في علاقة الحضاري بالسياسي – قراءة نقدية لبراديغم مدرسة الإخوان المسلمين
عبر تاريخها الحضاري الطويل، مرت، ولاتزال تمر الأمة الإسلامية من فترات عصيبة، وفق ثنائية التحدي والاستجابة، بمفهوم توينبي، إلى أن آل بها الحال في هذه الدورة الى حالة “الاحتباس الحضاري”.
ومع امتداد هذه الحالة لما يزيد عن قرن من الزمان، يبدو أن هذه الامة لا تزال تتفاعل وتتدافع، مما يدل على حياتها وحيويتها.
وحين التأمل في سبب استمرار ذلك التفاعل والتدافع، سوف نستنتج أن تلك الحيوية، لا علاقة لها بمشروعها السياسي بالذات، فالحالة السياسية لدول الأمة اليوم، ليست في موقف الفعل والمبادرة، وإنما هي في وضع التلقي والانفعال.
بل حتى إذا عدنا إلى الوراء، فسنجد أن التجربة السياسية في التاريخ الإسلامي، هي في الواقع تجربة فاشلة بالمجمل: إذ إن لحظات النموذج السياسي المثالي، بمعيار القيم التي بشر بها الإسلام، هي لحظات جد قصيرة، لا تتجاوز 31 سنة (29 سنة خلافة راشدة + 2 سنتان حكم عمر بن عبد العزيز)، أي هو نجاح بنسبة لا تتجاوز 2,13%.
لكن هذه الأمة في المقابل، قد حققت ريادة حضارية طويلة، وصلت الى 13 قرنا على الأقل، أي إنها قد أنجزت نجاحا بنسبة لا تقل عن 92% في أسوء تقدير.
هيمنة السياسي على السلم الحضاري:
حين مات النبي عليه السلام، لم يعين خليفة، ولا أرشد صحابته لطريقة محددة في اختياره، ولا حدد شكل الدولة ومؤسساتها، ولا حيثيات نظام الحكم وعناصره. وهو عليه الصلاة والسلام، لم يهمل ذلك نسيانا ولا تفريطا، بل لأن مشروع الدولة لا تمثل جوهر رسالته، وبالتالي لا تتمتع بتلك الأهمية التي يمكن أن نتصورها ضمن مشروع الإسلام. بل هي من باب (وأخرى تحبونها، نصر من الله وفتح قريب).
وهو الدليل على كون المشروع السياسي يحتل أدنى رتبة في سلم أولويات المشروع الحضاري.
واليوم، نحن شهود على سوء الحالة السياسية والاقتصادية التي تعيشها الأمة الإسلامية، في نفس الوقت الذي نشهد فيه أن الإسلام يسجل أعلى نسبة اعتناق، وأكبر نسبة تمدد، حسب منصات الرصد العالمية، ومنها مركز بيو الشهير.
فما الذي يفسر هذه المفارقة الواضحة، إن لم يكن ذلك التمايز البين بين الحالة الحضارية في الإسلام وحالته السياسية، كون الأولى لا تتوقف عن الثانية.
ذلك التمايز الذي لا ينفي تأثر ما هو حضاري بما هو سياسي، ولكنه تأثر أعراض وليس تأثر جوهر، (بمفهوم المقولات الفلسفية). أو بمعنى آخر، فإن الحالة الحضارية للإسلام قد تتأذى بسوء الحالة السياسية، لكن مصيرها لا يتضرر بالضرورة. فيكون ذلك من باب (لا يضروكم إلا أذى).
ومن جهة أخرى، كون ذلك المشروع الحضاري الإسلامي يمتلك نظرية في الحكم السياسي، لا يبرر أن يختزل كل مشروعه في ذلك المجال بالذات.
وحين نستحضر مشروع مدرسة الإخوان المسلمين، في تعاطيه مع التحدي الحضاري الذي واجته الأمة الإسلامية، والتي جاءت تلك المدرسة كاستجابة له، نجد أن البراديغم الذي اعتمدته، لم يستطع استيعاب تلك الطبيعة: كون مشروع الإسلام هو مشروع حضارة بالأساس، وليس مشروع دولة بالضرورة. أي أنه مشروع أمة في الأصل، وليس مشروع نخبة حاكمة تماما.
وقد بلغت درجة ذلك الترفيع مع كتابات سيد قطب رحمه الله، حين بشّر بمفهوم “الحاكمية”، الذي جعل من نمط الحكم معيارا لطبيعة العقيدة. وتم تصريف تلك الفكرة في أشكال خطيرة، يمكن تفصيلها في مناسبات أخرى.
ضيق التعاطي مع مساحة الممارسة السياسية:
سؤال منهجي يفرض نفسه هنا: هل تقتصر الممارسة السياسية في حد ذاتها على ممارسة الحكم؟
إذا ما انطلقنا من مفهوم أصيل في النسق العقدي الإسلامي، وهو مفهوم “الشهادة”، فسوف نخلص إلى أن ممارسة السياسة، قد تكون بممارسة الحكم، وقد تكون بممارسة الرأي في الحكم. وهي ما يحقق مفهوم الشهادة على الناس، كمفهوم أصيل ضمن المشروع الحضاري الإسلامي.
غير أن فكر مدرسة الإخوان المسلمين قد اختزل الممارسة السياسية، في ممارسة الحكم أو السعي له. فأضاف إلى الخطأ في ترتيب المشروع السياسي ضمن أولويات المشروع الحضاري، خطأ في التعاطي مع مجال الممارسة السياسية.
وفي الوقت الذي يرفّع الفكر الإخواني من شأن المشروع السياسي، الى درجة اعتباره المعادل المباشر لنمط الاعتقاد والتوحيد (مفهوم الحاكمية)، ويقصر منطق الممارسة السياسية على ممارسة الحكم، نجد في مقابل ذلك أن الفكر العلماني (مع التحوط الشديد في الاستخدام) قد أقصى المشروع الحضاري الإسلامي من أي حق في أن يمتلك مشروعا سياسيا.
وبين الموقفين، هناك مساحات اعتدال واسعة:
تلك المساحة التي تتمثل في الاعتراف بحق المشروع الحضاري الإسلامي أن يكون له مشروع سياسي، في ذات الوقت الذي لا يقتصر الأول على الثاني وإنما يحتويه ويشمله. حيث لا يجوز لا اختزال ولا إقصاء: حيث وجب أن يوضع المشروع السياسي للإسلام في أدنى الأولويات، وأن يوسع من مجال الممارسة السياسية، دون أن تكون تلك الممارسة السياسة مقتصرة على من قبل إقصاء مرجعيته الدينية. في ذات الوقت الذي تشتغل فيه النخبة مع الأمة على مستوى القيم الاسلامية الكبرى، بدءا بتثبيت الاعتقاد، الى توجيه الأخلاق، مرورا بإنتاج الفكر.
فإن أفضى ذلك الاشتغال الى تأسيس مشروع سياسي، فسيكون نتيجة منسجمة، وعامل تنمية وتمكين للمشروع الحضاري.
حيث يأتي ذلك من باب (وأخرى تحبونها)
وإذا لم يفض إلى ذلك، فسيكون نتيجة مؤثرة لا محالة، لكن دون أن يمثل تهديدا لوجود المشروع الحضاري أو إيذانا بنهايته.
فيكون من باب (لن يضروكم إلا أذى).
وبهذا، يكون التمكين السياسي هو التجلي التكميلي للمشروع الحضاري الإسلامي. لتبقى الرسالة المركزية لذلك المشرع هي التمكين الإيماني والقيمي للناس كافة. أي يكون شاملا لكل ما يتوقف عليه صلاح حياة الإنسان في الدنيا، ونجاته في الآخرة. وهو مبرر وجود دين الإسلام فوق الأرض.
إن الاشتغال ضمن الخط الحضاري، أرحب وأوسع، وأكثر تجذرا في التاريخ، وأقدر على تحقيق مراد الله من هذا الدين.
وحين عجز البراديغم الإخواني عن استيعاب هذه الجزئيات الخطيرة، وظل يصر على مركزية المشروع السياسي، وكونه هو منطلق هدفه ومنتهاه، ومعيارية نجاحه وفشله، فقد حكم على سقفه بالانخفاض، وعلى مجاله بالاختزال، وهو ما يؤذن اليوم بفشله ونهايته.
معيقات تطويرالبراديغم الإخواني:
هناك من يرى أنه من المشروع أن نطرح السؤال التالي:
لماذا لا تكون مدرسة الإخوان هي ذاتها الأقدر على تطوير مشروعها بنفسها، كي تستجيب لهذا الأفق الحضاري الجديد؟ بما لها من تجربة تنظيمية وفكرية ونضالية.
الجواب البسيط يكمن في “سلطان البراديغم”.
أي إن “الدليل المفاهيمي” للإخوان المسلمين، عاجز من داخله عن تطوير ذاته نحو هذا المستوى. وهو قد قدّم أفضل ما لديه خلال ما سبق من مراحل.
ذلك أنه محكوم بالعقلية السنية السلفية التقليدية في التعاطي مع التاريخ من جهة، والمعارف العلمية من جهة ثانية، والقيم الإنسانية من جهة ثالثة.
- فعلى مستوى التعاطي مع التاريخ: لا يستطيع البراديغم الإخواني تجاوز المنطق التبريري التسطيحي في قراءة الأحداث، بدءا من واقعة السقيفة الى لحظة سقوط الخلافة.
- وعلى مستوي التعاطي مع المعارف العلمية، فهو لم يحسم في طريقة التعامل مع المنتوج المعرفي الحديث، وخاصة في جانبه الإنساني (فلسفة، علم نفس، علم اجتماع ..) وبالتالي لم يفرز أي نظرية لها سلطة علمية في هذا المجال، وأقصى ما وصل إليه لا يعدو مستوى مفهوم “التبيئ” الذي ابتدعه المعهد العالمي للفكر الإسلامي. والذي وصل منذ فترة الى بابه المسدود.
- وأما من ناحية القيم الإنسانية، فباعتبار وفائه للنموذج السني السلفي التقليدي، فقد ظلت قيم الحرية والعدل والكرامة، قيما هامشية، لا تمثل مرجعا ومعيارا للسلوك الفردي (القدرة على الإبداع) ولا الجماعي (القدرة على التعايش).
استنفاد أغراض البراديغم الإخواني:
لقد جسدت طبيعة التعاطي مع الحالة المصرية، سواء تلك التي سبقت الانقلاب على حكم الشهيد محمد مرسي، أو التي تلتها، مدى صعوبة المراهنة على أي تطوير في النموذج الإخواني. وهو التعاطي الذي ظل محصورا في اعتبار أسباب الفشل خارجية، ولا علاقة لها بما هو ذاتي. في حين أن تلك المعضلات الذاتية تتسم بالعمق والضخامة والاتساع:
فلقد بُني البراديغم الإخواني على تحدي سقوط الخلافة (سياسة)، وتدني مستوى التدين في الأمة (دين).