(المقال كتب في دسمبر 2016)
جولتان من المفاوضات، جرتا بين أطراف النزاع باليمن، منذ أواسط شهر ديسمبر الماضي. كان الفشل مصيرهما. فيما الجولة الثالثة إلى آخر الشهر الجاري، لاستكمال الترتيبات حسب ما تم الإعلان عنه.
وبذلك تكون قد مرت خمس سنوات على انطلاق حراك شباب اليمن، وأربع سنوات على تنحي علي صالح، وسنة ونيف على سيطرة “أنصار الله” على صنعاء، وعشرة أشهر على انطلاق عاصفة الحزم..
وأمام توالي الأحداث، وتشعب التفاصيل، نحتاج إلى وقفة تأمل، لنتفحص بهدوء ما جرى ويدور، كي نستكمل الصورة و نستشرف المستقبل القريب. ساعين إلى تسليط الضوء على طبيعة الصراع الحاصل ، متسائلين عن طبيعة الاستراتيجية التي تؤطره، مركزين على السيناريوهات المحتملة للوضع الراهن. لاعتقادنا أن فهم تلك المستقبَلات، سيكشف، ولو بأثر رجعي، صورة ما يحصل الآن. وما ينبغي اجتراحه من حلول غير اعتيادية. لتفادي السقوط في المآلات الأسوء..
أولا: واقع المشهد: من الحراك إلى العاصفة:
1. في البدء كان الحراك:
عربيا، كان من المتوقع أن ينطلق التغيير من صنعاء، بالنظر إلى سبقه في التحرك ضد نظام الفساد. فمنذ خمسة عشرة عاما تشكل مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة، ثم تبعه تجمع اللقاء المشترك، فاحتجاجات الطلبة الرافضين للتوريث وتحويل اليمن إلى “جملوكية “.
وهو ما اعتبر مؤشرا مبكرا على أن الشعوب العربية، أصبحت تواقة، إلى تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية، لتجاوز الدولة النفعية التي استنفذت أغراضها: فقد فشلت في تحقيق التنمية، بنفس القدر الذي فشلت في تحقيق الحرية.
غير أن اليمن، بما له من موقع استراتيجي خاص، لم يكن ليُسمح بالمغامرة به، ولو على نمط ما سيقع بعد ذلك في كل من تونس أو مصر. كما أن وضعه أعقد، من أن يتم التعامل معه بالسيناريو البحريني. وقد كان السيناريو الأقرب له، هو السيناريو الليبي، لكن من دون الإطاحة التامة بالرئيس، فقد تم الاحتفاظ لعلي عبد الله صالح بدور تكميلي سيلعبه بعد حين، لم يكن للقذافي حظ في أن يلعبه.
2. اليمن استراتيجيا:
بحكم الجغرافيا ، فاليمن بلد خليجي، اكتسب أهميته الاستراتيجية من واجهته (2800 كلم) على البحر الأحمر وبحر العرب وخليج عدن. فهو البوابة الجنوبية لمدخل البحر الأحمر عبر باب المندب، ذي الأهمية الاستراتيجية الخاصة، والذي يربط البحر بالمحيط الهندي عن طريق خليج عدن، ليمر عبره يوميا أكثر من ثلاثة ملاين برميل نفط ، إضافة إلى 21 ألف سفينة سنويا. كما أن عشرة بالمائة من التجارة الخارجية الإسرائيلية لا تمر إلا عبره. وقبالة شواطئ الحُديدة وتعز، يمتد أرخبيل حنيش. وبحدود تقارب 2000 كلم يجاور الدولة النفطية الأكبر: السعودية.
مما يعني أن أي تغيير في البنية السياسية للبلاد، سيكون له انعكاس مباشر على أوضاع هذا البلد النفطي المجاور .
3. الحوار واستراتيجية الالتفاف على الحراك:
لم تخف السعودية معارضتها للحراك العربي. وبحكم الجوار، فقد نال الحراك اليمني أكبر حظ من تلك المعارضة.
ظل الحراك سلميا بالرغم من دموية علي عبد الله، قصد جره إلى العسكرة في بلد ينتشر فيه السلاح كما ينتشر القات.
وبرعاية الرياض، قدمت دول الخليج في أبريل 2012 “المبادرة الخليجية”: يتنحى بمقتضاها الرئيس، مقابل حصوله على الحصانة، ويتسلَّم نائبه السلطة ، كي يحضّر الأجواء لدستور جديد وانتخابات رئاسية.
تبعا لذلك، توقف الحراك ليسمح للمبادرة أن تتم.
تمايزت في تلك اللحظة أربعة أطراف سياسية، مثلت “قوى الشد المتعاكسة”، تقاربت بشكل مثنوي، لتشكل تقاطبا ثنائيا: فهناك جماعة أنصار الله وأتباع الرئيس علي عبد الله من جهة ، والذي استطاع أن يستميل جل قيادات حزب المؤتمر الشعبي إلى صفه. في مقابل أتباع الرئيس الجديد، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، من الجهة الثانية.
وبالرغم من نوعية مواقف حزبي الاشتراكي اليمني ، والتجمع الوحدوي الشعبي الناصري، حيث ظلا في جانب دعم الوحدة الوطنية والتقريب بين الأطراف، خاصة بعد مرحلة انهيار الدولة. إلا أن أثرهما على أرض الواقع بقي، بحكم تواضع حجمها، دون أثر كبير.
أما فصائل “الحراك الجنوبي ” فليس لها موقف محدد ولا ولاء موحد.
في حين، كانت الولاءات القبلية قد تفرقت بين الأطراف السياسية، وأصبحت متماهية معها، مثلما تشرذمت ولاءات الجيش والإدارة.
بالموازاة مع ذلك، كانت الأجواء السياسية خارج اليمن، تضج بالأحداث: فمنذ سنة 2012 دخلت سوريا مرحلة عسكرة الثورة، كما توزعت ليبيا على المجموعات المقاتلة، في حين حكم الإخوان مصر، حيث سيتم إسقاطهم بعد سنة واحدة من ذلك.
بدا حينها أن الوضع اليمني سيمثل نموذجا لتجربة انتقال ديمقراطي نموذجية، فبالرغم من الأجواء الداخلية المشحونة سياسا، انطلق الحوار، بالعاصمة صنعاء، أواسط مارس 2014، في أفق إقرار دستور جديد ثم انتخابات رئاسية. وقد ضم 565 عضوا من مواطني المحافظات والنساء والشباب، بترشيح من الهيئات السياسية والمدنية.
انتهى الحوار أواخر يناير 2015، وكان من أهم مخرجاته: الشروع في صياغة مسودة الدستور، إضافة إلى التقسيم الفدرالي للبلاد، في شكل تدبيري قريب من الحكم الذاتي.
تحاشى الحوار الوطني الحديث عن مشكلة انتشار السلاح. فقد كان الموضوع متجاوزا حتى قبل أن تبدأ أولى الجلسات، بما أن جماعات العنف المسلح كانت ضمن أهم أعضاء الحوار: وهو ما جعل منطق الحوار الوطني، يتساكن جنبا إلى جنب مع منطق العنف المسلح، إن لم يكن قد مُنح شرعية ضمنية جديدة. شرعية سوف يكون ثمنها فادحا عما قريب.
4. مخرجات على الرف وتناقضات بالميدان:
انقضى الحوار، ولم ينقض التقاطب، والذي أججه حدث اغتيال ممثل “أنصار الله” في الحوار، وهو القيادي عبد الكريم الخيواني، حيث تبنى الاغتيال فيما بعد تنظيم القاعدة. فخرجت صنعاء عن هدوئها، الذي كان سائدا خلال أجواء الحوار.
ثم بعد ذلك أعلن “أنصار الله” رفضهم للفدرالية، ثم لمسودة الدستور الجاري إعدادها.
وبدلا من أن تكون مرحلة ما بعد الحوار الوطني مرحلة انكباب على بلورة آليات تنفيذ المخرجات، أضحت فرصة لتقويضها.
لسبب ما، ليس هنا مجال التفصيل فيه، اعتبرت السعودية حينها، بمعية الإمارات، أن ما آل إليه الوضع المصري مؤشر خطير ينبغي التعاطي معه بسرعة وحزم.
سينعكس موقف الرياض وأبو ظبي من الوضع بمصر على طبيعة تعاطيهما مع الشأن اليمني: فقد توترت علاقتهما بآل الأحمر وحزب الإصلاح . فشرعت الإمارات في دعم علي عبد الله، وعينت نجله ﺃﺣﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺻﺎﻟﺢ سفيرا لليمن لديها، ومكنته من إدارة مشاريع استثمارية بمليارات الدولارات. فيما كان والده يحشد داخليا ولاءات القبائل وقيادات الجيش.
بل لقد حامت شكوك قوية بعد ذلك، حول الدور الإماراتي في دعم “أنصار الله”. بعد أن أبدى مساعد وزير الخارجية الإيراني استغرابه من دعم الإمارات بالذات للسعودية في حربها ضد الحوثيين.
5. الطريق إلى صنعاء والصعود نحو المجهول:
استغل “انصار الله” حالة الاحتقان الشعبي بسبب الزيادة المفاجئة في أسعار الوقود، فتحركوا نحو صنعاء، دون مواجهة تذكر. وبدأت المواقع العسكرية والمدنية تنهار أمامهم الواحدة تلو الأخرى.
يثبت تقرير عسكري يمني، نشر على نطاق واسع، أن وفدا ديبلوماسيا، قد تحرك، قبيل سقوط صنعاء بأيام، انطلاقا من مقر السفارة الإيرانية بصنعاء، مكون من السفير الإيراني والملحقين العسكريين الأردني واللبناني إلى جانب قادة حوثيين، حيث رافقته قاطرة تحمل أسلحة وذخائر تم صرفها من مخازن وزارة الدفاع وتفريغها بقرية القابل المحاذية للعاصمة والخاضعة للقوات الحوثية.
بعد تلك الزيارة بقليل، وعقب معركة شرسة على مشارف مدينة عمران المحاذية للعاصمة، حيث كان اللواء 310 هو المعوّل عليه في المواجهة ، إلا أنه كان مرابطا بالمدينة ، دون أي إمداد من قبل وزير الدفاع آنذاك محمد ناصر أحمد. فسحق اللواء أمام الحوثيين وقوات على عبد الله، وتم التمثيل بجثة قائده حميد القشيبي.
سقطت مدينة عمران، ثم تبعتها صنعاء يوم 21سبتمبر 2014 دون مقاومة.
ابتهج الإيرانيون بما أسموه “انتصار إيران باليمن”، حسب التعبير الحرفي لمستشار خامنئي علي أكبر ولايتي، وأفصحوا فورا عن عزمهم إقامة استثمارات كبرى على باب المندب.
أصبح الرئيس هادي محاصرا بإقامته، والحوثيون يسيطرون على القصر الرئاسي والإدارات المحلية والقطاعية. لقد غدوا القوة السياسية والإدارية والعسكرية الأولى في البلاد.
حاول هادي تشكيل حكومة لتسيير الأشغال، غير أنه فشل فاستقال، ثم توجه إلى عدن.
فأذاعت جماعة أنصار الله “الإعلان الدستوري”، وحلوا البرلمان وعينوا “اللجنة الثورية” لتسيير البلاد.
بعد شهر واحد، تراجع الرئيس هادي عن استقالته. ارتباك، لم يلتفت إليه الحوثيون الذين مضوا في تسيير البلاد باعتبارهم “الجهة الشرعية”. فوقعوا مع إيران مذكرة تفاهم تقضي بتسيير 28 رحلة جوية بين صعدة وطهران.
و بدعم لوجستي من الرئيس السابق علي عبد الله، تقدمت قوات الحوثيين إلى عدن، وأخذت تقصف القصر الرئاسي هناك.
6.عاصفة بما يشتهي الجنرال:
مات الملك عبد الله وجاء الملك سليمان. ومع فجر يوم 26 مارس 2015، بدأت 180 طائرة سعودية وعربية تقصف مواقع “أنصار الله”، بدعم لوجستيكي أمريكي وبريطاني وفرنسي وتركي. في عملية أُطلق عليها اسم: “عاصفة الحزم”.
حسب دراسات الصراعات والحروب ، تندرج “عاصفة الحزم” ضمن ما يسمى ب”التدخل العسكري الإنساني” الذي يهدف إلى إضعاف مرتكبي العنف ودفعهم نحو التفاوض . لذلك كانت البيانات الصحفية للناطق الرسمي باسم “التحالف العربي” أحمد عسيري، تحاول باستمرار، أن تنسجم مع هذه الطبيعة وهذا الهدف.
فرح المناوئون لإيران، واعتبروا عاصفة الحزم بطولة وإقداما، وندد المناوئون للسعودية، وعدوا ذلك ظلما وعدوانا.
وبعيدا عن هذا التوصيف أو ذاك، فقد رفع التدخل العسكري السعوديُّ الحساسيةَ الطائفية بشكل غير مسبوق:
حيث كان من المثير للاستغراب، أن يتدخل حسن نصر الله، ولأول مرة، في تفاصيل الشأن الداخلي لبلد عربي آخر، بعد أن كان معهودا به أن لا يتجاوز تفاصيل الشأن اللبناني والقضية الفلسطينية. فصرح بعد يوم واحد من العملية العسكرية، بأن “عبد ربه منصور لن يعود أبدا (هكذا) إلى كرسي الرئاسة.”
عبارة عكست مدى المراهنة الطائفية لإيران وحلفائها في المنطقة، على الدور السياسي والعسكري الذي تقوم به جماعة أنصار الله. في مقابل المراهنة الطائفية التي تحاول السعودية تحقيقها من خلال حشدها دولا “سنية”.
ثانيا: مآلات المشهد: من العاصفة إلى التقسيم:
1. حصاد العاصفة دماء وغبار:
مع أول هجوم جوي، قضت السعودية على “امتياز الوساطة” التي كانت تتمتع به بين الأطراف اليمنية، واكتسبت، مقابل ذلك، صفة “طرف في النزاع”. كما قطعت طريق العودة الى المبادرة الخليجية، ثم أحرقت مخرجات الحوار.
فبعد أن كان السقف السياسي “المعلن” للحوثيين لا يتعدى المشاركة في “حكومة وحدة وطنية”، فلن يكون الطموح الحوثي بعد “العاصفة” أقل من حكم ذاتي في إطار تسوية سياسية، ستكون إيران من ضمن الرعاة الدوليين لها. خاصة وأن الأرضية القانونية التي كان يمكن البناء عليها، وتتجلى في قرار الأمم المتحدة 2216، هو ذات القرار الذي يوصي بفرض الحظر على قيادات “أنصار الله” وعلي عبد الله. وهو ما سيمثل إشكالا مرجعيا قبل أي تفاوض جدي مقبل.
أدارت جماعة “أنصار الله” حربا شرسة ضد “التحالف العربي”، ودل مستوى الأداء الحربي لديها، على أنها قد تحولت من مجرد جماعة مسلحة، إلى جيش شبه نظامي، أصبح من ضمن عتاده: صواريخ باليستية.
ستكون تكلفة العملية العسكرية، مرتفعة من حيث الخسائر البشرية، فقد وصلت، لحد كتابة هذا النص، إلى ما يفوق 30 ألف قتيل من اليمنيين. تمكنت خلالها جماعة أنصار الله من ضرب ما خلف الحدود السعودية، وخاصة مدينتي جيزان ونجران.
بغير ذات أهمية، تفاصيل الكر والفر الجارية بين الأطراف المتحاربة، بقدر ما هو مهم أن قطبي التجاذب قد تمايزا فيما بينهما، بشكل شبه متكافيء.
وستنتهي العملية العسكرية دون أن تحقق أهدافها المعلنة: فالحوثيون لن يُقض عليهم كما كان يدرك ذلك المراقبون منذ البداية، و”الشرعية” لن تسترجع موقعها. لكن العملية برمتها قد حققت، بالتأكيد، “أهدافا” مغايرة تماما: ف”العاصفة” لم تجر كما ظنت الرياض، ولكنها كانت كما اشتهى “الجنرال”، وهو ما سيأتي خبره بعد حين.
7. نزاع داخلي بحسابات خارجية:
بسقوط صنعاء، وانهيار الدولة اليمنية، وتقوية “أنصار الله”، بالدخول في الإجراء العسكري، تكون السعودية قد حققت ما يمكن أن نسميه “استراتيجية الدعم النسقي” للثورة اليمنية: فقد دعمت الحراك لتحقيق احتوائه، وذلك بتبني مطالبه في التغيير، ثم تغذية عوامل نسفه من الداخل. فأعادت إنتاج واقع جديد، هو أبعد ما يكون عن إرهاصات دولة يمنية ديمقراطية وموحدة.
وفي لحظة نادرة من لحظات تاريخ الصراع السعودي الإيراني، التقت إرادة البلدين على غير موعد سابق: فتوافقت إرادة احتواء ثورة التغيير لدى الأولى، بإرادة التمكين الطائفي لدى الثانية.
غير أن طبيعة المعركة ورهاناتها، قد اختلفت بالنسبة لكل منهما:
فالرياض تدير المعركة باعتبارها رهانا لتقليص التهديدات وتفادي المخاطر. في حين تديرها طهران باعتبارها رهانا لاستثمار الفرص وتحقيق المكاسب.
وتتجلى المفارقة الثانية بينهما على مستوى آخر: فالسعودية تعاملت خلال سنوات “الربيع العربي” بمنطق مكون من ثلاثة أركان: “تأمين الداخل ضد الثورات، وتأمين الأنظمة الحليفة ضد السقوط، ومكافحة تقدم مصالح الأنظمة المنافسة “.
وبذلك تمكنت من الحفاظ على “الانسجام البراغماتي” لمواقفها، ابتداء من محاربتها للتغيير بكل من تونس ومصر والبحرين، ودعمها للثورة السورية، ثم للثورات المضادة بعد ذلك.
أما بخصوص طبيعة تدخلها باليمن، فربما تكون الرياض قد حققت هدف “حماية مجالها الداخلي” إلى حين، كما أمنت “نظاما يمنيا حليفا”، من المرتقب أن يقوم على أنقاض هذه الفوضى.
غير أنها، قد فقدت، في مقابل ذلك، هدف “مكافحة مصالح النظام المنافس”: فإيران ستحقق ، جراء تداعيات كل هذه المرحلة، دعما غير مشروط لكيان سياسي طائفي يدين لها بالولاء.
وتتجلى المعضلة الكبرى للرياض، في تقاطع الإرادة الإيرانية بالإرادة الأمريكية: فكلاهما يرغب، ولو بخلفيتين مختلفتين، في إقامة “هلال شيعي جديد ” يمتد من الجنوب الشرقي السعودي (الأحساء والقطيف) إلى الشمال الغربي اليمني (صعدة).
ثم سيأتي الجزء المكمل للقصة المرتقبة، متجليا في خلفيات الموقف الأمريكي:
لقد اقتضت استراتيجية القوة الذكية لدى الإدارة الجديدة للولايات المتحدة ، وعلى الخصوص إدارة أوباما “تقليص نزعة الانفراد الأمريكي بإدارة التفاعلات العالمية، و إشراك القوى العالمية مع الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة وتقاسم الأعباء والمكاسب، والاستعانة بقوات مسلحة من هذه الدول عند الحاجة، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية المفيدة للطرفين، منع قيام تحالف بين هذه الدول ومنافسين للولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل “.
حيث ستمعن الولايات المتحدة الامريكية في التغاضي عن الرياض بخصوص التصعيد ضد الطائفة الشيعية بالسعودية، كما ستسمح بمزيد من العمليات الإرهابية ضدها. لتتحرك مزيد من الاحتجاجات الداخلية لهذه الطائفة. وستأتي الولايات المتحدة في الأخير، وتتبنى، “مظلوميتها” عبر تقاريرها الدورية، ومن ضمنها تقرير “الحرية الدينية الأمريكي” السنوي، الذي يعرض على لجنة حقوق الإنسان بالكونغرس. وذلك في أفق الدفع بهذه الفئة للمطالبة بحكم ذاتي، يمهد لتشكيل كيان موحد مع الكيان السياسي الحوثي المنتظر.
ازدواجية التعامل الأمريكي مع الرياض في مسألة الحرية الدينية ، بدا واضحا بخصوص موضوع إعدام الشيخ نمر باقر النمر ، حيث كان قرار المصادقة على إعدامه قد تم اتخاذه يوم 25 ديسمبر 2015. إلا أن واشطن احتفظت بموقفها من الموضوع، إلى أن تم تنفيذ الإعدام فعليا. حينها فقط خرجت بموقف الإدانة. مما يدل بأنه ذلك التكتيك إنما يصب في اتجاه أن تحافظ واشنطن ظاهريا على انسجام موقفها مستقبلا، حينما ستقوم بتبني “مظلومية” الأقليات الدينية في المنطقة، وتدفع بمشاريع انفصالية لتحقيق كيان مستقل لهم.
فالرؤية الأمريكية للشرق الأوسط الكبير سنة 2004، تتوافق مع التقرير الذي قدمه الجنرال المتقاعد رالف بيترز التي قدمها بعد ذلك سنة 2006 بعنوان:” من أجل شرق أوسط أفضل”، فكلاهما يقضي باستحداث دويلات جديدة تراعي الأقليات العرقية والطائفية في المنطقة. . بعد أن استكملت اتفاقية ساسي بيكو هذه السنة مدتها “القانونية” وهي مائة سنة . وهو ما يتوافق، جزئيا، مع ما ترغب فيه إيران في الأخير، من منافسة السعودية في رمزيتها الدينية.
نضيف إلى كل ذلك عاملا جانبيا قويا، يجلى في السعي الإسرائيلي الدائم، لتدويل باب المندب، حتى لا يبقى ضمن مجالات الصراعات الإقليمية، بالتعاون مع إرتيريا وإيثيوبيا. كجزء من مساعيها لتدويل عمليات تأمين المجرى الملاحي بخليج عدن وسواحل الصومال ، خاصة مع التواجد الإسرائيلي هناك من خلال احتلاله لجزيرتي صنافير وتيران السعوديتين منذ عدوان 1967. وإذا ما تم الاتفاق بين الأطراف اليمنية المتصارعة بعقد الجولة الثالثة للمشاورات بأديس أبابا بدل جنيف، فسيكون ذلك مؤشرا قويا على أن هذه الرغبة الإسرائيلية هي في طريقها للتحقق عما قريب .
8.سيناريوهات على هامش الخرائط:
عادة ما يتم الحديث في مثل هذه المواضيع المتعلقة بالنزاع، عن السيناريوهات الثلاثة: الأكثر تفاؤلا والأقل تفاؤلا ثم الأكثر تشاؤما.
فإذا ما سارت الأمور على ما هي عليه إلى آخر مطافها، فربما لا يكون للحالة اليمنية ترف تعدد السيناريوهات، فهناك خشية حقيقية من أن يكون الوقت قد فات لتجاوز ما تم إقراره من قبل واضعي “خرائط تقسيم” المنطقة، حيث لليمن نصيب كبير منها:
فالمناخ الإقليمي، لا يساعد على إيجاد حل مثالي، إذ يسير في اتجاه المزيد من الاضطراب والصراع، حتى غدا في المنطقة نوعان من الكيانات فقط: كيان مضطرب، وآخر مرشح للاضطراب.
وجماعات العنف العابرة للقارات (مثل القاعدة وتنظيم الدولة)، ستظل عامل استفزاز لمزيد من التقاطب الطائفي والعرقي. وقد استفادت من واقع الصراع لتتمدد أكثر وتتهيأ للمرحلة القادمة.
وأما القوى الوطنية، التي يُعوّل عليها عادة لحلحلة النزاعات الداخلية، فهي مرتهنة لدى القطبين الخارجيين: طهران والرياض.
وما يجعل الشأن اليمني مركبا حد التعقيد، كون ما شهده وسيشهده من تطورات لاحقة لتسكين الصراع بين الأطراف المتنافسة، إنما هو جزء من مشهد شامل ضمن استراتيجية إعادة تقسيم المنطقة برمتها، لتجديد آليات تحكم الولايات المتحدة في منابع الطاقة ومعابرها وأسواقها. إذ تدل كل المؤشرات والدراسات الجيوستراتيجية، على أن هاجس حصول الولايات المتحدة على الطاقة، وعلى رأسها النفط والغاز، سيرتفع ابتداء من سنة 2015، حتى أفق 2050 ليصل إلى زيادة بنسبة 10 بالمئة، أي من 20.2 مليون برميل يوميا، إلى 22.1 . كما أن اعتمادها على الاستيراد الخارجي سيبلغ برميلين من كل ثلاثة براميل . وهو ما سينعكس لا محالة على مراهنتها على مزيد من التحكم في تدبير الطاقة النفطية على الخصوص، وذلك عكس ما تروج له بعض منابرها الإعلامية.
وما هو مؤكد لحد الآن، أن اليمن كما عهدناه، ربما يكون قد تغير للأبد. لقد كان يبدو، قبل قرار الرياض قطع علاقاتها مع طهران ، أن السيناريو الأقل تشاؤما، هو أن تعقد كل من إيران والسعودية تسوية قد تتجاوز حدود اليمن، حتى يتم تحقيق التكافؤ بين الطرفين على ميزان التفاوض، في اتجاه منح شكل من أشكال الاستقلالية لكيان سياسي يستفرد به “أنصار الله”، في مقابل كيان سياسي حليف للسعودية.
لكن في ظل قطع العلاقة بين الطرفين، فحتى هذا السيناريو أصبح مستبعدا في الظرف الحالي.
بطبيعة الحال فإن تخطيط وتقارير الولايات المتحدة ليست قدرا مقدورا، لكن باستطاعة تلك المخططات أن تتحول إلى واقع لا مفر منه، كلما غفلت عنها قوانا السياسية من حاكمين وفاعلين، وشاركت في تنفيذها، سواء عن وعي وإرادة أو عن تجاهل وإذعان.