كتب في 30/11/2013
أولا: مقدمة: موضوع يفرض نفسه:
خلال القرن الماضي، أنتجت هوليود مئات الأفلام التي تصف عالم الجاسوسية، وتقنياته المستجدة، والتي اعتبرت في حينها تقنيات بالغة التعقيد والحداثة.
وقد كانت تلك الأفلام تعكس مدى قدرة الدولة على ترصد المعلومة، عن طريق عمليات مركبة، تجعل “مناط الرصد”، أفرادا أو جماعات أو دول، يسلم تلقائيا أمام هول تلك الآليات المركبة.
لكن كل ذلك اليوم أصبح من قبيل الماضي، وفي حكم الأساليب التقليدية المتجاوزة: فمع الطفرة الإلكترونية الحديثة، تغيرت قواعد التجسس، وتطورت أسايبه، لتصبح اكثر دقة وفعالية، وأوسع حجما واتساعا.
ففي يونيو 2013، سيقوم المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن Edward Snowden ، بكشف جزء من ذلك التغول التجسسي الذي بلغته الولايات المتحدة الامريكية، فسرب مستندات سرية، كشفت حجم التجسس الذي تمارسه بلاده على الأفراد والدول.
وهو ما نشرته كل من اليومية البريطانية الغارديان The guardian، والأسبوعية الالمانية دير شبيغيل DER SPIEGEL.
لم يمثل ذلك التسريب، في حد ذاته صدمة للعالم شعبيا ورسميا، بقدر ما مثل صدمة كبرى من حيث حجم تلك الممارسة ودقتها ومجال اكتساحها.
الأمر الذي أعاد إلى السطح، موضوع التجسس الإلكتروني، ومدى تهديده لحريات الافراد ومسه بخصوصياتهم، ومدى إمكانية تأثيره على مصداقية العلاقات بين الدول.
يسعى فيلم: “إمبراطورية الاستبداد الإلكتروني”، إلى تسليط الضوء على موضوع التجسس الإلكتروني، باعتباره موضوع الساعة، وأصبحت له تداعيات متفاعلة، كما أنه مرشح لمزيد من التعقيد في المستقبل القريب.
حيث سنقارن، في تمهيد تاريخي سريع، بين التجسس في القرن الماضي، والتجسس في عهد الإلكترونيات المعقدة.
كما سنرصد تأثير تقنيات التواصل الحديثة، على سيكولوجية الأفراد الجماعات وسلوكياتهم. وكيف أن المعلومة اليوم قد غدت متاحة بشكل جامح، يدلي بها المرء دون عناء ولا ضغط أو إغراء.
وسننقاش كيفيات ترصد بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، للمتعاملين مع وسائل الاتصال الحديثة، ومدى تأثير ذلك على أمن الافراد وخصوصياتهم وحقهم في الاختيار والتعبير. خاصة مع ظهور قوانين لدى مجموعة من الدول تسمح لها بملاحقة الأفراد ومحاكماتهم، حتى دون الكشف عن الأدلة التي تدينهم، تحت مسمى “حق الدولة في الاحتفاظ بسرية الأدلة”.
كما سنسلط الضوء على ظاهرة الانشقاق عن أجهزة الاستخبارات، من وجهة نظر “وطنية” و”قيمية”، احتجاجا عن ذلك النهج، وهو ما عبرت عنه حالة جوليان أسانغ / ويكيلكس WikiLeaks / Assange Julian ، وحالة إدوارد سنودن Edward Snowden .
و سنطرح حجم الإشكال الذي كشفته تلك التسريبات، إن على مستوى حقوق الأفراد، وعلاقة مستعملي التقنيات الحديثة مع الشركات المنتجة لهذه التقنيات، او على مستوى علاقات الدول بعضها ببعض.
حيث بدأت في التبلور حركات احتجاجية شعبية ضد هذا التغول، وحيث تسعى اليوم شركات الاتصال إلى طمأنة الافراد على حقوقهم التواصلية، بتطوير مزيد من البرامج ضد الاختراق، ومقاومة ابتزاز الدول للحصول على تلك المعلومات.. مما يعكس مقدار الحرج الذي تعيشه تلك الشركات، والذي بدأ يؤثر فعليا على مصلحها الاقتصادية المباشرة.
خاتمين الفيلم، بطرح آفاق هذا الوضع، متسائلين عن مدى قدرة تلك المقاومة الشعبية أو المهنية على تأمين الافراد والجماعات من تغول “إمبراطوريات التجسس الإلكتروني” ؟
وفيما يلي، محاور داعمة لبلورة معالجة الموضوع:
ثانيا: محاور الموضوع:
- الجاسوسية بين عهدين:
تاريخيا، يمكن أن نختصر عهود الجاسوسية إلى عهدين اثنين، نصطلح على تسمية كل منهما ب:
عهد “الجاسوس البطل”، وعهد ” البرنامج الجاسوس”. وذلك تبعا لمركزية كل عنصر منهما في فعالية العملية الجاسوسية.
- عهد “الجاسوس البطل”:
كانت الجاسوسية التقليدية تعتمد اعتماد أساسيا على العنصر البشري، داعمة إياه بالتقنيات المساعدة على التخفي والحركة واقتناص المعلومة والأشخاص.
لذلك كانت “شخصية الجاسوس” محددة لنجاح أو فشل العملية. وعليه استثمرت وكالات الاستخبارات العالمية في تدريبه ومده بأكبر مقومات القدرة على تنفيذ المهام بالغة التعقيد.
وعلى هذا الأساس، يزخر تاريخ الجاسوسية بأسماء بارزة، تم تخليدهم أبطالا عند الدول التي خدموها، فيما صنفوا خونة عند الدول المقابلة. وقد بلغت قصصهم مدى كبيرا من التأثير، لتتحول إلى مصادر إلهام للعديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية العالمية. حتى أصبحت أفلام الجاسوسية تمثل نوعا خاصا من الأفلام سميت ب ” Spy Film “، وهو نوع ينتمي إلى افلام الحركة. وأفرزت كتابا متألقين، مثل الكاتب البريطاني: جون لوكاري John le Carré.
ونجوما سينمائيين مثل الممثل الأمريكي: جيمس بوند James Bond.
إلا أن هؤلاء الكتاب، وأولئك النجوم، إنما كانوا قد استوحوا أعمالهم من واقع شخصايت حقيقية، امتهنت عالم الجاسوسية بالفعل، ومن ضمن تلك الأسماء نذكر على سبيل المثال:
- الزوج الأمريكي “إيثل” و”يوليوس“ Ethel & Julius Rosenberg:
الذين كانوا أول مدنيين يعدمان بتهمة التجسس للاتحاد السوفيتي في أميركا عام 1953، حيث قاما بنقل معلومات عن القنبلة الذرية الأميركية إلى معسكر الاتحاد السوفيتي. كان كل من “إيثل” و”يوليوس” متزوجين ولديهما ولدين، وكانا يؤمنا بالفكر الشيوعي. لهذا قاما بهذه الخطوة التي دفعا حياتهما ثمناً لها.
- الجاسوس الإسرائيلي “إيلي كوهين” Eli Cohen:
وهو الذي زرع بواسطة الموساد في سورية مستغلين تمكنه من اللغة العربية. فقد تمكن “كوهين” من خلق صلات قوية مع قوات في الجيش السوري والحياة السياسية. كشف الاتحاد السوفيتي أمره وأعدمته السلطات السورية عام 1965 بتهمة التجسس لصالح إسرائيل.
- الجاسوس المصري رفعت علي سليمان الجمال:
وهو المشهور باسمه الحركي رأفت الهجان ، (1 يوليو 1927 – 30 يناير 1982) الذي رحل إلى إسرائيل بتكليف من المخابرات المصرية في إطار خطة منظمة في يونيو عام 1956 وتمكن من إقامة مصالح تجارية واسعة وناجحة في تل أبيب، وأصبح شخصية بارزة في المجتمع الإسرائيلي. وقام بتزويد بلاده بمعلومات خطيرة منها موعد حرب يونيو لسنة 1967 وكان له دور فعال في الإعداد لحرب أكتوبر سنة 1973 بعد أن زود مصر بتفاصيل عن خط برليف.
مارست التمثيل والجاسوسية معاً في الجنوب الأميركي خلال الحرب الأهلية الأميركية لصالح الشمال، وقد قبض عليها متلبسة بالتجسس وحكم عليها بالإعدام ولكنها أنقذت قبل ثلاثة أيام من تنفيذ الحكم. اعتبرت أيضاً بطلة قومية لأنها حافظت على الدولة الأميركية من الانفصال.
- عهد “البرنامج الجاسوس”:
ليس من باب الصدفة، في الآونة الاخيرة، أن بدأ يتوارى، إلى الخلف، صيت الأبطال الجواسيس ، ذلك أن الجاسوسية اليوم، أخذت منحى جديدا في استراتيجيتها، فبدأت تتحول من الاعتماد الكلي على شخصية الجاسوس، إلى الاستثمار في البرامج الالكترونية القادرة على الرصد والاختراق والنقل والتحليل.
وبذلك، يمكن القول إن الجاسوسية اليوم دخلت عهدا جديدا، البطل فيه هو البرنامج، وبالتالي خرجت من مجموعة من التعقيدات المرتبطة بالاعتماد على العنصر البشري كأساس للفعالية، وتحول العنصر البشري في معظمه إلى تقننين إلكترونيين، وظيفتهم تطوير تلك البرامج وحسن استخدامها وصيانتها.
ومع أنه لا يزال من الصعب، في الوقت الراهن، أن نستطيع الكشف عن أكثر تلك البرامج فاعلية، ، إلا أن حالة سنودن، قد كشفت فعلا عن برنامج جاسوس عملاق، ” يسمى “بريزم”.
- برنامج بريزم PRISM :
منذ سنة 2007، استخدمت وكالة الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية(NSA)، برنامج “بريزم” (PRISM)، وإسمه الرسمي US-984XN وهو برنامج تجسس رقمي، مصنف باعتباره سري للغاية.
ويعمل عن طريق نظام يسمى X-Keyscore.
يقوم برنامج “بريزم” بجمع المعلومات من تسع شركات تقنية عملاقة منها غوغل وفيسبوك وأبل ومايكروسوفت. وبالرغم من الضجة التي رافقت تسريبات سنودن، إلا أن دوائر القرار في الولايات المتحدة مستمرة في دعم هذا البرنامج، والذي لا تقتصر تغطيته على سكان الولايات المتحدة الأميركية فحسب، وإنما تشمل جميع أنحاء العالم.
ويمكن لبرنامج بريزم، من الحصول على البيانات المتعلقة برسائل البريد الإلكتروني، ومحادثات الفيديو والصوت، والصور، والاتصالات الصوتية ببرتوكول الإنترنت، وعمليات نقل الملفات، وإخطارات الولوج وتفاصيل الشبكات الاجتماعية.
- الطفرة الإلكترونية: فرصة الجاسوسية الجديدة:
ما كان لبرنامج بريزم PRISM ، كنموذج للبرامج “الجاسوسية”، أن يكون له شأن يذكر، لولا تلك الطفرة التواصلية التي تعيشها البشرية اليوم، والتي تعتمد اعتمادا شبه تام على التقنيات الإلكترونية المستجدة. حتى أضحى العالم اليوم عالمان، حقيقي وافتراضي، وحتى غدا من المشروع أن نتحدث مع كيانات افتراضية جديدة، ليس اقلها تلك الشعوب الإلكترونية.
- الشعوب الالكترونية:
ما يقارب مليارين ونصف، هو عدد المتعاملين مع الأنترنت، بما فيهم مستعملي الهواتف النقالة، وذلك حسب ما جاء في تقرير الاتحاد العالمي للاتصال International Telecommunication Union، وهو وكالة تابعة للأمم المتحدة المتخصصة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. والذي أجرى إحصاء خلال آخر شهر يونيو 2012، حول مستعملي الانترنت عبر العالم، وهو ما يمثل ثلث البشرية اليوم.
عدد يعكس حجم المعلومات التي تمر يوميا بين شعوب العالم، حيث تمثل آسيا ما يقارب نصف كمية التواصل، متبوعة بكل من أوربا وأمريكا الشمالية. موزعين على مواقع شبكات التواصل ومواقع البحث والمواقع المتعددة المواضيع.
ومن جهة أخرى، كشفت المؤسسة البحثية المتخصصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات (THE RADICATI GROUP)- ، بأنّ خدمة “البريد الإلكتروني”، والتي وتقدمها اليوم شركات عالمية مثل بريد الهوتميل التابع لشركة مايكروسوفت، وبريد “ياهوو”، وبريد الجي ميل” التابع لجوجل، تستحوذ على نسبة 80 % من مستخدمي الإنترنت . مع ما توفره هذه الخدمة من مزايا مجانية وسرعة، وتجاوزها كل الحدود الجغرافية. حيث بلغت 155 مليار رسالة بريد إلكتروني في اليوم الواحد وذلك حتى نهاية العام 2012. وهو رقم مرشح للزيادة خلال العام الموالي بنسبة 7 في المائة، وتتوزع أنواع تلك الرسائل على: 101 مليار رسالة بريد إلكتروني في اليوم الواحد لقطاع الأعمال، و54 مليار رسالة بريد إلكتروني لقطاع الأفراد.
- السلوك السيوكولوجي للمتعامل مع الأنترنت:
لا يمثل المتعاملون مع الانترنت فئة موحدة، فقد تتعدد أصنافهم إلى أن تصل إلى إثني عشر صنفا، كما أكدت ذلك دراسة أجرتها جامعة وينشستر البريطانية University of Winchester بالاشتراك مع شركة First Direct المتخصصة في الأعمال المصرفية، فقد أشارت إلى أنه يمكن تمييز اثني عشر نمطاً من الشخصيات بين مستخدمي المواقع الاجتماعية، وفي بعض الأحيان يجمع الشخص الواحد بين أكثر من نمط استناداً إلى حجم نشاطه ومدى انتظامه ونوعية المحتوى الذي يقدمه عبر تلك المواقع. وبحسب الدكتور دافيد جليز David Glaze ، الخبير في سلوك وسائل الإعلام الاجتماعي ومدرس علم النفس الإعلامي في جامعة وينشستر البريطانية: “قد يتصرف بعض الناس في فيسبوك بشكل يختلف عما يفعلونه في تويتر على سبيل المثال”.
ولكن بالرغم من ذلك التباين بين أصناف المتعاملين مع الأنترنت، فإن هناك قواسم مشتركة بين كل منهم، خاصة المتعامين مع شبكات التواصل الاجتماعي، ومن بين تلك القواسم نجد ثلاث عناصر:
أولا: تلاشي مقاومة الإدلاء بالمعلومات الخصوصية، بغض النظر عن مدى صحها.
ثانيا: التحلي بمستوى مرتفع من التنافسية في تبليغ الأخبار وتبادلها.
ثالثا: الاستعداد التلقائي للإدلاء بالآراء دون تحفظ، مهما كانت حدتها.
وبالتالي، لم يعد من الضروري في كل الأحوال، ممارسة الضغط والتهديد أوالتعذيب ضد المتهم كي يدلي بما يفكر فيه أو من يتواصل معهم أو حتى أين يسافر ويحل، لقد غيرت تلك التكنولوجيا حتى طريقة تفكيرهم وحديثهم عن أنفسهم، فأصبحوا اقل تحفظا ومقاومة للتعبير عن كل ذلك.
وقد زكت هذا الاتجاه، تلك التقنيات المعتمدة في شبكات التواصل الاحتماعي، وتأتي على رأسها شركة فايسبوك، والتي تعمل باستمرار على توسيع دائرة منخرطيها، وربط بعضهم ببعض، وتشكيلهم في دوائر متراتبة، وتذكير بعضهم ببعض ما يهمهم في حياتهم الخاصة والعامة.
وبذلك كله، فقد أتاحت شكبات التواصل الاجتماعي، ومعها تقنية الرسائل الإلكترونية، ومحركات البحث، زخما هائلا من المعلومات بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية.
- ميلاد امبراطورية الاستبداد الإلكتروني:
وأمام ذلك هدير المشهد التواصلي الدفاق، لم يكن من الممكن أن نتصور، أن تقاوم دوائر الاستخبارات العالمية “شهوة” استغلال تلك الفرصة المتاحة أمامها، للحصول على هذا الكم من المعلومات، بشكل أيسر بمئات المرات، مما كان يكلفها خلال القرن الماضي وما سبقه.
فبدأت تلك الدوائر تكيف نفسها مع تلك المعطيات الاجتماعية والسيكولوجية الجديدة، إن على مستوى التجهيزات التقنية، أو على مستوى تأهيل الكفاءات البشرية.
ومادامت تلك التقنيات الإلكترونية المتفاعلة، تفتح لها في كل يوم، مساحات جديدة للحصول على المعلومة، فقد سعت تلك الدوائر لاستغلالها إلى أبعد مدى ممكن. فأصبحنا أمام دولة/ ظاهرة يمكن تسميتها ب”إمراطورية التجسس الإلكتروني”، ولاعتبارات متعددة، فإن الولايات المتحدة الامريكية تمثل اليوم هذا النموذج من الدولة.
فتقليديا، تعتبر ميزانية الاستخبارات الأمريكية أضخم ميزانية من بين كل الاجهزة الاستعلامية كافة. حيث تبلغ قيمتها ما يناهز ثلاثين مليار دولار أميركي.
وأما تقنيا، فإن الولايات المتحدة الامريكية هي الراعي العالمي للإنترنت، ويرجع ذلك لسبب بسيط، وهو أن تقنيات الأنترنت في حد ذاتها، قد نشات أساسا في أحضانها:
فمنذ سنة 1969، كانت وزارة الدفاع الأمريكي قد أطلقت مشروعا لربط وحدات الجيش المختلفة بعضها ببعض، عن طريق أجهزة الحواسيب، وقد أسمته “مشروع أربانت”ARPANET ، وهو اختصار لعبارة: (Advanced Research Projects Agency Network ) ، وتعني “شبكة وكالة مشاريع البحوث المتقدمة”.
وسنة 1971 تمكن المهندس الأمريكي Ray Tomlinson، والعامل في شركة BBN المتخصصة في البرامج الحاسوبية، من إرسال اول رسالة إلكرتونية.
وفي سنة 1993 سمحت حكومة الولايات المتحدة الامريكية باستخدام الشبكة لربط المؤسسات التابعة للجامعات الأمريكية، وبذلك أخذت وتيرة نموها تكبر شيئا فشيئا عن طريق استحداث أول متصفح، وهو موزاييك Mosaic، الذي يرجع له الفضل في تعميم استخدام الشبكة خارج الولايات المتحدة الامريكية.
إضافة إلى الباحث جوفر وآشي ثم نتسكيب سنة 1994.
ولذلك، فقد كان من الطبيعي أن تتحكم الولايات المتحدة الأمريكية بكل الخادمات المستعملة ببقية القارات، وهو ما مكنها من مراقبة كل المعلومات التي تمر عبرها.
ولذلك فالسؤال المطروح الآن هو : إلى أي مدى يعتبر اقتناص الاستخبارات الامريكية لتلك المعلومات قانونيا؟ وإلى أي حد يهدد ذلك الاقتحام الحريات الفردية والحقوق الشخصية؟
يرى أنس التكريتي، خلال برنامج “في العمق” الذي بثته قناة الجزيرة العربية يوم 4/11/2013 : “إن ثمة طريقين تحصل بهما وكالة الأمن القومي الأميركي على المعلومات: واحدة تحت غطاء قانوني، أي من خلال أمر محكمة في حالة اشتباه معينة، والثانية بطريق غير قانوني وهذا يعطي الوكالة حرية مطلقة للوصول إلى ما تريد من معلومات سواء مكتوبة أو اتصالات.”
- صرخة سنودن: “للتجسس أخلاق”:
- من هو سنودن:
“ولد إدوارد جوزيف سنودن Edward Joseph Snowden في 21 يونيو 1983 ، وهو أمريكي عمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومي قبل أن يسرب تفاصيل برنامج التجسس بريسم إلى الصحافة. ففي يونيو 2013 سرب سنودن مواد مصنفة على أنها سرية للغاية من وكالة الأمن القومي، ومنها برنامج بريزم إلى كل من صحيفة الغارديان البريطانية، و صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، وأسبوعية دير شبيغيل الالمانية.
وبعدها (يوم 21 يونيو 2013 ) وجه له القضاء الأمريكي رسميا تهمة التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطني دون إذن والنقل المتعمد لمعلومات مخابرات سرية لشخص غير مسموح له بالاطلاع عليها.
وكان سنودن قد التحق بالجيش الأميركي عام 2003 وخاض برنامجا تدريبيا للالتحاق بالقوات الخاصة، وقال إنه كان ينوي المشاركة في القتال بالعراق، “لأنني شعرت بمسؤوليتي الإنسانية التي حتمت علي مساعدة تحرير الناس من العيش تحت الاضطهاد”. ولكن تم تسريحه من البرنامج عندما كُسرت كلتا رجليه خلال التدريب.
حصل سنودن على أول وظيفة له في مكتب وكالة الأمن القومي، وعمل في البداية حارس أمن لإحدى المنشآت التابعة للوكالة في جامعة ماريلاند، ومن هذه الوظيفة انتقل للعمل في وكالة الاستخبارات المركزية في قسم الأمن الإلكتروني، وبمعرفته الموسعة بالإنترنت وببرمجة الكمبيوتر تمكن من التقدم بسرعة في وظيفته بالنسبة لشخص لم يحصل على شهادة ثانوية.”
منذ يوليوز الماضي، يستفيد سنودن الآن من حق لجوء مؤقت مدته سنة واحدة بروسيا.
وقد حصل مؤخرا على جائزة سام آدامز ، وهي جائزة “لاستقامته في العمل الاستخباراتي”.
. وقد شدد راي ماكغوفرن -المحلل السابق في وكالة المخابرات الأميركية “سي آي أي”- على أن جمعيته “فخورة بتكريم قرار سنودن”
- لماذا انشق سنودن: على خطى أصانج:
حينما انتقل سنودن للعمل مع بعثة دبلوماسية في العاصمة السويسرية جنيف، تولى مسؤولية الحفاظ على أمن شبكة الكمبيوتر، مما أتاح له الوصول إلى مجموعة كبيرة من الوثائق السرية.
فأدرك بأن بلاده قد قامت خلال الفترة الماضية بتتبع اتصالات 35 قائد دولة، من بينها دول حليفة لها، مثل ألمانيا والبرازيل. كما أنها تعقبت اتصالات ملايين الفرنسيين خلال شهر واحد. كما اكتشف مراقبة الولايات المتحدة لمواطنيها، والتنصت على الهواتف الجوالة لعدد من قادة الدول. و من بينها تنصتها على هاتف ميركل لأكثر من عشر سنوات.
وأنها قد استخدمت “وكالة التجسس الإلكترونية” الاسترالية المسماة مديرية إشارات الدفاع، للتجسس على سفارات دول العالم بأستراليا.
ومع الكم الهائل من المعلومات التي وصل إليها، واختلاطه بعملاء وكالة الاستخبارات، بدأ سنودن بالتفكير بعد ثلاثة أعوام بمدى صحة ما يقوم به وما رآه، وفكر في الكشف عن أسرار الحكومة حينها.
لكنه توقف لأمرين، أولهما أنه لم يرد أن يكشف معلومات عن أشخاص ممن كانت الاستخبارات تراقبهم، ولم يرد أن يورطهم بالموضوع، والثاني بأن فوز أوباما بالرئاسة الأميركية عام 2008 منحه الأمل في تحقيق إصلاحات في المستقبل.
وحين “غادر سنودن وكالة الاستخبارات عام 2009، ليعمل مع متعاقد من القطاع الخاص للتعاون مع وكالة الأمن القومي في قاعدة عسكرية باليابان، رأى فيه عدم وجود “تغييرات” في حكومة أوباما، فقرر بأنه “لا فائدة من الانتظار ليقوم الغير بدور القيادة”. وفي مايو/أيار 2013 تقدم سنودن بإجازة من عمله بزعم أنه بحاجة لعلاج من مرض الصرع، فهرب في العشرين من الشهر نفسه، بعدما سرب تفاصيل برامج المراقبة السرية لصحيفتي الغارديان البريطانية وواشنطن بوست الأميركية، ثم سافر بعدها إلى موسكو. أشار إلى أنه بالرغم من أنه كان يعمل براتب جيد يصل إلى مائتي ألف دولار سنوياً، وكان لديه منزله الخاص في جزيرة هاواي الأميركية، غير انه “مستعد للتضحية بكل ما أملك لأن هذا التجسس يشكل تهديداً حقيقياً للديمقراطية التي ننادي بها في بلادنا”.
ويفيد سنودن في حوارات صحفية له مع الصحف التي اختارها لتسريب تلك المستندات،
كما أضاف، خلال تكريمه في موسكو من قبل أربعة عناصر سابقين في الاستخبارات الأميركية: “إذا لم نتمكن من فهم سياسات وبرامج حكوماتنا لا يمكننا أن نوافق عليها”.
يربط العديد من المراقبين بين سنودن و أصانج، بالرغم من اختلاف موقع كل منهما، لكنهما يلتقيان عند نفس الدوافع: فأصانج يعتبر “المعلومة من حق الجميع”، وخاصة منها ما يتعلق بمصائر الشعوب، في حين يرى كان دافع سنودن هو تخوفه من تغول أجهزة الاستعلامات على حساب حقوق الأفراد والقيم الاخلاقية التي يدين بها المحتمع الامريكي.
- تداعيات “سنودن غيت”:
دفعة واحدة، أحدثت “سنودن غيت” آثارا مختلفة وتداعيات متفاعلة، وذلك على أربع مستويات:
- المستوى الدبلوماسي: أزمة الثقة بين الحلفاء:
مباشرة حينما تم كشف المستندات، واكتشاف إندونيسيا لأجهزة الاستخبارات الأميركية بسفارتها باسترالية ، قامت إندونيسيا باستدعاء السفير الأسترالي، مستفسرة عن موضوع اعتراض رسائل إلكترونية لها.
كما أن الرئيس باراك أوباما أبلغ كان قد أبلغ ميركل بأنه كان سيمنع التنصت لو كان علم به.
في حين أشارت بساكي، الناطقة باسم الخارجية الامريكية، بان جميع دول العالم تقوم بجمع المعلومات، معتبرة أن لدى المجتمع الاستخباري الأميركي “قيودا أكثر من أي بلد آخر”. وأكدت أن عملية جمع المعلومات ستستمر “من أجل حماية مواطنينا”.
كما كشفت صحيفة لوموند الفرنسية أن باريس تشتبه في وقوف أجهزة الاستخبارات الأميركية وراء الهجوم الإلكتروني الذي استهدف الرئاسة الفرنسية في مايو/أيار 2012.
- المستوى التشريعي: بين محاولات ملء الثغرات ومقاومة التضييق:
أفاد دبلوماسيون في الأمم المتحدة بأن ألمانيا والبرازيل تعدان مشروع قرار بالجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بوضع حد لعمليات التجسس المكثفة وانتهاك الحياة الشخصية.
وقد قال متحدث باسم الحكومة الألمانية إن المستشارة الألمانية قد طرحت اقتراحا على الزعماء الأوروبيين الذين تجمعوا لحضور اجتماع قمة في بروكسل، وقال “جميعنا متفقون على النص.. جميع الدول الـ28”. غير ان بريطانيا، -الحليف التقليدي للولايات المتحدة- قد امتنعت عن الموافقة، وهي التي تتهمها بالتجسس، دول أوربية ولا سيما إيطاليا.
أما الولايات المتحدة الأميركية أعلنت أنها بصدد “مراجعة” أنشطة المراقبة والتجسس التي تقوم بها وكالات الاستخبارات القومية، وفيما أقرت لجنة بالكونغرس مشروع قانون لإصلاح القوانين المنظمة لأنشطة الرقابة، وينص مشروع القانون الذي أقرته اللجنة بأغلبية 11 صوتا واعترض عليه أربعة، على استحداث منصب يمثل المصالح المناهضة للحكومة في “محكمة مراقبة وكالات الاستخبارات الخارجية”، وهي محكمة خاصة تعنى بإجازة استخدام برامج المراقبة الاستخبارية. المشروع -الذي تقدمت به السيناتورة الديمقراطية دايان فاينشتاين
إلا أن المشرّعين في الولايات المتحدة يميلون إلى ترجيح كفة التجسس وجمع المعلومات على حساب حماية الخصوصية والحرية الشخصية. حيث صوّت مجلس النواب الأميركي هذا الأسبوع لصالح استمرار برنامج آخر للوكالة يعنى بالتجسس على معلومات الاتصالات الهاتفية في الولايات المتحدة، رافضا بذلك مقترحا تقدم به النائب جستين أماش لتقييد سلطة وكالة الأمن القومي. تماما كما رفض مقترح النائب أماش، والذي أيده 205 نواب مقابل 217 معارضا، وهو المتعلق بنزع صلاحيات وكالة الأمن القومي في جمع المعلومات عن جميع المكالمات الهاتفية لجميع سكان الولايات المتحدة الأميركية.
- المستوى الشعبي:
من خلال استطلاع للرأي أجرته شبكة “سي بي إس” CBS للأنباء، أشار إلى أن 67% من المستطلعين يعارضون قيام الحكومة الامريكية بجمع وتحليل معلومات اتصالاتهم الهاتفية.
بينما طالب متظاهرون، و الذين قدر عددهم -حسب المنظمين- بـ4500، بإقرار قانون لإصلاح برامج المراقبة المكلفة بها وكالة الأمن القومي.
وقد حمل هؤلاء المتظاهرين لافتات كتب عليها “أوقفوا التجسس” و”شكرا يا سنودن”، و”كفوا عن مراقبتنا”، كما قاموا بتقديم عريضة للكونغرس وقعها أكثر من 575 ألف شخص عبر الإنترنت، تطالب البرلمانيين بـ”كشف النطاق الكامل لبرامج التجسس لوكالة الأمن القومي”. وجرت هذه المسيرة في ذكرى مرور 12 عاما على إقرار قانون “باتريوت آكت” الذي تم التصويت عليه في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، الذي منح وكالات الاستخبارات صلاحيات موسعة لمكافحة ما يسمى الإرهاب وحماية الأمن القومي.
- المستوى التكنولوجي التسويقي:
من جانبها نفت “غوغل” و”ياهو” أي علاقة لهما بوكالة الأمن القومي، وانضمتا إلى كل من “أبل” و”مايكروسوفت” و”فيسبوك” و”أيه أو أل” في توجيه رسالة مشتركة إلى الكونغرس الأميركي تطالبه فيها بمراقبة أفضل لأنشطة وكالات الاستخبارات، ولا سيما لجهة حماية الحياة الخاصة. كاستخدام أدوات تشفير الاتصالات وأدوات الشبكات الخاصة الافتراضية.
كما شرعت شركة غوغل الأميركية اختبار تقنية جديدة تتيح لها تشفير ملفات المستخدمين المُخزنة على خدمة التخزين السحابي الخاصة بها “غوغل درايف”، كوسيلة منها لإحباط أي محاولة حكومية للتجسس على بيانات المستخدمين.
وقد نقل موقع “سي نت” المعني بأخبار التقنية عن مصدرين مختلفين لم يسمهما، أن غوغل تنشط حاليا في اختبار التشفير لحماية الملفات على خدمتها للتخزين والمزامنة السحابية، وأكد أحد المصدرين أن نسبة صغيرة من ملفات غوغل درايف قد تم تشفيرها بالفعل.
وتقوم شركات الويب عادةً بتشفير اتصال المستخدمين عبر بروتوكول “HTTPS”
لحماية سرية اتصال المستخدم، لكن هذه الطبقة من الحماية تحمي ضد تنصت المخترقين على اتصال المستخدم أثناء نقل الملفات، في حين يتم تخزين الملفات بشكل غير مشفر.
وفي الوقت الذي نشرت فيه صحيفة الغادريان البريطانية وثائق تكشف أن شركة مايكروسوفت الأميركية ساعدت وكالة الأمن القومي في مراقبة اتصالات مستخدمي سكايب رغم أن الخدمة بحد ذاتها مشفرة، فقد سارعت الشركة المعنية بتقديم طلب للمدعي العام الأميركي بأن يُسمح لها بالإفصاح عن حجم الطلبات الحكومية التي تلقتها للكشف عن بيانات المستخدمين وكيفية تعاملها مع تلك الطلبات.
واما شركة ياهو فقد كسبت مؤخرا قضية أمام المحكمة تتيح لها إثبات أنها قاومت مطالب وكالة الأمن القومي لكشف بيانات عملائها، في حين تكافح شركات تقنية كبرى أخرى لإثبات عدم تعاونها في برنامج التجسس الأميركي وأنها وقفت مع صالح حماية خصوصية المستخدمين.
- خاتمة: آفاق الخروج من الازمة:
في الوقت الذي ينشغل به المهتمون بمحاولة تجاوز آثار الرصد والمتابعة للمعلومة عبر الانترنت، هناك مبادرات متفرقة عبر العالم، تعمل منذ فترة طويلة، على محاولة الخروج من الإطار التقني المعمول به الآن، وذلك بابتكار انظمة تواصلية بديلة.
فهل يمكن أن يشكل هذا النوع من المبادرات، حلا جذريا لمثل ازمة سنودن غيت ؟