كتب في: 21/01/2021
أولا. تهافت اتجاه التسويغ:
في اتجاه محاولات تبرير واقعة سلوك التوقيع على وثيقة التطبيع، وجعله منسجما مع معتقد حزب العدالة والتنمية، بخصوص قضية فلسطين، استعمل الأمين العام ومعه الأمانة العامة، خلال الفترة الفاصلة بين 10 دجنبر 2020 و23 يناير 2021، مجموعة من التسويغات، يمكن ان نناقشها فيما يلي:
– تحوير طبيعة السلوك: “استئناف وانفتاح وليس تطبيعا”:
بخمسة أيام بعد بلاغ الديوان الملكي، وقبل توقيعه على وثيقة التطبيع بسبعة أيام، خرج رئيس الحكومة، عبر قناة الجزيرة، ليصف ما تم بوصفين سياسيين:
التوصيف الأول: أن ما تم كان “استئنافا” للعلاقة بين المغرب وإسرائيل.
اما التوصيف الثاني، فهو أن ما تم كان “انفتاحا” من المغرب على إسرائيل.
ومن المعلوم أن توصيف السلوك السياسي يحدد، في مجال العلاقة الدولية، بشكل دقيق، ويأتي خلاصة لشبكة من التحليلات، التي تقوم بها الدولة او الحكومة او الحزب، لتتبنى توصيفا محددا للسلوك والموقف، منسجمة مع منطلقاتها وأهدافها. غير أن المدقق في التوصيفين أعلاه قد يستنتج غير ذلك:
فوصف ما تم، أو ما سيتم، بكونه مجرد استئناف للعلاقات، يتناقض معه حقائق ما تم إنجازه مباشرة بعد يوم 10 دجنبر 2020، إلى حدود اليوم. لا من حيث المجالات المشمولة، ولا من حيث وتيرة الإنجاز.
أما وصف ذلك بكونه “انفتاحا”، فهذا يعني، بشكل من الأشكال وكأن المغرب، يدين نفسه، وكانه كان يمارس نوعا من الانغلاق، فراجع نفسه، ونهج نهج الانفتاح. كما يؤكد، من جهة أخرى، أن التغيير قد حصل لدى المغرب، وأن أي تعديل في السلوك والقناعات لم تحصل لدى الكيان الصهيونى.
ولئن كان الاستئناف المدعى هو، في حقيقته، تصعيد نوعي للعلاقة بين المغرب والكيان الصهيوني، فإن هذا الأخير فعلا لم يقم بأي تعديل في سلوكه الاحتلالي والعدواني، بما يعني أن هذا الموضوع لم يكن مجال تفاوض في مقابل الإعلان عن هذه العلاقة. وإنما كان مجال التفاوض قد شمل موضوعا مغاير.
- رفع سقف الانتظار إيهاما بنبل الهدف: “الاتفاق داعم للقضية وليس تسليما فيها”:
وفي سياق البحث عن مسوغات تخفف حدة التناقض بين السلوك والمعتقد، يتم اللجوء إلى الادعاء بأن التوقيع سيكون أداة لخدمة القضية الفلسطينية، بشكل أفضل من عدم وجود هذا الاتفاق.
وإذا تمادينا مع هذا الادعاء، فهل علينا أن ننتظر مثلا بأن يكون بمقدور المغرب أن يساعد في تحقيق ما لم يستطع حتى الفلسطينيون أنفسهم تحقيقه، لا بالسياسة ولا بالمقاومة.
وأنه يستطيع انتزاع ما لم تستطع دول الطوق أن انتزاعه، لا بالمقاطعة ولا بالاعتراف.
وأنه يستطيع أن يمنع اي اعتداءات جديدة على حق الفلسطيني في الحياة. كما يستطيع أن يوقف أي عدوان مقبل على غزة او غيرها. وأن يوقف تمدد الاستيطان. أوأن يساهم في تسوية موضوع العودة. أو أن يمنع تهويد القدس.
والأهم من كل ذلك، أن يوظف المكون المغربي في الكيان الصهيوني، مع أنه يمثل أكثر الفئات الصهيونية يمينية وتطرفا، لصالح خيارات أكثر اعتدالا وتسامحا.
إن العلاقات الدولية، كما هو محسوم، لا تبنى على الأماني والآمال، وإنما على توازن القوى، وتبادل الضغط بين الاطراف. لذلك فمن الاجدى أن نتواضع في رفع أي سقف منتظر من هذا الاتفاق.
– شيزوفرينا المواقع والصفات: “الأمين العام مناضلا، ورئيسا لحكومة مطبعة”:
إذا كان من الطبيعي أن تتوازن المواقع والأدوار، فهل من المعقول أن تتعارض السلوكيات والقناعات حسب المواقع والادوار؟
للأسف هذا هو الخطاب الجديد الذي يحاول البعض إقحامه في الوعي السياسي اليوم، حتى نقبل أن يقوم، مثلا، رئيس الحكومة، بالتعاون مع مجرمي الحرب الصهاينة، صباحا. ثم يأتي في المساء، ليلتحق بتظاهرة أمام البرلمان ويهتف مع المتظاهرين: “قولوا لتجار السلام فلسطين عربية، لا تفاوض لا سلام لا حلول استسلامية.”
إن أي حزب سياسي، حينما ينتخبه الشعب ليحكم، فهو يفعل ذلك في انسجام مع رؤيته وهويته وبرنامجه، الذي قدمه للشعب، لتمثل تلك الادبيات تعاقدا أخلاقيا بينهما.
ومن المحتمل الكبير، أن يتعرض ذات الحزب، لموقف جذري، يضعه في موقف التعارض التام، مع ما تعاقد عليه مع الشعب. حينها، عليه أن يتوقف قليلا، ليقيم الوضع، فإن كان لا يزال هناك متسع للاستمرار، منسجما مع ما تعهد به، فذاك. وإن تعذر، فعليه أن يرجع إلى قواعده سالما.
– من المشاركة السياسية إلى الوكالة / رئاسة الحكومة مصلحة توقيع:
“هناك خط فاصل يجب أن يُرسم بين أصحاب القرار، وأمثالي الذين لا حول لهم سوى تنفيذ الأوامر. أنا لم أكن القائد، ولم يكن هذا قراري، لذلك لا يتملكني شعور بالذنب.”
هذه العبارات ليست جزءا من المداخلة المتوقعة للسيد الأمين العام، أمام المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، وإنما هي لأدولف آيخمان، حينما كان يحاكم أمام محكمة لاهاي سنة 1962، بتهمة إدارته لمحرقات الهولوكوست.
وهي وثيقة تبين كيف أن أعتى المجرمين، يلجأ إلى استدعاء ذلك الخط الوهمي الفاصل، بين ذاته الشخصية، وبين ذاته المتلقية للأوامر. حيث يفصل بين فعله ونتيجته، ملقيا مسؤولية ما يقوم به على من هو أعلى رتبة منه.
إن وضع ذلك الخط الفاصل، هو ما يُمكن الذات المنفذة من تحقيق “التقبل التدريجي” لتنفيذ أوامر من السلطة العليا، تتعارض مع المعتقدات الذاتية.
إن محاولة التمييز بين أنماط السلوك حسب اختلاف المواقع، هي شيزوفرينية خطيرة، يحاول البعض اليوم تسويغها، لتصبح قناعة متجذرة في الوعي السياسي للحزب. بدعوى أن “الرجل الثاني في الدولة لا يمكن أن يخالف الرجل الأول”. وهي حقيقة مبدئية. ولكن في ذات الوقت لا يتصور أن يكون الرجل الثاني مجرد وكيل توقيع ومصادقة، بل عليه أن يكون مشاركا حقيقيا في الفعل السياسي. وإلا تحول من دور المشاركة السياسية إلى دور الوكالة السياسية.
لأنه إذا كان من المبرر أن يخرج أي حزب على تعاقده مع منتخبيه، فما فائدة الانتخابات إذن؟ وهل تحتاج الدولة نفسها الى مجرد أسماء لا لون لها ولا رائحة، حتى تسلمها الحكم؟
إن الملك يمثل الدولة، والدولة لها ضروراتها. وأما الحزب فيمثل الشعب، وللشعب خياراته.
غير أن خط الانزياح، الذي يكاد يسقط فيه اليوم، حزب العدالة والتنمية، يتمثل في أنه قد تبنى ضرورات الدولة، فانقلب على خيار الشعب، فيما يخص هذه القضية، بدل أن يمثل عامل توازن بين برنامج الحكومة، وتوجهات الدولة.
وفي حال ما إذا قبل حزب العدالة والتنمية، أن يقوم بدور المنفذ السلبي لإكراهات الدولة، فإنه سيفقد صفة المشاركة السياسية، ليتحول إلى مجرد وكيل سياسي.
ثانيا: إمكانات مهملة لا تزال متاحة:
ومع كل ما ذكر، فلا تزال لدى الحزب فرصة أخيرة لإنقاذ شرف مبادئه، وذلك في حال استفاد من ثلاث ممكنات لا تزال بين يديه:
– مقاومة للابتزاز بالقضية الوطنية:
إن صفقة المقايضة التي تمت بالتسليم في فلسطين مقابل تأمين الصحراء، هي من قبيل من يقايضك بشرف زوجتك مقابل التفريط بشرف أمك. وحينما ترفض التسليم بعرض أمك، يتهمك بالتفريط في عرض زوجتك. فهل يجوز أن يقبل هذا المنطق بحكم الواقعية، أو يناور في التعبير عن الرفض، بحكم السياسة؟
حينما يجد أي كيان نفسه في مثل هذا الموقف، تسقط كل معايير السياسة، لأن من يقايضك لم يترك لك أي مساحة ولو بسيطة للاختيار أو المناورة.
حينها يصبح موقف الرفض هو الموقف المنطقي والواقعي.
وأما موقف الحزب الثابت من الوحدة الترابية، فإن كل المحطات والمنعطفات التاريخية تشهد له بعمق تشبثه بها. فلا مجال لقبول الابتزاز بخصوصها.
إن الذين هندسوا لهذه الصفقة / المؤامرة، كانوا يعرفون ما يفعلون: فقد ربطوا قضية الصحراء بقضية فلسطين، حتى يقيموا ذاك التناقض الوهمي، بين الانتصار لهذا الحق، وبين الوفاء لذاك الشرف. فيكثر المزايدون على حقنا في الصحراء، بما أن المزايدة في هذا المجال لا تكلف شيئا، بل ربما سوف تُكسب لصاحبها امتيازا. في حين سيجد نفسه من ينتصر لشرف فلسطين متهما بقلة غيرته على قضيته الوطنية. وبدل ان يواجه التطبيع، تصبح اولويته تقديم الدلائل على وطنيته. فيربحوا هم الوقت، ونضيع نحن القضية.
لذلك على الحزب، أن يرفع من انخراطه في كلتا القضيتين، باعتبارهما قضية حق واحدة، لا مجال للتمييز بينهما.
– تبني لغة الوضوح وعدم المناورة:
إن الاختبار الذي يخوضه الحزب، لا يتحمل أي درجة من الغموض او المناورة.
إذ إنه قد وُضع اليوم، أمام استحقاق خطير لم يكن شريكا في تقريره. فلا يستساغ أن يكتفي بمجرد التذكير بمواقفه التقليدية من فلسطين. بل ينبغي عليه التعبير، وبوضوح تام، بأن هذا الإقحام أربك بعمق ثوابته التي بنى عليها مشروعه الوطني، وتعاقده مع المواطنين الذين اختاروه. وأنه غير مستعد للتنازل على تلك الثوابت، لأنها تهدد هويته ووجوده.
– ثالثا: التمسك بحق المسافة بين الحزب والحكومة:
إن استئثار المؤسسة الملكية دستوريا بالسياسة الخارجية، وكذا التركيبة الحكومية التي تمت هندستها سياسيا بعد انتخابات 2016.. تجعلان من حق الحزب، التعبير عن موقفه المتمايز عنهما في موضوع التطبيع. وأن يتشبث بسقف المطالب الشرعية الثابتة للشعب الفلسطيني، ولا يتنازل عنها تحت أي ظرف. وهو الموقف الذي لا يُدخل الحزب فورا في خانة المعارضة الشاملة، فلا يدعوه ذلك للانسحاب من الحكومة. ولكن يُبقي له الحق مستقبلا، في تقدير مصداقية الانخراط في أي تجربة حكومية جديدة.
ثلاث محددات، إذا تنازل عنها اليوم، فسيحكم على نفسه بالانتحار السياسي الفوري. وحينها سيكون قد كتب آخر فصل في سجل حزب وطني، كان يسمى: العدالة والتنمية.
وأخيرا.. إن المجلس الوطني، وهو يعقد دورته الحالية اليوم، ليتحمل مسؤولية خطيرة وتاريخية في التعبير عن موقف واضح ضد التطبيع. حيث إن من حقه إلزام وزراء حزبه، بنهج سلوك سياسي منسجم مع رفض التطبيع، فيما تبقى من الولاية الحالية، في أفق تقييم الموقف السياسي برمته، لاختيار الموقع الذي يخدم مبادئه وهويته وبرنامجه السياسي العام، على غرار جميع الديموقراطيات في العالم بما فيها الديموقراطيات الناشئة.