في الرياح التي حركت الطوفان
سياق المقاومة.. بين استراتيجيات الحرب ومنطق السلم المسلح
مقدمة
- استراتيجيات السلم والحرب:
- و.م.أ: الحرب حربا والسلم حربا
- الصين: الحرب سورا والسلم حريرا
- ورطة و.م.أ بين السلم والحرب
- محورية إسرائيل في استراتيجيات السلم والحرب
- منطق السلم المسلّح:
- احتواء حالة الحرب
- توسيع المياه الإقليمية
- إعادة تشكيل الأمن القومي
- عزل الامن القطري عن القومي
- عزل التطبيع عن مصير فلسطين
خاتمة
مقدمة
جاءت معركة طوفان الأقصى في سياق استراتيجي بالغ التعقيد، تتشكل مكوناته من ثلاثة أضلاع: استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، واستراتيجية جمهورية الصين الشعبية، ثم الموقع الاستراتيجي لإسرائيل.
كانت اللحظة الدرامية لذلك التوازن الهش الذي كان قائما منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، حين تزحزح ضلع الصين منذ أكثر من عشر سنوات، فانعكس تحركه على مجمل التوازن الاستراتيجي، مما فاقم الوضع المضطرب لفلسطين. وفيما يلي تفكيك لذلك التعقيد، واستعراض آثار ذلك التحول:
- استراتيجيات السلم والحرب:
من المسلّم به، ضمن مجال التاريخ التطبيقي، أن العالم يشهد تغيرا استراتيجيا كلما كانت هناك قوة جديدة صاعدة، وأخرى مهيمنة متراجعة، إذ غالبا ما تنتهي بحرب فاصلة بينهما. ولكن قبل تلك المعركة الحاسمة، تكون هناك مرحلة طويلة من الاضطرابات. وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة.
واليوم تمثل الصين القوة الصاعدة، فيما تمثل و.م.أ القوة المتراجعة، إذ تعتبران، من الناحية الاستراتيجية، على طرفي نقيض. كما نعيش في هذه اللحظة تلك الفترة المضطربة، التي قد تطول، قبل المعركة الحاسمة بين القوتين. ولنتعرف على طبيعة هذه المرحلة، من الجيد أن نسلط بعض الضوء على طبيعة كل طرف منهما، إضافة إلى الإفراز الرئيسي لهذه المرحلة.
- و.م.أ: الحرب حربا والسلم حربا:
“أمريكا وبقية العالم” America and the rest of the world ، عبارة غالبا ما عكست ذلك الامتياز الاستراتيجي الذي تتمتع به و.م.أ كونها دولة تقع جغرافيا، في منأى عن التوترات الإقليمية، مما جعلها في مأمن من أن تخوض حروبا على أراضيها، بعد حربها الأهلية. حيث خاضت و.م.أ أكثر من 94 حربا مباشرة خلال 247 سنة، أي بمعدل حرب واحدة كل سنتين ونصف، كانت كلها خارج أراضيها، مما جعلها تعتمد أكثر من 800 قاعدة عسكرية في حوالي 70 دولة. ووفقا لهذا المفهوم يمكن إدراك سبب مراهنة و.م.أ على إسرائيل باعتبارها “قاعدة/دولة”، وهو ما يفسر عدم وجود أي قاعدة عسكرية أمريكية داخل الكيان، مع وجود كل ذلك الارتباط الاستراتيجي الاستثنائي بينهما.
ولأن القواعد العسكرية الامريكية ظلت فعالة في حالة الحرب، فقد اعتمدت استراتيجية الشركات العملاقة، في حالة السلم، وفق النمط البريطاني السابق في اعتماد الشركات الاقتصادية (شركة الهند الشرقية نموذجا). إلا أن مبدأ “السيادة” الذي تم تبنيه بعد 1945، قلص من فعاليتها في الهيمنة الشاملة، فلجأت إلى المزاوجة بين القواعد العسكرية والشركات العابرة للقارات. وهو ما يعرض ممارساتها لانتقاد مزمن، ويجعل سيطرتها في حالة السلم معرضة للاهتزاز عند كل منعطف.
- الصين: الحرب سورا والسلم حريرا:
يتأرجح تاريخ الصين بين حالتي السلم والحرب: ففي حالة الحرب، كانت تلجأ إلى الانكفاء على ذاتها، وقد توجت ذلك السلوك ببناء أسرة ” تركيو صبحيو تشانغو” لسور الصين العظيم، منذ القرن الثالث قبل الميلاد.
وأما في حالة السلم، فغالبا ما كانت تنفتح على محيطها عبر مد جسور التبادل التجاري، وهو ما توجته ب”طريق الحرير” منذ أكثر من 30 قرنا قبل الميلاد. والذي كان يمتد من مدينة هانغجو شرقا، إلى البندقية غربا.
وهو ذات ما لجأت إليه في القرن 21: فبينما كانت و.م.أ تعربد في أفغانستان 2001 وعراق 2003، بعد أحداث 11 سبتمبر2001، ثم تعبث بالشأن العربي سنة 2011.. زار الرئيس الصيني شي جين بينغ، كلا من كازاخستان وأندونيسيا خلال شهري سبتمبر وأكتوبر من سنة 2013. فما كان منه إلا أن أعلن عن مشروعه التجاري العملاق: “مبادرة الحزام والطريق” (BRI). والذي بمقتضاه سوف يتم إنشاء طريق تجاري عالمي، ينطلق من الصين، لتحقيق استراتيجية تنموية عالمية جديدة، تتضمن تطوير البنية التحتية والاستثمارات عبر أكثر من 60 دولة من دول آسيا وأوروبا وأفريقيا والأمريكتين.
ومنذ سنة 2013، عقدت منظمة البريكس ثماني قمم، كان آخرها قمة البريكس 2020. وقد كانت الصين دولة مؤسِّسة لهذه المنظمة، إلى جانب كل من روسيا والهند البرازيل. لتصل اليوم إلى 28 دولة، مما يجعلها أكبر منظمة دولية اقتصادية لا نفوذ فيها لو.م.أ.
- مبادرات و.م.أ بين السلم والحرب:
بعد أقل من أسبوع على إعلان الرئيس الصيني لمبادرة الحزام والطريق، تحركت القوى السياسية الأوكرانية الموالية لو.م.أ في “الميدان الأوربي” في العاصمة كييف، في أكتوبر 2013، لتتطور الاحداث سريعا نحو صراع عسكري، انتهى بهزيمة الولايات المتحدة في جزيرة القرم. وظل الصراع محتدما بين روسيا والولايات المتحدة، إلى أن انفجر مرة أخرى في شكل هذه الحرب المستمرة مع أوكرانيا، وذلك في فبراير 2022. ثم أرسلت حاملة الطائرات USS Carl Vinson إلى بحر الجنوب الصيني في مارس 2020. ولأجل تقليص خسائرها العسكرية والمالية، فاجأ الرئيس الأمريكي الجديد جون بايدن، الرأي العام العالمي بانسحاب القوات الامريكية من أفغانستان، يوم 15 أغسطس 2021، بعد أربع سنوات من التفاوض مع طالبان.
وإضافة إلى كل ذلك، فعّلت مبادرات اقتصادية متعددة، مثل “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” لتقديم بديل عن الاستثمارات الصينية. ثم فرضت تعريفات جمركية (عقوبات) على البضائع الصينية في 2018 أيام ترامب. وفي ذات السياق أطلقت و.م.أ مبادرة النقطة الزرقاء: Blue Dot Network في نوفمبر 2019. ضمت هذه المبادرة، إضافة إلى و.م.أ، كلا من اليابان وأستراليا. كما أسست الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مبادرة “ازدهار إفريقيا” “Prosper Africa” في نفس السنة، والتي هدفت لزيادة التجارة والاستثمار بين و.م.أ وأفريقيا، كبديل للنفوذ الاقتصادي الصيني في القارة. ثم كان قرار إدارة بايدن بإعادة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية (WHO)، واتفاق باريس للمناخ، وهما اللذان سبق أن انسحب منهما الرئيس السابق دونالد ترامب. ثم شاركت في منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) 2019: حيث استغلت الولايات المتحدة هذا المنبر لتقديم رؤية بديلة للتجارة والتعاون الاقتصادي في المنطقة، أطلقت عليه اسم: “مبادرة بناء عالم أفضل” (Build Back Better World – B3W) التي تم الإعلان عنها في يونيو 2021، خلال قمة مجموعة السبع (G7) المنعقدة في المملكة المتحدة. والتي ضمت كلا من: الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وكندا وفرنسا، وألمانيا وإيطاليا واليابان، وبدعم من الاتحاد الأوروبي كعضو في المجموعة.
كل تلك التدابير، تعكس مستوى التحفز الذي دخلت فيه و.م.أ، لمحاولة التصدي لتأثير مشروع “الحزام والطريق” الصيني، خلال استراتيجيات سياسية وعسكرية واقتصادية ومالية، شملت أكثر من 60 دولة.
وقد كان لذلك التحفز الامريكي، انعكاس مباشر على المساحة الرمادية التي كانت تتحرك فيها الأنظمة العربية، كما كان لها أثر مباشر على التعاطي الأمريكي مع القضية الفلسطينية، وذلك بتجديد محورية إسرائيل في استراتيجيات و.م.أ.
- محورية إسرائيل في استراتيجيات السلم والحرب:
كان أكبر انعكاس استراتيجي، لتلك المبادرات الأمريكية على القضية الفلسطينية، قد تجلى في تجدد أهمية الشراكة و”الاستثمار” في الكيان الصهيوني، ضمن المشروع الاستراتيجي الشامل لحلفاء الأطلسي، وعلى رأسه و.م.أ، وذلك للقيام بوظيفة الاحتواء المباشر للحالة الجيوسياسية لمنطقة غرب آسيا. وقد كان من أسباب ذلك التجدد الاستراتيجي لموقع ووظيفة الكيان، ثلاثة أسباب:
- كون النفط مادة محورية ضمن الاستراتيجية الأميركية.. فإن تأمين السيطرة على منابعه ومعابره وأسواقه، يعتبر ذي أهمية حيوية بالنسبة لو.م.أ.
- كون السيطرة الأمريكية على منطقة غرب آسيا، قد أصبحت مهدَّدة بالنفوذ الصيني.. فإن الوظيفة الاستراتيجية للكيان الصهيوني، في تأمين تلك الأهداف الأمريكية، قد أصبحت أكثر ضرورة مما كانت عليه من قبل.
- كون موقع فلسطين المحتلة، يشكل عقدة استراتيجية، بالنسبة لطرق التجارة العالمية، وخاصة إمدادات الطاقة وممرات الشحن عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وعبر قناة السويس.. فإن الحسم السريع في وضعه أصبح أكثر إلحاحا مما كان عليه سابقا.
من خلال استعراض استراتيجيات السلم والحرب، يتضح الشق الأول لسياق اندلاع معركة طوفان الأقصى.
تلك الاستراتيجيات التي تحكّمت في علاقة الصين كقوة صاعدة، مع و.م.ا كقوة متراجعة، إضافة إلى إسرائيل كقوة ملحقة بها. حيث يمكن أن نسمي هذه المرحلة، مرحلة إرهاصات تبادل مواقع الريادة، وهي التي دفعت و.م.أ إلى اللعب بكل أوراقها، حتى تحاصر تمدد الصين وتصاعدها، بما فيها اللعب بورقة إسرائيل التي تجددت أهميتها الاستراتيجية بالنسبة إليها، ففرضت على منطقة غرب آسيا منطق السلم المسلّح. وفيما يلي تفصيل أدواته وإجراءاته:
- منطق السلم المسلّح:
مثّلت ردود الأفعال الامريكية لاحتواء المشروع الصيني امتدادا نوعيا في تعاطي و.م.أ مع قضية فلسطين، والتي يمكن أن ندرجها ضمن منطق السلم المسلّح، وقد تجلى ذك التعاطي في اتخاذ مجوعة من التدابير، وهي كالتالي:
- احتواء حالة الحرب:
ظل الهدف المركزي لو.م.أ خلال 78 سنة، هو تمكين الكيان الصهيوني من القيام بوظيفته الاستراتيجية المنوطة به أطلسيا، فسعى لتحقيق ذلك عبر المزاوجة بين آليتي عنف الحروب وتقنين الاتفاقيات. إذ خلال العقود الثمانية السابقة، خاض العرب (أنظمة ومقاومات) ضد إسرائيل 15 حربا، وأجروا معها (أنظمة ومقاومات) 14 اتفاقية ومعاهدة. وقد حرصت و.م.أ، في حالتي الحرب والسلم، أن تفضي كل تلك النتائج إلى تحقيق ذلك الهدف المركزي. لذلك عملت على إنجازه عبر احتواء حالة الحرب في المنطقة: فحينما خاضت إسرائيل حربها لاحتلال فلسطين 48، ظلت حدودها الشرقية والغربية والجنوبية، جبهات مفتوحة مهدِّدة لوجودها. وتعبر الواجهة الغربية (البحر الأبيض المتوسط) هي الواجهة الأقل تهديدا للكيان الصهيوني، بسبب أنه محمي بالبوارج الحربية الأمريكية والفرنسية والبريطانية.
كما شهدت الجبهة الشمالية ستة حروب (78-82-93-00-06-23)، وخمس معاهدات تهدئة (83-96-00-93-60). كانت حصيلتها إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من جنوب لبنان. ولكن نجاح حزب الله في تطوير قدراته القتالية، واكتسابه الشرعية الشعبية، حوّله إلى رقم صعب متصاعد، لم تستطع إسرائيل احتواءه لحد الآن. وقد أظهرت هذه الجبهة، أن التكتيكات العسكرية المستمرة، والمقاومة المحلية، يمكن أن تؤدي إلى تغييرات استراتيجية مهمة، مثل انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان سنة 2000.
أما جبهة (الأردن-الضفة) فقد شهدت أربع مواجهات كبيرة بين حربين وانتفاضتين (67-73-87-00). وإذا كان من نجاح نسبي كبير، يمكن ان يسجل لصالح الكيان الصهيوني، على مستوى تامين الحدود الشرقية، إلا أن جموح الحالة الشعبية الأردنية، إضافة إلى التصاعد المستمرة لحالة المقاومة في الضفة، يحد باستمرار من ذلك النجاح، ويؤشر إلى مدى هشاشة التحكم في تلك الواجهة.
أما الجبهة الجنوبية (مصر وغزة) فهي الأكثر سخونة واشتعالا على مدى 78 سنة من الاحتلال، لذلك كانت ساحة لأكثر من 11 مواجهة، بين حرب عسكرية وانتفاضة شعبية (56-67-73-87-00-08-12-14-18-21-23)، وثماني اتفاقية، بين اتفاقية إطار ومعاهدة تهدئة (78-79-93-95-80-12-18-21). ومع أن العدو الصهيوني قد نجح نسبيا في كبح جماح التوتر من الجهة المصرية، عبر معاهدة السلام سنتي 78 و79. إلا أنه، برغم محاصرة القطاع لأكثر من 17 سنة، فقد فشل فشلا ذريعا في احتواء الحالة الحربية في الجبهة الغزاوية. وقد بلغت هذه الجبهة ذروة تفجرها في 7 أكتوبر 2023.
وهكذا يظهر أن محاولة احتواء و.م.أ وإسرائيل لحالة الحرب لم ينجح، بالرغم من عدد الحروب المندلعة والاتفتقيات المبرمة، إذ ظلت حالة الحرب هي الطاغية، فكان آخرها معركة الأقصى، التي مثلت التحدي الأكبر للكيان لوجود الكيان الصهيوني.
- إعادة تشكيل الأمن القومي:
من المستغرب حقا، أن ظل مفهوم الامن القومي العربي غامضا، فحتى ميثاق جامعة الدول العربية، لا يقدم تحديدا واضحا له. مما سهّل على و.م.أ إعادة توجيهه ليخدم أمنها وأمن إسرائيل القوميين. وذلك عبر فرض اتجاهين:
- إيران عدوا:
من الطبيعي أن تتحول إيران/الثورة الإسلامية عدوا استراتيجيا لو.م.أ: فهذه الأخيرة قد خسرت بنجاح ثورة 1979، حليفا استراتيجيا لا يعوض، إذ كانت إيران/الشاه مصدراً رئيسياً للنفط، مساهمة في انخفاض أسعاره. وبغيابه الشاه أصبحت إيران أقل تعاونًا مع دول الأطلسي، مما ساعد في ارتفاع أسعار النفط وأفاد، في المقابل، اقتصادات دول الخليج الأخرى. كما خسرت و.م.أ نفوذها الاقتصادي، بإغلاق كبريات الشركات الامريكية في المنطقة، والتي كانت نشطة ومهيمنة على قطاع النفط والغاز والطيران والدفاع. وكذلك خسرت حاجز صد قوي ضد النفوذ السوفييتي، إضافة إلى تضرر قدرتها الاستخباراتية، بعد أزمة رهائن سفارتها في طهران، التي أظهرت أن السفارة كانت مركزا استخباراتيا آسيويا. أما الخسارة الأكبر ل و.م.أ، فقد تمثلت في إغلاق خمسة قواعد عسكرية استراتيجية، مما أدى إلى فقدانها لنفوذها العسكري والاستراتيجي في إيران، وتقلص قدرتها على التأثير في الشؤون الإقليمية. وفي مقابل تلك الخسارة، نجد أن الدول العربية قد تعزز أمنها القومي، وخاصة الخليجي: فقد تقلص النفوذ الإيراني العسكري والإقليمي في المنطقة، كما أعيد تنظيم منظمة أوبك، فاستقرت أسعار النفط، وتعززت التحالفات الإقليمية والدولية لصالح الدول العربية، واستفادت دول الخليج خاصة من التحولات الاقتصادية والنفطية الجديدة.
وضدا على كل ذلك فقد عملت و.م.أ على تكريس إيران عدوا خطيرا مهددا لأمن المنطقة، انطلاقا من التشجيع المباشر وغير المباشر لغزو صدام لإيران، موظفة العامل الطائفي، بعد ذلك، وخاصة بعد فتح الجبهتين السورية واليمنية.
- إسرائيل صديقا:
بناء على كل ما سبق، سوقت و.م.أ المشروع النووي الإيراني باعتباره تهديدا مشتركا للدول العربية وإسرائيل.
فقدمت إسرائيل حليفا استراتيجيا موثوقا، لتحقيق الاستقرار في منطقة غرب آسيا. وقد دعمت و.م.أ طرحها باستعدادها لتقديم حوافز استخباراتية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية، للدول التي تختار تحسين علاقاتها مع إسرائيل، كما وعدت به اتفاقيات أبراهام.
وفي خطوة مثيرة، لحسم الوضع الاستراتيجي التركي الملتبس لصالح و.م.أ، سعت هذه الأخيرة إلى محاولة قلب نظام حكم أردوغان، سنة 2016، وذلك حسب ما صرح به حينها وزير الداخلية التركي سليمان صويلو.
وحين فشل الانقلاب لجأت إلى حربا شرسة ضد الليرة التركية، وذلك ابتداء من سنة2018، لتفقد الليرة حوالي 426 % من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، خلال ست سنوات متتالية. حيث كانت و.م.أ تهدف بذلك ضمان الحياد التركي في قضايا الحل النهائي لفلسطين في إطار صفقة القرن، إضافة إلى قضايا أخرى تهم سوريا والعراق ومناورات النفوذ في المياه الإقليمية والدولية.
- عزل الأمن القُطري عن الأمن القومي العربي:
وضدا على كل مقومات التاريخ والجغرافيا، زرع الحلفاء، في قلب العالمين العربي والإسلامي، كيان إسرائيل، وبعد أنها قد فشلت في كل محاولات إدماجها في هذا المحيط، الذي ظل يلفظه باعتبارها كيانا هجينا، لا تجمعه بذاك المحيط أي شرط من شروط الاندماج.. فتحولت اليوم، تلك المحاولات الجماعية، إلى استجلاب كل قُطر على حدة، لتحقيق الإدماج الشامل.
وكانت البداية باتفاقتي السلام مع مصر والأردن. ثم اتفاقيات أبراهام الجديدة. وذلك بتقديم مفهوم “الأمن القومي المستقل”، مستفيدة من بعض المخاوف المحتملة (الخليج/إيران)، أو بعض الاعترافات المنتظرة (المغرب/الصحراء)، أو بعض الأزمات المؤجّلة (السودان/لائحة الإرهاب). مع تعزيز القدرة على اتخاذ القرارات الوطنية بشكل مستقل دون الاعتماد على قرارات جماعية قد تكون محكومة بمصالح دول أخرى، فتفوّت على نفسها فرص تطوير سي مصالحها الوطنية الخاصة.
هكذا تمت إعادة تشكيل مفهوم الأمن القومي العربي إسرائيليا، منذ 1978، وعزله عن الأمن القُطري، بشكل تدريجي، مفتوح على التطور لما هو أكثر دراماتيكية.
- توسيع المياه الإقليمية:
كان من ضمن مستلزمات تحقيق مبادرة “عالم أفضل” (B3W) و”النقطة الزرقاء” (Blue Dot Network)، إجراء تعديل قانوني لحالة المياه في البحر الأحمر، وذلك بفتح خط “أشدود صنافير” كمعبر رابط بين البحر الأبيض المتوسط وخليج العقبة، عن طريق قناة بنغوريون، لتقليص الاعتماد على قناة السويس. وتحقيق ممر مائي، يوفر لإسرائيل طريقًا بديلًا للتجارة الدولية بين آسيا وأوروبا. وهو حلم قديم كان يراود دافيد بن غوريون، الأب المؤسس لإسرائيل. ويُتوقع أن يبلغ طول القناة حوالي 293كم، مما يجعلها أطول من قناة السويس التي تبلغ حوالي 193 كم.
ولأن الإمكانية الوحيدة لمرور السفن الضخمة من خليج العقبة خارج البحر الأحمر، هي العبور عبر مضيق تيران والساحل المصري الشرقي. ولأن تلك المياه كانت تعتبر مياها إقليمية، فكان لا بد من تحويلها إلى مياه دولية. وعليه، فقد صادق البرلمان المصري بتاريخ 13 يونيو/حزيران 2017، لتحويل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة العربية السعودية.
- عزل العلاقة بإسرائيل عن مصير فلسطين:
لطالما كانت القضية الفلسطينية مركزية في السياسة العربية تجاه إسرائيل، وقد جسدت حرب أكتوبر 73، قمة ذلك الارتباط. لكن اتفاقية كامب ديفيد ووادي عربة، قد شكلتا انكسارا كبيرا لذلك الارتباط. ومع أن الاتفاقيتين قد تضمنتا بنودأ متعلقة بحلحلة قضية فلسطين، إلا أن إسرائيل قد تحقق لها إنهاء حالة الحرب، دون تحقيق أي تقدم فعلي لصالح فلسطين. فإذا كان الأمر كذلك بخصوص اتفاقيتين نصتا التزامات واضحة تجاه قضية الفلسطينية، فما بالك باتفاقيات أبراهام، لم تشر، لا من قريب ولا من بعيد، إلى ذلك، بالرغم من أن كلا من الإمارات والمغرب، قد أعلنا أن صفقتهما قد جاءت لدفع إسرائيل بتعليق خطط ضم أجزاء من الضفة الغربية، وأنها ستمكنهم من خدمة القضية الفلسطينية من موقع أقوى.. إلا أن الأيام التي تلت قد دلّت على تكريس عزل مسار التطبيع عن مسار حل القضية الفلسطينية، وهو ما جاءت معركة الطوفان لكسره.
وهكذا تطور موقف الارتباط بقضية فلسطين عبر ثلاث مراحل:
- مرحلة “لا سلام مع وجود إسرائيل”، باعتماد العداء حتى يتم حل القضية (1948-1977)
- مرحلة “الأرض مقابل السلام”، باعتماد التطبيع في مقابل حل القضية (1978-2019)
- مرحلة “السلام مقابل السلام”، باعتماد التطبيع دون حل القضية (2020…..)
ولا شك أننا مقبلون على مرحلة رابعة، وهي: مرحلة “لا سلام مع وجود فلسطين: وهي تعني التطبيع المطلق حتى لا يتم حل القضية”، ذلك أن التورط البنيوي (البنيات الاقتصادية والعسكرية والأمنية ولسياسية..) المطِّرد لمجموعة من الدول العربية مع المشروع الإسرائيلي، سيجعل من أي محاولة حقيقية لحل قضية فلسطين، تهديدا لأمنها القطري الجديد، كما هو بالضبط، تهديد للأمن القومي لإسرائيل. وعسى ألا يكون حادث اعتراض المضادات الأردنية للصواريخ الإيرانية، ليلة 13 أبريل 2024، مؤشرا أوليا على الدخول في تلك المرحلة.
من خلال تلك الإجراءات الخمسة، فرضت و.م.أ منطق السلم المسلّح، خلال 36 سنة. لكنه قد تصدّع بشدة، لحظة العبور الكبير الذي حققت المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر.
لقد جاءت معركة طوفان الأقصى، لتواجه تداعيات منطق السلم المسلّح إقليميا، ضمن استراتيجيات السلم والحرب دوليا. إذ تشير جل المؤشرات، على أن تلك المعركة، قد قفزت من كونها مجرد تداعٍ من تداعيات الصراع الأمريكي الصيني، إلى عامل مركزي، غيّر شروط الصراع في المنطقة.
ومع بشاعة المشاهد في غزة، كثيرا ما طرح السؤال التالي:
هل كانت المقاومة تقدّر حجم الدمار الذي سيلحق غزة وسكانها قبل أن تطلق تلك المعركة؟
إن الجواب بالسلب، سيجعل المقاومة ساذجة وغير ناضجة. في حين سيجعل الجوابُ بالإيجاب المقاومةَ مجرمة في حق شعبها. ذلك أن السؤال خاطئ من أساسه، لأنه يتجاوز سؤالا منطقيا قبليا، وهو:
هل كان أمام المقاومة خيار آخر غير الدخول في معركة نوعية استراتيجية توقف كل تداعيات تلك الاستراتيجيات التي جعلت من قضية فلسطين خارج نطاق الاهتمام والحل؟
ذلك هو السياق الذي جاءت فيه معركة الطوفان، وذلك هو المشهد الذي نعيشه اليوم.