مقامة على هامش المدوّنة
بينما نحن جلوس في مقهى حومة الفقراء، نحتسي الشاي ونأكل الخبز بلا شواء، نتابع الندوة بالشاشة السوداء، وهي تقلّب على نار هادئة قضبان مدونة غنجاء، يرومون بها توضيب العلاقة بين الرجال والنساء، وكان قد ولغ فيها النخبة والدهماء..
حتى لمحنا “عابر السبيل” قد ارتكن بالزاوية، يتابع ما يقوله المحلّل والرّاوية، وما يتفوّه به المتناظرون من كلمات بهم هاوية، وقد علت وجهه مسحة جادّة وساريّة، ورُسمت خطوط مقطّبة على جبهته والناصية. وكأنّه قد رأى تشوّفنا الى مقاله، وترقّبنا لما سيدلي به -على عادته- في مقامه، حتى نطق، وكأنه السهم قد انعتق، نافذا من عقاله، فقال:
“حين إبليس لآدم وزوجه قد أدلى: (هل أدلّكم على شجرة الخلد وملك لا يبلى)، فهو قد توجّه إليهما، بما تعلّم من طبيعة البشر عنهما، من نزوع للخلد والملك كليهما.
فخاطب آدم بالنزعة الأولى، وخاطب زوجه بالنزعة الثانية.
إذ أوهمهما بما هما عليه مفطوران: نزعة الخلد للرجل، ونزعة الملك للمرأة.
فنزعة الخلد زمانية أفقية ذكورية، ونزعة الملك مكانية عمودية أنثوية.
ولكل من الرجل والمرأة حظه من النزعة الأخرى، بقدر ما قد تخلّق فيه من عناصر الجنس الآخر، قبل أن يحسم لصالح غلبة أحدهما القدَر.
لذلك كانت وظيفة الرجل في الدنيا، هي القوامة لإشباع ملكة التحكّم. وكانت وظيفة المرأة هي السكن لإشباع ملكة الأمان.
وكان نزوع كل منهما للآخر لتحقيق ما جُبل عليه كل منهما، مما يفتقر إليه كل منهما، وهو متوّفر لدى الآخر:
فالرجل ينزع للمرأة، حتى يشبع ملكة التحكّم، عن طريق وظيفة القوامة، بالسكن للمرأة.
والمرأة تنزع للرجل، حتى تشبع ملكة الأمان، عن طريق وظيفة السكن، بقوامة الرجل.
ولذلك، كانت نزعتا الإنسان وملكتاه، على اختلاف أقدارهما، حسب كل منهما، هما حافزا كل طاعة للمنعِم بهما عليهما. كما كانا حافزا لكل معصية له بهما.
وبالقطع، لا تتحقق الحياة، بدون تواثق ذكر بأنثى، خلدا وملكا، فتكون الأسرة وتكون الذرية.. إذ لا خُلد بدون مُلك، كما لا مُلك بدون خُلد.
ذلك حظ الرزق، الذي بيد المنعِم، وهو ميزان الخلق. أما حظ الكسب، فباختيار المنعَم عليه، وهو معيار الأمر:
فما اتّقى المرء بالتقرب من ربه، فارتقى، إلا لكي يدرك-بما أمره به-نعمتي الخلد والملك.
وما فجر المرء بعصيان ربه، فارتكس، إلا ليدرك-بما نهاه عنه-غايتي الخلد والملك.
وشتان بين الخيارين، وشتان بين المصيرين: فمتى كان إدراك النعمة يُنال بإغضاب المنعِم؟ ومتى كان المنعِم يروم بنعمته إشقاء المنعَم عليه؟
ومن الشقاء سعي كلّ من الجنسين، استبدال وظيفته، بتقمّص وظيفة الثاني.
فأما إذ فعلوا، فقد اختلّ رتاج الأسرة، وضاع صوّان الولد، وانفرط عِقد التحكّم، وبرُد حضن الأمان، وذلك حين سعى الرجل لتحقيق وظيفة السكن، على حساب وظيفة القوامة. ثم سعت المرأة لتحقيق وظيفة القوامة، على حساب وظيفة السكن.
وما ظني بمدوّنتكم هذه، إلا مضيِّعة لكلا القوامة والسكن، ومشتتة لكلا التحكّم والأمان، ومجرِّدة لكلا الخلد والملك.
فأي حياة بعد ذلك تعيشون؟ وأي رابطة بعد ذلك تعقدون؟
قوموا الى أولادكم وأزواجكم يرحمكم الله، وانعموا بقوامتكم وتحكّمكم، واظفروا بسكنكم وأمانكم، قبل أن يجفّ حبر المحبرة، وتزّفوا الحياة الى المقبرة. بُحّت البلابل، وغنّت القُبّرة.”