية.
خاتمة: من حماية المكان إلى استعادة الرسالة:
لم تكن مكة في التاريخ الإسلامي مجرد مدينة مقدسة، ولا حتى مجرد قبلة تُشدّ إليها الرحال، بل كانت وما تزال مثابة الإيمان، أي القطب الإيماني الذي تنجذب إليه القلوب وتتشكل حوله الشرعية الروحية والمعنوية للأمة. لقد أسسها إبراهيم عليه السلام على ميثاق التوحيد، ورسّخها محمد صلى الله عليه وسلم على قاعدة النبوة، وحُفظت في الوجدان الإسلامي كمركز رمزي تتوازن به العقيدة، وتنطلق منه الرسالة.
لكن التاريخ لم يكن رحيمًا بمكة في كل مراحله. فمن انحراف قريش المبكر، إلى تهميشها الحضاري بعد الخلافة الراشدة، ومن المشاريع الباطنية والمذهبية، إلى محاولات التفكيك والتدويل والاستلاب الإعلامي، فقد ظلت المثابة تتعرض لمحاولات نزع، وتفريغ، وإعادة تشكيل.
وها نحن اليوم نواجه تحديًا غير مسبوق، يتمثل في محاولة إدماج مكة في الرواية الدينية الصهيونية المتطرفة، لا عبر القوة المسلحة، بل عبر تفكيك الرمز وتحويله إلى تراث مشترك بلا وظيفة رسالية.
إن الأمة التي تفقد مثابتها، تفقد بوصلتها، وإن ظلت تحتفظ بشعائرها. فالإيمان الذي لا يستند إلى مركز رمزي موحِّد، يتحول إلى طقس منفصل عن الذاكرة والرسالة. وإن الشرعية التي لا تُستمد من مكة، تفقد مشروعيتها النبوية وتتوه في متاهات الحداثة العمياء.
لهذا، فإن استعادة الأمة لنهضتها لا تبدأ من تطوير المناهج أو تحديث المؤسسات، بل من استعادة المعنى في قلب المثابة، وإعادة بناء الشرعية الروحية والسياسية انطلاقًا من ذلك البيت الذي جعله الله “مثابة للناس وأمنًا”.
فمن مكة تبدأ الحكاية، ومنها يُعاد بناء الوعي.
أنظر المقال الثاني: القدس.. منصة الشهود: من التمكين الرمزي إلى الاحتباس الحضاري (2/4):
تعليق واحد