بقلم: غراهام أليسون ونيال فيرغسون – أكتوبر 2016
ترجمة: ماهر الملاخ وإلياس الملاخ
1
التاريخ التطبيقي هو محاولة صريحة لإلقاء الضوء على التحديات والخيارات الحالية، من خلال تحليل السوابق التاريخية ونظائرها.
وإذا كان أكثر المؤرخين من التيار السائد ينطلقون من حدث سابق أو عصر قد مضى، و يحاولون تقديم حصيلة ما حدث، ولماذا حدث؟، فإن المؤرخين التطبيقيين ينطلقون من خيار آني أو مأزق قائم، ويحاولون تحليل السجل التاريخي، لاستبصار المنظور، وإثارة الخيال، واكتشاف قرائن حول ما يمكن أن يحدث، واقتراح التدخلات الناجعة، وتقييم النتائج المحتملة.
ويمكن القول بأن التاريخ التطبيقي بالنسبة للتاريخ العام، يشبه إلى حد ما، الممارسة الطبية بالنسبة للكيمياء الحيوية، والهندسة بالنسبة للفيزياء. غير أن هذه المقارنة ليست دقيقة: إذ نجد في مجال العلوم احتراما متبادلا بين الممارسين والمنظرين. وفي المقابل، لا نجد في عالم السياسة سوى ثقافة الازدراء والاحتقار المتبادل بين الممارسين والمؤرخين. ولذلك فإن التاريخ التطبيقي هو محاولة لمعالجة ذلك.
إن “مشروع التاريخ التطبيقي” في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، يسعى لإعادة إحياء دراسة وممارسة التاريخ، بالاستفادة من تراث اثنين من عمالقة القرن العشرين وهما المؤرخ المعاصر إرنست ماي Ernest R. May، والمحلل الرائد للرئاسة الأمريكية ريتشارد نوتسادت ٌRichard E. Neustadt. فكتابهما “التفكير في الوقت المناسب” Thinking in time”” الذي نشر عام 1986، يعتبر الأساس الذي يمكن البناء والتأسيس عليه.
وتبعا لذلك، يمكن القول إن هناك حاجة ملحة لإنجاز كتاب آخر، يكون تحت عنوان: ” التصرف في الوقت المناسب” Acting in time.
2
خلال العقد الماضي، عندما كان أحد أعضاء فريقنا منكبا على البحث في سيرة هنري كيسنجر Henry Kissinger ، توصلنا إلى فكرة جيدة مفادها أن معظم الأميركيين يعيشون في “الولايات المتحدة الفاقدة للذاكرة”. غير أن ما لم نستشعره آنذاك، هو أن صانعي السياسة الأمريكية كانوا يعانون من نفس المعضلة.
فبالتأمل في مسار الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أصبحنا ندرك التأثير البالغ الأهمية للجهل بالتاريخ على صناعة السياسة الخارجية الأمريكية. ومحصلة ذلك، أن صناع القرار ليسوا جاهلين فحسب بتاريخ البدان الأخرى، وإنما يجهلون أيضا حتى تاريخ بلادهم.
وفي حديثه عن كتابه “محكوم عليه بالنجاح: العلاقة الأمريكية الإسرائيلية من ترومان إلى أوباما” Doomed to Succeed: The US-Israel Relationship from Truman to Obama أشار الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، دينيس روس Dennis Ross إلى أن “أغلب الشخصيات البارزة في الإدارة لا يعرفون تاريخ ما قمنا به في الشرق الأوسط.” كما أنهم لا يعرفون تاريخ المنطقة.
ففي سنة 2003، عندما قرر الرئيس جورج بوش الإطاحة بصدام حسين، واستبدال نظامه بحكومة منتخبة تمثل أغلبية العراقيين، لم يبدُ أنه كان يقدر الفرق بين المسلمين السنة والشيعة، ولا يعرف معنى أن يقود صدام حسين نظاما بأقلية سنية تقمع أغلبية شيعية.
لقد فشل بوش في الاستجابة للتحذيرات التي وجهت له، والتي كان مفادها أن هناك عواقب متوقعة لهذا الاختيار، حيث ستكون هناك هيمنة لأغلبية شيعية في بغداد، بفضل إيران، بطلة الشيعة في الشرق الأوسط .
وفي محاولة لشرح عواقب هذا الخيار المصيري، ذكرت تقارير أن أحد القادة في المنطقة قال للرئيس بوش، بأنه إذا قطع أطول شجرة في المنطقة (ويقصد بها صدام حسين)، فيجب ألا يتفاجأ إذا ما وجد ثاني أطول شجرة تعلو فوق الآخرين.
إن المشكل هنا لا يقتصر على منطقة الشرق الأوسط، أو حتى على جورج بوش، إنما يتعدى ذلك إلى جهات أخرى: في إدارة الرئيس أوباما، لم تكن قادرة أو راغبة في التعرف على العلاقة التاريخية العميقة بين روسيا وأوكرانيا، مما جعلها غير قادرة على إدراك العواقب التي تنبأت بها مبادرات الاتحاد الأوروبي، أواخر عام 2013 وأوائل عام 2014، التي كان من المفروض أن تقود أوكرانيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي، والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في وقت لاحق.
“في الحقيقة أنا لست في حاجة إلى جورج كينان George Kennan في الوقت الراهن”، ذلك ما قاله أوباما لرئيس تحرير مجلة نيويوركر New Yorker، في مقابلة نشرت في يناير كانون الثاني سنة 2014، مشيرا إلى أحد أكبر المؤرخين التطبيقيين في بداية الحرب الباردة. فكانت النتيجة أن روسيا قد ضمت شبه جزيرة القرم في غضون شهرين.
والجدير بالملاحظة، هو هذا الجهل الواضح للمرشح الجمهوري للرئاسة ( دونالد ترامب)، بالأهمية التاريخية لشعار سياسة بلاده الخارجية “أمريكا أولا”.
في حين أن هذا الجهل بالتاريخ هو فقط أحد نقاط الضعف في السياسة الخارجية للإدارات الأخيرة من كلا الحزبين، بالرغم من أنه هو أكثر قابلية للإصلاح من غيره. ومع ذلك، فإنه لمعالجة هذا الجهل لا يكفي أن يدعو الرئيس المؤرخين وديا لتناول العشاء من حين لآخر، كما كان معروفا عن أوباما. كما أنه ليس كافيا تعيين مؤرخ محكمة، كما فعل جون كينيدي مع آرثر م. شليزنجر الابن Arthur M. Schlesinger Sr
إننا نحث المرشحين الحاليين للرئاسة أن يعلنوا أنه في حال إذا ما تم انتخابهم، فسوف يقومون بإنشاء “مجلس للمستشارين التاريخيين في البيت الأبيض” مماثل لــ “مجلس المستشارين الاقتصاديين” الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد قدم العديد من المؤرخين البارزين توصيات مماثلة إلى الرئيس كارتر وريغان خلال إداراتها: لكن السجل المتقلب للسياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ عام 1977، يشير إلى أنه بعدم قيامهما بذلك أضاع كل من كارتر وريغان فرصة عظيمة.
3
إننا نقترح أن يبدأ ميثاق المجلس بملاحظة ثيوسيديدس Thucydides ، والتي مفادها أن:”أحداث التاريخ المستقبلية ستكون، أو تقريبا ستكون، من نفس طبيعة التاريخ الماضي، مادام الرجال رجالا.”
ومع أن المؤرخين التطبيقيين لن يكونوا مستبصرين عبر كرة كريستالية صافية ، فإننا نتفق مع ونستون تشرشل Winston Churchill الذي كان يقول: “كلما نظرت أبعد نحو الخلف، كلما تمكنت من النظر أبعد إلى الأمام.” ستكون مهمة الرئيس المقبل لهذا المجلس هي تقديم وجهة نظر تاريخية للمشاكل المعاصرة.
لنتخيل لو كان للرئيس أوباما اليوم، مجلس كهذا، فما هي المهام التي كان بالإمكان أن يكلفهم بها؟ وكيف يمكن لردودهم أن تقدم إجابات تساعد على تحديد الخيارات التي يواجهها حاليا؟
لنبدأ مثلا، بالقضية الأكثر استعصاء، والتي كان الرئيس وفريقه، من الأمن القومي، يناقشونها مؤخرا: ما الذي يجب فعله حيال تنظيم الدولة الإسلامية؟
إن بإمكانه أن يسأل مؤرخيه التطبيقين، إذا ما كان قد مر عليهم شيء مثل هذا من قبل؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأي السوابق تبدو أكثر تشابها مع تلك الظاهرة؟
وبإمكانه أن يسأل أيضا، عما حصل في تلك الحالات، و بالتالي، ما هي القرائن التي بمقدورهم أن يقدموها حول ما يمكن أن يحدث في هذه الحالة.
نستشف من خلال التصريحات التي صدرت مؤخرا عن الإدارة الأمريكية، والتي تشير إلى أنها تميل للنظر أساسا إلى تنظيم الدولة كنسخة جديدة من تنظيم القاعدة، وبذلك يكون الهدف السياسي هو قطع رأسها، كما تم قطع رأس تنظيم القاعدة، باغتيال أسامة بن لادن عام 2011. غير أن هناك سببا وجيها يجعلنا نعتقد بأن تنظيم الدولة مختلفة تماما، من حيث الهيكلة، عن تنظيم القاعدة، وربما قد تكون عبارة عن شبكة كلاسيكية بدون زعيم.
إن بحثنا الأولي في هذا الصدد، يشمل خمسين حالة متشابهة من الجماعات المتوحشة والمتعصبة، والتي يحركها هدف محدد، ومن ضمن تلك الحالات نجد البلاشفة في الثورة الروسية.
إن الحسم في أهم الخصائص الجوهرية لتنظيم الدولة – مثل سياستها الثورية أو توجهها الديني الألفي الجديد- سيساعدنا على حصر تلك القائمة في حدود نظائرها الأكثر تشابها.
إن الدراسة المنهجية لتلك القضايا الأخرى، يمكن أن تساعد في توجيه الرئيس بعيدا عن معادلة يحتمل أن تكون خاطئة تجاه تنظيم الدولة .
4
فهذا النوع من المقاربات، والذي يمكن أن يكون ذا قيمة كبيرة، يبدو واضحا من خلال استجابة الحكومة الأمريكية أثناء فترة الركود الاقتصادي الكبير سنة 2008. لقد شهد شهر سبتمبر، حينها، أكبر صدمة للاقتصاد في الولايات المتحدة منذ الكساد الاقتصادي الكبير. فخلال 24 ساعة، انخفض مؤشر داو جونز الصناعي، وتم تجميد مقايضة الائتمان بين البنوك الكبرى، فانتشرت الصدمة فورا إلى معظم الأسواق الدولية.
كان وزير الخزانة السابق هانك بولسون Hank Paulson قد صرح بأن “تلك الأزمة قد شملت كل المنظومة، التي كانت شديدةوغير متوقعة أكثر من أي أزمة مضت في حياتنا.” ولهذا السبب، فإن المعرفة التاريخية بالأزمات المالية السابقة – خاصة فيما يتعلق بالكساد العظيم الذي بدأ عام 1929 – كانت مكلفة جدا. وقد كان من محض الصدفة، أن رئيس الاحتياطي الفدرالي (2014-2006) كان طالبا جادا في التاريخ الاقتصادي. فقد كتب بن برنانكي Ben Bernanke في مذكرته سنة 2015 : “إن فهم ما كان يحدث في سياقه التاريخي، قد أثبت أنه أمر لا يقدر بثمن” لأن ” أفضل فهم لأزمة 2009-2007 كان بإدراك أنها من سلالة “الفزعات المالية الكلاسيكية” التي حدثت خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.” فعلا، لقد لازم برنانكي Bernanke شبح الكساد العظيم سنة 1929. مع أن الكثرين قد انتقدوا “هوسه” بفترة ما بعد كساد 1929، غير أنه لا يمكن أن يكون هناك أي شك، حول مدى التزامه بتفادي الأخطاء التي ساهمت في تلك الكارثة.
, في خطاب ألقاه برنانكي Bernanke سنة 2010، عرّف من خلاله مجموعة من الدروس المستفادة من الكساد العظيم لصانعي السياسة اليوم، ومن ضمن ما قاله: ” أولا: إن الازدهار الاقتصادي يعتمد على الاستقرار المالي. وثانيا: إنه يجب على صانعي السياسات أن يستجيبوا بقوة، وبشكل إبداعي وحاسم للأزمات المالية الحادة. أما ثالثا، فإن الأزمات ذات البعد الدولي تتطلب إجابات دولية “.
إن برنانكي Bernanke كان هو نفسه قد تصرف بشكل حاسم، فابتكر مجموعة من المبادرات غير المسبوقة، والتي تكون ربما قد تجاوزت الصلاحيات القانونية للاحتياطي الفيدرالي: مثل شراء السندات، والتي لم تقتصر على ما تصدره الحكومة الاتحادية فحسب، ولكن أيضاتلك المدعومة من قبل الرهن العقاري والائتمانات المالية الأخرى، فيما كان يسمى ب”التيسير الكمي”.
إن سرعة مبادرات البنك الاحتياطي الفيدرالي الدولي لمساندة البنوك المركزية الأخرى، وإقناعهم بالتعاون من أجل خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل، من أجل تعزيز الاستقرار ، يمكن أيضا أن ترجع إلى طبيعة معرفة برنانكي Bernanke بخصوص الأخطاء التي ارتكبت في فترة الكساد الكبير. وعلى الرغم من أن الأزمة الأخيرة قد وقعت في سياق مالي واقتصادي مختلف جذريا، فقد كتب برنانكي Bernanke في ختام مذكراته: “إن تلك الأزمة كانت تابعة لنفس جنس الفزعات الماضية.”
ففي الوقت الذي كانت فيه العاصفة المالية آخذة في الاحتشاد، كان زميلانا كارمن راينهارت Carmen Reinhart وكين روجوف Ken Rogoff يعملان على إتمام عقد من البحث، الذي جمعوا خلاله قاعدة من البيانات تتكون من 350 أزمة اقتصادية مالية على مدى القرون الثمانية الماضية.
فقد حللا بوضوح، في كتابهما “الأمر مختلف هذه المرة: ثمانية قرون من الحماقة المالية” This time is Different: Eight Centuries of Financial Folly السوابق ونظائرها من أجل إلقاء الضوء على الأحداث الجارية حاليا. فقد استدلا ، أثناء شهادتهما أمام الكونغرس وفي سلسلة من مقالات الرأي في أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009، بأن الركود الناجم عن الأزمات المالية يميل إلى البقاء لفترة أطول بكثير من فترات ركود دورة الأعمال التجارية.
وقد أعلنا بأن “الأزمة الحالية قد تعني توقف النمو الأمريكي بما لا يقل عن خمس إلى سبع سنوات قادمة”، وأنها قد تترك وراءها تركة أعلى بكثير من الدين العام. وعلى الرغم من التنازع الشديد في ذلك الوقت، من قبل أولئك الذين زعموا أن الحافر النقدي والمالي من شأنه أن يحقق انتعاشا سريعا، على شكل حرف” V”، فقد ثبت أن رؤاهم وتصوراتهم المستمدة من التاريخ كانت استشرافية .
وفي الوقت الذي كانت فيه الاقتصاديات الغربية راكدة، فإن الانتعاش على شكل حرف V كان يحدث في بلاد الصين، فقد واصلت الصين نموها السريع ، وأدركت، على نحو متزايد، قدرتها على جني الفوائد الجيوسياسية من القوة المالية المكتشفة حديثا.
فهل ستؤدي نهضة الصين إلى قيام حرب ضد الولايات المتحدة؟
5
لقد عرض إرنست ماي Ernest May، سنة 2009، في فصل من كتابه حول “السلطة وضبط النفس” Power and restreint، شهادة جديرة بالاهتمام ، عن كيفية تحليل النظائر والسوابق التي يمكن أن توفر لنا أدلة وقرائن حول “الأنماط البديلة التي قد تستخدم في علاقات الولايات المتحدة والصين”. وللقيام بذلك، اعتبر “تجربة مطلع القرن وعشرينياته، تجربة قد تكون مفيدة في اقتراح بعض العمليات التي تسبب العداء أو الصداقة بخصوص الحدود الوطنية”، وقد قارن ثم استنتج على وجه التحديد، تلك التناقضات والتفاعلات التي كانت قائمة بين بريطانيا واثنين من القوى الصاعدة حينذاك، وهما: ألمانيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى. فلاحظ أن بريطانيا وألمانيا ظلتا في سلام لأنهما “كانتا مشابهتين، بشكل أساسي، على مستوى الثقافة والقيم والمؤسسات”. “فلماذا إذن”، أصبحتا عدوتين بعد العقدين المواليين؟” ، و”لماذا لم تردّ بريطانيا على تحدي أمريكا لها كما فعلت مع ألمانيا؟ “
وكما هي تحليلات ماي May دائما، فتحليله هنا أيضا كان ذكيا ودقيقا:
فبخصوص الحالة الأولى: خلص الى أن “معظم اللوم يجب أن يوجه إلى ألمانيا وحاكمها المتصلب: القيصر ويليام الثاني William II.” وبذلك أشار إلى أن ” السلوك التدميري الذاتي الألماني، كان سببه بالأساس كون القيصر ووزراءه كانوا منشغلين بشؤونهم السياسية الداخلية “.” فوجد ويليام William ووزراؤه بأنه من المفيد، أو بالأحرى من الضروري، أن تكون لديهم مشاكل وصعوبات خارجية، من أجل الحفاظ على الهدوء في الداخل”.
وبالتأمل في النتائج، كان (ماي)، حينها، يلفت الانتباه إلى الدرس القاسي الذي يمكن أن يأتي من جهة الصين:” فمثال الإمبراطورية الألمانية يمثل تحذيرا واضحا، لمدى الخطورة التي يمكن أن تكون عليها قوة صاعدة، تستخدم السياسة الخارجية كوسيلة لإرضاء احتياجات السياسية الداخلية “.
وفي المقابل، ومن خلال إيجاد الطرق لاستيعاب تصعيد الولايات المتحدة الأمريكية، أظهرت بريطانيا “كيف يمكن لدولة عظيمة أن تستفيد من التحكم في كبريائها، والاسترشاد بحسابات المصالح طويلة الأمد، على الصعيدين الخارجي والداخلي.” وبخصوص تشكيل السياسة الخارجية البريطانية “فإن مجموعة من صناع القرار البريطانيين، قد قاموا ، بكل برودة، بحساب تكلفة مقاومة الذرائع الأميركية وتكلفتها المرتفعة للغاية.” لذلك أشاد ماي بالاختيار الحكيم للحكومة البريطانية ” التي جعلت ما كان يمكن أن تقوم به بحكم الضرورة والاستسلام للأميركيين في إطار التنازع، تفعله وكأنه تفضُّل في إطار التسامح “. وعندما جاءت الحكومة الليبرالية إلى السلطة عام 1906، توجت السياسة البريطانية ذلك بإعلان وزير الخارجية الجديد أن” السعي وصيانة الصداقة الأمريكية كان وسيكون “السياسة الرئيسية” للمملكة المتحدة “.
وكان أحدنا (من فريق البحث) قد تساءل، ما إذا كان نظير هذه العلاقة الحرجة بين الولايات المتحدة والصين، قد وُجدت في السابق، بنفس التوترات التي كانت قائمة بين أثينا وإسبرطة. حيث شرح المؤرخ اليوناني الأثيني ثيوسديدس Thucydides ببراعة في حصيلته عن تاريخ الحرب البلوبونيزية History of the Peloponnesian War، أن ما جعل الحرب لا مفر منها، كان هو نمو قوة الأثينيين من جهة، وما ولدته من خوف لدى الإسبارطيين من جهة ثانية.
إن “فخ ثيوسديدس” ، والمتعلق بالتوتر البنيوي المحتوم – الذي يحدث عندما تهدد قوة صاعدة بإزاحة قوة حاكمة – يعتبر كأحسن إطار متاح للتفكير في العلاقات الأمريكية الصينية في وقتنا الحاضر، وخلال السنوات القادمة.
ولقد قاد أحدنا فريقا من الباحثين في مركز بلفير Belfer Center التابع لكلية هارفرد كنيدي، حيث قام بمراجعة لأبرز النتائج التاريخية خلال خمسة قرون الماضية، وحدد خلالها 16 حالة مماثلة: حيث كانت نتيجة 12 حالة منها الحرب.
تمثل الدراسة جوابا محتملا، بإمكان مجلس المستشارين التاريخيين أن يقدموه للرئيس، إذا ما سأل: هل هناك سوابق للعلاقة الحالية بين الولايات المتحدة والصين، أم لا.
ومن الجدير بالتذكير هنا، مثل ما كان أرنست ماي Ernest R. May يذكر به مرارا وتكرارا لطلابه ولصناع القرار على حد سواء، أنه يسهل توظيف المقارنات التاريخية بشكل خاطئ. فعقب أحداث 11 سبتمبر، كانت التناظرات غير المحترفة شائعة بشكل واسع، بدءا بمقارنة الرئيس آنذاك ببول هاربرل ووصولا إلى أسوأ التشابهات المرسومة التي طرحها بعض أعضاء إدارته، بخصوص تشبيه صدام حسين بقادة المحور في الحرب العالمية الثانية.
وللوقاية من هذه الأخطاء، نصح ماي May إلى بأنه عندما نفكر في مقارنة تاريخية ما، فإنه ينبغي علينا أن يتبع إجراءا بسيطا، وهو: وضع النظير في أعلى الورقة، ثم رسم خط مستقيم وسط الصفحة إلى أسفلها. وبعد ذلك كتابة “مشابه” في خانة أولى، و”مختلف” في الخانة الثانية. ثم يمكن حينها البدء بالعمل. فإذا كنت غير قادر على ذكر ثلاثة نقاط تشابه وثلاث نقاط اختلاف، فإنه يتوجب عليك استشارة مؤرخ.
وفي الوقت الذي ساد فيه اضطراب كبير من أجل إيجاد نظائر في الذكرى السنوية المائة على اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان بعضنا يحاول تطبيق طريقة ماي May لمقارنة التحديات التي يواجهها القادة الأمريكيون والصينيون اليوم، مع ما كان يواجهه القادة الأوروبيون سنة 1914. وقد سلط هذا التحليل الضوء على سبع تشابهات واضحة، كما ركز على سبع اختلافات مثيرة للاهتمام، كما خلصت إلى أن “احتمال نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين في العقد القادم، هي أعلى مما تصورت قبل البدء بمعالجة تلك الحالة، غير أنها مع ذلك لا تزال غير محتملة. وبالفعل، إن رجال الدولة من كلا الطرفين، إذا ما تأملوا فيما حدث قبل قرن من الزمن، فإن وجهات النظر، وتصورات ذلك الماضي، ستعمل على التقليل من مخاطر حدوث الحرب بينهما.”
وكما قال هنري كيسنجر Henry Kissinger ، والذي يعتبر أحدث ممارس للتاريخ التطبيقي، وأكثرهم انسجاما وتماسكا: ” إن التاريخ ليس كتاب طبخ يحتوي على وصفات مجربة، بل إنه يعمل بالقياس، وليس بالقواعد” فالتاريخ ” يبين نتائج التصرفات في حالات مشابهة.”
وللقيام بذلك، فعلينا أن نتحلى بقدر من الحس الفني، الذي يتطلب الخيال والحكم، وعلى كل جيل أن يكتشف بنفسه ما هي الحالات المشابهة الواقعة” و”هل هي مسبوقة أم لا”.
6
إن التساؤل حول ” تلك الأحداث هل هي مسبوقة أم لا” هو مجرد سؤال واحد من ضمن العديد من الأسئلة والمهام، التي نقترح أن يطرحها الرئيس على مجلس المستشارين التاريخيين. وتشمل مايلي:
• ما هي الدروس المستفادة من كفاءات الرؤساء السابقين في الحكم أثناء إدارتهم للأزمات السابقة، والتي يمكن تطبيقها على التحدي الحالي؟ ( أو ماذا كان يجب على الرئيس الفلاني فعله؟)
• ما هي أهمية ذكرى تاريخية معينة بالنسبة للحاضر ( وهذا موضوع مشترك بين الخطابات الرئاسية)؟
• ما هو التاريخ المرتبط بالدولة أو المؤسسة أو القضية المطروحة؟
• ما هي الاجراءات التي كان ينبغي أن تتخذ؟ (وهذا النوع من الأسئلة نادرا ما يتم طرحه بعد فشل سياسة ما)
•ومن ضمن الأسئلة الاستراتيجية الكبرى هناك مثلا: “هل تستطيع الولايات المتحدة تجنب الانحدار؟”
7
وكذلك الأسئلة التكهنية المتعلقة بالسيناريوهات المستقبلية غير المتوقعة.
إن معظم الرؤساء لديهم سلف ما مفضل: فحين أراد أوباما Obama أن يضع استراتيجيته لمواجهة التحدي النووي الإيراني، فقد تصور ما كان سيفعله جون كيندي حينها، و تعرف هذه الطريقة اختصارا ب :(WWKD)؟ فاختار “الصفقة السيئة” لوقف تقدم البرنامج النووي الايراني، بدلا من تفجير محطات تخصيب اليورانيوم (كما أعرب عن رغبته فيها رئيس الوزرا ء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو) أو السكوت عن إيران باعتبارها أمرا واقعا (كما كان يعتقد بعض مستشاريه أنه أمر لا مفر منه). فكان في ذلك كله بعضا من أوجه التشابه مع الخيارات التي كانت مطروحة أمام كنيدي Kennedy حين واجه أزمة الصواريخ الكوبية، حيث عمل على التوصل إلى اتفاق مع نيكيتا خروشوف بدلا من المخاطرة بغزو كوبا، أو القبول بوجود صواريخ سوفيتية قبالة سواحل فلوريدا.
هناك نقطتان رئيسيتان وهما أن الصفقة الناجحة التي تمت عام 1962 ، كانت مبنية على مفاوضات سرية مع موسكو، بالرغم من أنها قد هزت بعض حلفاء الأمريكان، ثم إنها قد شكلت حلا وسطا بين الاستسلام الكامل وبين الحرب النووية.
8
وهناك نوع ثالث من المهام التي يمكن للرئيس أن يوكلها إلى المؤرخين، وتكون باتخاذ ذكرى حدث تاريخي كبير كمناسبة لاستشراف التحديات الراهنة. وقد وفرت الذكرى المئوية الجارية من الحرب العالمية الأولى للقادة فرصة هامة للحديث عن أهميتها. وعلى الرغم من أن قيام حرب أوروبية شاملة الآن، تبدو للعديد من المعاصرين أمرا مستبعدا، إلا أنه باستحضار ما كانت عليه أوروبا حينها، من أن اقتصاديات بريطانيا وألمانيا كانت مترابطة فيما بينها بشكل كبير، إلا أن الحرب اندلعت بينهما ، وثبت أنه من المستحيل إنهاؤها بالوسائل الدبلوماسية. وعندما انتهت الحرب، بعد أربع سنوات، بتفكك القوى المركزية، فقد أكثر من عشرة ملايين من الرجال حياتهم قبل الأوان، وكانت أوروبا قد ضعفت بشكل كبير.
في العقد الذي سبق هذه الحرب، كانت الحكومات الكبرى قد قدمت سلسلة من الالتزامات لبعضها البعض، والتي خلقت ما أطلق عليه كيسنجر : “آلة يوم القيامة الدبلوماسية.” وبما أن المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين قد اشتدت على جنوب وشرق بحر الصين، فإن المؤرخين التطبيقيين يمكن أن يقوموا بمراجعات جادة بخصوص التزامات الولايات المتحدة تجاه اليابان، والفلبين، وغيرها من الدول، تلك الإفادات التي يمكن أن تكون، في يوم ما، مماثلة للوقت الراهن.
9
وسيكون هناك نوع رابع من المهام المنوطة بمؤرخي الرئيس، وهو تحديد التاريخ المتعلق بالدولة أو المؤسسة أو القضية المطروحة، وكيف ينظر نظرائه من الرؤساء الآخرين إلى ذلك التاريخ.
فأثناء التعامل مع الدول الأجنبية، ينبغي علينا ألا ننسى أبدا ملاحظة هنري كيسنجر Henry Kissinger التي مفادها أن “التاريخ هو ذاكرة الدول، كما هي الشخصية بالنسبة للبشر” . فتعلم تاريخ الأمم الأخرى، وصقل مهارات البحث التاريخي بشكل عام، يمكن أن يساعد على تعزيز التعاطف الثقافي. وكما قال مايكل هوارد Michael Howard، منذ خمس وثلاثين سنة: على كل تعليم تاريخي سليم أن يعلم طلابه “كيفية الخروج من عباءة ثقافتهم الخاصة، والدخول في عقول الآخرين. ليس فقط بعقول أسلافنا، بالرغم من أنها قيمة، ولكن بعقول معاصرينا الذين ورثوا تجربة مختلفة عن الماضي. “ولكن لسوء الحظ، فإن العديد من نخبنا يمكن أن يكونوا، كما قال السير مايكل Michael :”أذكياء بارعين، وأصحاب تكوين جيد في القانون أو الاقتصاد أو ربما حتى في العلوم السياسية، ولكنهم قادوا حكوماتهم نحو قرارات كارثية وغير محسوبة العواقب، لأنهم لم تكن لديهم أدنى خلفية تاريخية أو ثقافية عن المجتمعات الأجنبية التي كان عليهم أن يتعاملوا معها. “إننا لا نستطيع أن نفهم قرارات الفاعلين الأساسيين في الدول الأجنبية، دون أن نستوعب كيف فهموا، هم أنفسهم، تاريخ أمتهم، لأنه، كما قال السير مايكل Michael ” كل ما نعتقده عن الحاضر، يعتمد على ما نعتقده عن الماضي “.
لذلك، وفي خضم الإعداد لإشراك قادة الصين، ماذا يمكن للرئيس القادم أن يسأل عنه مجلسه ؟ حيث يمكننا أن نبدأ بداية مواتية وناجعة على الشكل التالي: كيف يفهم شي جينبينغ Xi Jinping قوس التاريخ الصيني ودوره في مستقبل الصين؟ هل يرى مهمته ببساطة في إتمامها لتنميتها الاقتصادية واستعادتها لدورها “العادي” تاريخيا كأكبر دولة في العالم بعد “قرن من الإذلال؟” إذا كان الأمر كذلك، فيمكن أن نتوقع بروز الصين أكثر ثراء وأكثر ثقة، ولكن ربما ستظل جزءا لا يتجزأ من نظام “الوضع القائم”، الذي لا يزال مشكّلا أساسا على طريقة السلطة الأمريكية ومؤسساتها. أم أنه سيسعى إلى إعادة النظر في النظام الدولي من خلال طرد الولايات المتحدة، باعتبارها، أي الصين القوة الآسيوية وربما العالمية السائدة في المستقبل المنظور؟
و للإجابة عن هذه المهمة، يمكن للمؤرخين الاعتماد على الحكمة المتبثة للشخص الذي فهم وجهة النظر العالمية والوعي التاريخي لقادة الصين أفضل من أي شخص آخر: إنه زعيم سنغافورة الراحل: لي كوان يو Lee Kuan Yew – الذي أطلق عليه كل قادة الصين منذ دنغ شياو بينغ Deng Xiaoping، إلى شي Xi، لقب “المعلم” – والذي قال: إن “حجم إزاحة الصين للتوازن العالمي، يدعو العالم للبحث عن توازن جديد”، وإن الصين “تريد أن يتم التعامل معها على هذا النحو، وليس بوصفها عضوا فخريا في الغرب”. وعندما سئل عما إذا كان يرغب قادة الصين في أن يحلوا محل الولايات المتحدة، رد لي Lee :” بالطبع. ولما لا؟ كيف يمكن أن لا يطمح (الصينيون) في أن يكونوا الرقم الأول في آسيا ، ثم في العالم، بعد ذلك؟ “
هناك مثال واضح عن كيف يمكن أن يكون للجهل بالتاريخ تبعات خطيرة، إذ يصبح ذلك واضحا عندما نستحضر علاقة أميركا بالشرق الأوسط: فإذا كان الرئيس (الأمريكي) الذي سيتولى منصب الرئاسة في عام 2017 يحضر لمشاركة قادة إسرائيل والدول العربية الرائدة في المسألة الإسرائيلية الفلسطينية، فماذا يمكن أن يطلبه من المؤرخين التطبيقيين؟ ستكون هناك بداية جيدة إذا ما سألهم عن أهم السياسات والإجراءات الأمريكية التي تم اتخاذها في المنطقة خلال العقود الماضية، وكيف يقرأ ويتذكر الفاعلون، في كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية والأردن والسعودية ومصر وإيران تلك القرارات. وقد سبق لدينيس روس Dennis B. Ross أن لاحظ، أنه في ظل جهل قادة الولايات المتحدة بتلك الإجراءات السابقة في الشرق الأوسط، “فإن قادة تلك المنطقة يعرفون جيدا ذلك التاريخ.” فكيف يمكن للتجربة التي ورثوها عن الماضي أن تختلف عن تجربتنا؟ وما هي الدروس المستفادة من سلوك الولايات المتحدة؟
10
وهناك نوع خامس من مهام المؤرخين التطبيقيين:
وهو طرح أسئلة من نوع: “ماذا لو؟” والإجابة عنها. وهي أسئلة مصممة لتحليل ماضي صنع القرار. إن التعامل مع مثل هذه الأسئلة يتطلب تفكيرا منضبطا وغير مألوف. ففي الوقت الذي يتحفظ فيه العديد من عموم المؤرخين من التحليل غير المألوف ، نجد أن لهذا الأسلوب وجود في لب كل سرد تاريخي. وقد قال أحدنا في التاريخ الافتراضي، بأن ذلك (الأسلوب) “هو ضرورة منطقية، خاصة عندما نطرح أسئلة حول العلاقة السببية، مثل سؤالنا: “ولكن بالنسبة ل …” ، ومحاولة تخيل ما كان سيحدث لو أن قضيتنا المفترضة كانت غائبة. “
إننا حينما نقيّم الأهمية النسبية لمختلف الأسباب المحتملة للحرب العالمية الأولى، فإن المؤرخين يصدرون أحكاما حول ما كان سيحدث في حال غياب تلك العوامل.
ويمكن استخدام الأساليب التي تم تطويرها للقيام بذلك بشكل منتظم، كما يمكن أن تستخدم من قبل المؤرخين التطبيقية للنظر في الخيارات السياسية الراهنة. ولذلك، فإنه يمكن لخليفة أوباما Obama أن يسأل مجلس مستشاريه التاريخيين أن يستحضروا أحداث سنة 2013 بالتساؤل: ماذا لو أن أوباما Obama قد اختار أن يفرض “خطا أحمر” في سوريا ضد نظام الأسد، بدلا من أن يفوض الحكومة الروسية كي تقوم بإزالة الأسلحة الكيميائية ؟
وماذا لو أن الاتحاد الأوروبي لم يطلب من أوكرانيا Ukraine عقد اتفاق الشراكة الاقتصادية في يناير 2014، والتي تمت هندستها بشكل واضح من أجل تجذب كييف نحو الغرب؟ فهل كان الرئيس بوتين Putin ، مع ذلك، ليتدخل في أوكرانيا عسكريا؟
11
وأما النوع السادس من الأسئلة التي يمكن ان يطرحها مجلس المستشارين التاريخيين، ستكون بالأساس ذات طبيعة استراتيجية. مثل: هل الولايات المتحدة آخذة في التراجع بشكل نهائي؟ وهل يمكن التغلب على التحديات التي تواجهها من أجل قيادة جديدة ل “القرن الأمريكي”؟ أم أن العقود القادمة ستشهد تآكلا مستمرا للقوة الأمريكية؟
يبدأ المؤرخون التطبيقيون بملاحظة وجود خط متكرر في الثقافة السياسية الأميركية، وهو ما وصفه سامويل هنتنغتون Sam Huntington ب” مرحلة الانحدار” . لقد ظن العديد بأن الولايات المتحدة تم تجاوزها من قبل الاتحاد السوفياتي أواخر 1950 و 1960، أو من قبل اليابان في 1980. ولكن في كل تلك الحالات، لم يفقد معظم الأمريكيين ثقتهم في الحلم الأميركي، والذي مفاده بأنه إذا ما اجتهد الفرد أي كان وفق القانون، فإن أبناءه سوف يحظون بفرص أوفر ومستوى معيشي أعلى وأفضل من آبائهم. ولكن هذا الاعتقاد قد تلاشى خلال العقد الماضي، حيث ظل الدخل الفردي للطبقة المتوسطة ثابتا.
لقد عرّف بسمارك رجلَ الدولة بأنه “سياسي يفكر في أحفاده”. ولكننا لا ندري ما إذا كان النظام السياسي الأميركي الحالي، يسمح لرجل الدولة بسن سياسات بعيدة النظر، من أجل معالجة هذه المشكلة المتنامية، المتجلية في عدم المساواة بين الأجيال، وبالأحرى أن يتم انتخابه في الموقع الأول.
إن الجيل الحالي هو الجيل الأول من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة الذي يسأل : “ماذا قدم لنا أبناؤنا وأحفادنا ؟”
إنه يتعين على الرئيس الملهم أن يحيي أهمية أجيالنا القادمة باعتبارها المقوم الأساسي لجمهورية الحكم الرشيد.
12
وأخيرا، هناك مهمة أكثر تكهنية، ولكنها لا تزال مسألة حيوية، إذ على المجلس أن يسأل: “ما هي الاضطرابات الاستراتيجية ذات الاحتمالية الضعيفة، والممكنة التحقق، والتي قد نواجهها على المدى المتوسط”.
ومن تلك الأسئلة:
• هل يمكن لتنظيم الدولة شراء أو سرقة سلاح نووي؟
• هل يمكن للقوات الصينية واليابانية الاشتباك فيما بينهما في بحر الصين الشرقي، وهو ما قد يؤدي إلى حرب واسعة؟
• هل يمكن عزل العائلة المالكة في السعودية؟
• هل يمكن أن يتفكك الاتحاد الأوروبي؟
• هل يمكن لروسيا أن تغزو دولة من دول البلطيق؟
فإذا كان بعض هذه السيناريوهات قد يبدو بعيد المنال، فإن علينا أن نتذكر ما كنا نتصوره قبل ست سنوات بخصوص ما يلي: كم من الخبراء الذين توقعوا توقيت أو سرعة الربيع العربي؟ أو من منهم قد تصور حجم الخراب الذي يقع اليوم بسوريا؟
ولنا أن نتصور أيضا قبل عامين ونصف، كم منهم كان يعتقد أن يقوم فلاديمير بوتين Vladimir Putin بغزو شبه جزيرة القرم Crimea، أو أن وكلائه يمكن أن يقوموا بإسقاط طائرة ركاب هولندية، أو أنه سوف يقحم قواته المقاتلة في سوريا؟
إن بناء سيناريوهات مستقبلية بطبيعة الحال هو جزء لا يتجزأ مما تقوم به وكالات الاستخبارات، لكن المؤرخين لا يلعبون سوى دور صغير في هذه العملية.
وكما سبقت الإشارة لذلك سلفا، فان المؤرخون التطبيقيون لا يملكون كرات الكريستال. غير أنهم يمتلكون بعض المزايا، أكثر من الذين يحاولون الإجابة عن هذه الأسئلة، عن طريق النماذج وتحليل الارتباط. فهم يعرفون أن الأحداث الدرامية التي كانت توصف بأنها غير قابلة للتصديق قبل وقوعها، تعتبر بعد وقوعها لا مفر منها. إن دراستهم التوقفات الحادة السابقة تشجع على ما يمكن تسميته ب”الحساسية التاريخية” التي تتناغم مع الإيقاعات ذات الأمد الطويل، ومع المفاجآت الاستراتيجية، ومع الانقلابات الجريئة التي مرت عبر التاريخ.
تعتبر هذه الحساسية التاريخية ذات قدر كبير: فقد قام أحد المؤرخين التطبيقيين، والذي أصبح يعرف الآن بقدرته على التمييز والاستفادة من الدورات التاريخية طويلة الأمد في الأسواق، قام باستخدام حساسيته التاريخية، أثناء كتابته لأطروحة الدكتوراه المتعلقة بموضوع “العلاقة بين السلع والاستراتيجية الكبرى للإمبراطورية البريطانية”، إلى درجة أنه قد تمكن من التنبؤ باحتلال العراق لحقول النفط في الكويت، قبل أن يفعل ذلك صدام بعامين كاملين.
13
لفترة طويلة جدا، كان يُعتقد أن التاريخ موضوع “لين”، وخاصة من قبل علماء الاجتماع الذين كانوا يقدمون حقائق أكيدة ولكن بشكل مزيف. ونحن نعتقد أن الوقت قد حان، لتقديم تاريخ تطبيقي جديد وصارم، حتى يعمل على إنهاء مرحلة الجهل بالتاريخ الامريكي. إننا لا نريد فقط أن نرى ذلك المجال يدمج ضمن المكتب التنفيذي للرئيس، جنبا إلى جنب مع الخبرات الاقتصادية التي طالما تم اعتبارها أنها لا غنى عنها بالنسبة للسلطة التنفيذية. بل نريد أيضا أن نرى ذلك المجال كتخصص قائم بذاته في جامعاتنا، بدءا من جامعة هارفارد.
لقد أخذ مشروع التاريخ التطبيقي في جامعة هارفارد نهج “خيمة كبيرة” لتنشيط التاريخ التطبيقي في الأكاديمية، وتعزيز استخدامه في الحكومة، وقطاع الأعمال، وغيرها من قطاعات المجتمع.
إننا لا ندعي أننا قد اخترعنا هذا المفهوم: إذ أننا نتتبع أصوله التي أتى بها ثيوسيديدسThucydides، كما نعترف بأنه كان امتدادا للتاريخ العام حتى العقود الأخيرة.
إننا لا ندعي أي خصوصية بهذا الشأن، حيث نحيي الزملاء والأساتذة أمثال السير مايكل هوارد Michael Howard بأكسفورد Oxford، و بول كينيدي Paul Kennedy من جامعة ييل Yal، كما نحتفي ومساهماتهم، آملين محاكاتهم. ولإبراز العمل الذي ننوي القيام به، فإننا نشجع القارئين والمساهمين على زيارة موقعنا : applied history matters.
وبصفة عامة، فإننا نشجع الصحفيين على طرح السؤال على مرشحي الرئاسة عن كيف يعتزمون القضاء على الجهل بالتاريخ في صناعة السياسة الأمريكية.
إن شعار “أمريكا أولا” يعكس تاريخا سيئا. لذلك نفضل شعارا بديلا للولايات المتحدة، ليس له ماض مماثل، ويمكن أن يكون: “التاريخ أولا”.