كتب الصديق العزيز: الدكتور عبد النبي حري، مقالة بعنوان: “من أجل تسوية فكرية ديمقراطية تعددية لإصلاح مدونة الأسرة”. وتفاعلا مع جميل ما طرحه، أتوجه إليه بهذه الهوامش المتواضعة على أطراف مقالته المميزة، فأقول: أنوه في البداية باقتحامك هذا الموضوع الشائك، كمفكر فلسفي عضوي، لأجل فك الاشتباك بين طرفين متعارضين، كلاهما غير مؤهل لتقديم مقترحات نهائية، حول مجال بالغ التعقيد والكثافة، وهو موضوع “الأسرة”، والتي تختزل مسيرة الإنسان فوق الأرض، منذ ما يزيد عن 4 ملايين سنة، حسب آخر الدراسات. كما أنوه بدعوتك الى الرقي بالنقاش من الإطار الايديولوجي الضيق، الى المستوى الفلسفي الأوسع، إذ من شأن ذلك ان يرتفع بنقاشاتنا الى مستوى نقد القيم وتدبيرها، بدل الاستنزاف في المستويات التقنية، لتنفيذ مفاهيم مستبطة، غالبا ما تكون ملتبسة ومتناقضة. أنوه ثالثا، بطرح التحدي الفلسفي والعملي، الذي لا يزال يعاني منه الغرب، في تفعيله لبعض القيم التي أعلن منذ أربعة قرون عن تبنيها، والتي يعمل الذين يحتذون حذوه، لاظهارها كقيم كونية، وإظهاره، كنموذج قطع مع تناقضاته، وليس على البقية من بني البشر إلا أن تحذو حذوه. إلا أنه، إذا كان لي من مجال للتعاطي مع مقالك المميز، فيمكن أن أقول: لقد شكلت الفقرات التمهيدية بالنسبة لي عامل رفع لسقف الانتظار، بعد ذلك الإطار الذي حددته المقالة، وبعد ذلك النقد الذي تبنته للنموذج الفلسفي والعملي الغربي، فتوقعت الدخول في نقد فلسفي عميق لحقيقة تلك القيم، والغوص بنا في أوجه قصورها، لاقتراح مباديء فلسفية أكثر أصالة وعمقا وانسجاما، تفضي إلى تبني نسق تشريعي فعال. كما توقعت تكثيف مناقشة تلك القيم، للكشف عن القيمة المحورية لبناء المجتمع الانساني في حد ذاته، والمرتبطة، بالضرورة، بالجواب عن سؤال المعنى. توقعت ثالثا، العودة الى الاشكالات الحقيقية التي أفرزت هذا التناقض الذي نعيشه بين المقاربات المتصارعة، والتي كان أساسها، في نظري: الاختلاف حول طبيعة الانسان في حد ذاته، وما يرتبط بوظيفة وجوده. وما يستتبع ذلك من اختلاف حول طبيعة علاقاتها، وبالتالي حول طبيعة النموذج المجتمعي الذي نريد بناءه، بمشتركاته الانسانية “الحقيقية” وخصوصياته الثقافية. ثم الاختلاف، ثالثا، حول تقييم طبيعة السياق الحضاري الذي أتى فيه تعديل المدونة، بشروطه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. غير أن البديل الذي تبنته المقالة، والذي من شانه أن يتجاوز حالة “المحافظة” تلك، مع التحفظ عن مفهوم المحافظة في حد ذاته، ذاك البديل لم يفرز، في الأخير، غير بعض المقترحات التقنية التي لم ترق، الى ما أعلنت عنه المقالة منذ البداية. إذ كان بالإمكان، في نظري المتواضع، البداية بتشخيص طبيعة المجتمع الذي نريد تعديل قواعد تشكيل وتنظيم نواته “الاسرة”: بمعضلاته ومكتسباته، بأسس بنائه ووظيفته، بقيمه وتمثلاته.. إذ التشخيص، كما هو مسلم به، هو أول وأكبر تحدٍّ للتعاطي مع أي ظاهرة، باعتباره شرطا التدخل. ثم نأتي إلى المدونة، كشكل تقنيني نهائي، للتدخل في إعادة ترتيب العلاقات المجتمعية داخل الأسرة، ونتساءل: متى يأتي دور التقنين لإصلاح أعطاب المجتمع؟ وهل يكفي التقنين وحده لإصلاح تلك الأعطاب؟ وإذا كان لا يكفي، فما هي المداخل المتعاضدة التي ينبغي تبنيها في إطار المقاربة الإصلاحية المندمجة؟ وحينما نقتنع أن الوقت قد حان لتنفيذ تلك المقاربة المندمجة، والتي يشكل التقنين إحدى مقوماتها، حينها نأتي إلى الأداة القانونية والتشريعية المعمول بها، ونشخص طبيعتها، ونقيم مستويات نجاحاتها وقصورها، ثم نحدد، في الأخير، تقنيات تعديلها. وحينما نصل إلى مرحلة تشكيل التقنيات، علينا أن نكون قد تحررنا من قبل، من كل إملاءات إيديولوجية او سياسية، تفرض علينا أجندات معينة للإصلاح، أو قيما معينة للإدماج. إن النقاش الفلسفي، هو الكفيل بتحريرنا، إذا ما حققنا شروطه، حينها سندرك: أنه بدون تأصيل أنطولوجي، بالعودة الى الاصول المقولية في تحديد العناصر: الكم والنوع والجوهر والجهة .. لتحديد ما هو كمي ونوعي في الرجل وماهو كمي ونوعي في المرأة. وبدون تأصيل ابستمولوجي، لتحديد العلاقة الممكنة بينهما: التكامل والتناقض والاستلزام.. وبدون تأصيل اكسيولوجي، لضبط تلك العلاقة وفق قيم الحرية والكرامة والعدالة.. بدون ذلك كله، تستحيل مناقشة مفاهيم نهائية مثل “المساواة” أو “الديمقراطية” … وطبعا أقصد ب”المناقشة”، جدواها. وبعد أن نكون قد قطعنا مع المستوى المفاهيمي، حينها فقط، يمكن أن نأتي إلى مستوى النقاش التشريعي، إذ التشريع في الاخير، ما هو إلا موقف فقهي يفرض حالة قانونية. فهل يمكن أن نفرض حالة قانونية بدون بعد براغماتي؟ بالتأكيد لا، ما دام عمل العقلاء منزه عن العبث. وإذا ما وصلنا إلى هذا المستوى، أي المستوى التشريعي البراغماتي، سندرك أننا أمام معضلة حقيقية يستحيل حلها بالقفز على شروط إصلاحها: ذلك أننا سنكون أمام منظومتين تشريعيتين متناقضيتين من حيث المنلطقات القيمية، والتي شكلت نسق كل منهما: نسق تشريعي غربي وافد، وآخر تشريعي إسلامي موروث. حيث إن أحدهما مبني على منطق القوة، والثاني مبني على منطق الأخلاق، حسب وائل حلاق. وحيث يراد للأول أن يصبح ثقبا أسود للثاني، ومهيمنا عليه ومتجاوزا له. وحيث يعاني الأول (الحداثي) من أزمة معنى، في حين يعاني الثاني (التراثي) من أزمة ملاءمة. أو بعبارة أخرى: نحن أمام تحفز “فراغ المعنى” للهيمنة على “قصور الملاءمة”. ولتشخيص “فراغ المعنى”، لا بد من تفكيك نسقه: ذلك أنه، أي ذلك “البديل ما بعد الحداثي”، قد تحول من إطار اللوغوس الى منطق الإيروس، أي من منطق التعقل الى منطق التمتع، كنتيجة فلسفية لمرحلة ما بعد الحداثة التي نفضت يدها عن محاولة إدراك العالم، فقررت الاكتفاء بالتمتع به. وذلك بعد أن استوعبت كانط بدون شروطه، فوقعت في أزمة تعقُّل، بعد أن شككت في قدرات العقل عن استيعاب العالم. لقد كان النموذج الحضاري الغربي، مبنيا على تعقل العالم، لأجل التحكم فيه، فأنتج نزعات داروينية عرقية، مبنية على التفوق، التي أفرزت النازية والفاشية والصهيونية، وهي التي تغذي اليوم اليمين الغربي المتطرف. والآن، وهو يسعى الى التحكم في العالم، لأجل التمتع به، قد أنتج نزعات فرويدية جنسانية، مبنية على اللذة، التي أفرزت: المغايرة وغير المغايرة، والأحادية الجنسية، والثنائية الجنسية، والمثلية، والتحولية، والعبورية الثنائية، والعبورية المتعددة، والعبورية الجندرية، والعبورية خارج الجندرية (التحول لحيوان)…. وهنا نأتي إلى المرحلة الضرورية التي لا ينفع معها تبني الالتباس اللغوي، ولا ممارسة الموقف الحيادي، وهي مرحلة المفاضلة للحسم بين الخيارين: فهل نختار نسقا تشريعيا، يعاني من معضلة معنى، أم نختار أخر يعاني من معضلة ملاءمة؟ وما هي المهمة الأقل كلفة والأكثر جدوائية: محاولة تشكيل البنية الأخلاقية من أساسها، أم محاولة تحديث الوظيفة التقنية؟ من هنا فقط، يمكننا أن نبدأ مناقشة المدونة، وهذا المنطق، الذي ينبغي أن نتبناه. فحينما يتعلق الأمر بالعبث بالبنى العميقة للمجتمعات والحضارات، قد يكون منطق “التسوية الفكرية التعددية الديمقراطية” متجاوزا، ولن يقف أمام ذلك المآل الخطير، غير منطق التسوية الفلسفية الجذرية.
ماهر الملاخ
ماهر الملاخ-
باحث أكاديمي وإعلامي-
متخصص في سيميائيات الصورة-
تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات-
له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية-
أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية-
منتج منفذ برامج تلفزيونية.
مقالات ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق
-
في تلازم الحرية والتحرر (1/13)منذ أسبوعين