الشهودالسياسة

في العلاقة الممكنة بين الحركة الإسلامية والدولة المغربية

 العناصر الرئيسية للبحث:

1.قصور التفسير بـ”الإسلاموفوبيا” .

2 ـ في العلاقة القائمة: علاقة توتر وتوجس.. لماذا ينبغي تجاوزها؟:

3 ـ أي عهد جديد لنظام ملكي ثابت؟

أولا: ثوابت العهود في النظام الملكي:

ثانيا: حدود وإمكانيات التغيير في العهد الجديد:

4 ـ أي منحى اعتدالي لحركة إسلامية حديثة؟

أولا: ثوابت الحركة الإسلامية بالمغرب:

ثانيا: مؤشرات التغيير في ممارسات الحركة الإسلامية:

5 ـ في العلاقة الممكنة: علاقة الشرعية المشتركة:

أولا: معيقات وصعوبات العلاقة الممكنة:

 ثانيا: إمكانات العلاقة الممكنة:

   تنويه:

أولا: نشر هذا البحث في جريدة التجديد المغربية في عددين متواليين: 137 و 138، سنة 2001، باسم أبو إلياس، وذلك لاعتبارات زمنية معينة.

ثانيا: ماورد في البحث هو عبارة عن أطروحة لإعادة ترتيب العلاقة بين الحركة الإسلامية و المؤسسة المكية في المغرب، أطروحة يعتقد صاحب البحث أنه لو تم الأخذ بها لتم تفويت الفرصة على الجناحين الاستئصالي العلماني و المتشدد الإسلامي، و لكان بالإمكان تفادي أحداث 16 ماي 2004.

ثالثا: يعتقد صاحب المقال أن الأطروحة لا تزال تحتفظ براهنيتها، و عليه يعيد نشرها، للإثراء و النقاش. خاصة و ان المغرب مقبل على متغيرات حاسمة في هذه العلاقة، بناء على مؤشرات وطنية و إقليمية و دولية. قد يكون لنا مجال لطرحها في فرصة لاحقة.

   تقديم:

على هامش ما أورده الأستاذ محمد يتيم في العدد من جريدة ” التجديد” بتاريخ 2000/11/22 تحت عنوان: “هل هناك خطر إسلامي بالمغرب؟”، وبالموازاة مع ما شهدته الساحة السياسية مؤخرا من تصعيد في العلاقة بين المؤسسة الحاكمة وجماعة العدل والإحسان. ومساهمة في الحوار الذي فتحته جريدة “التجديد” بعددها رقم 135 الصادر بتاريخ 11 يناير 2001 حول “الحركة الإسلامية والاستقرار”، سنسعى في هذا المقال إلى تناول العلاقة القائمة والمفترضة بين الحركة الإسلامية والحكم في المغرب من خلال مجموعة من الأسئلة: في أي اتجاه استطاع الحكم القائم استثمار الطبيعة المدنية للحركة الإسلامية؟ هل في اتجاه الاحتواء والتوظيف القريب المدى وفي اتجاه ضبط تمددها وتوسعها أم في اتجاه تحقيق مشروع مشترك بعيد المدى؟ وما مدى تأثير أطروحة الإسلاموفوبيا على اختيارات النظام الحاكم؟ هل استطاعت الحركة السلامية استثمار بنية النظام القائمة على المشروعية الدينية وتطوير العناصر المشتركة أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سعيا لسحب تلك المشروعية منه؟

1.قصور التفسير بـ”الإسلاموفوبيا”:

إن أحدث تقريرين أمنيين ـ يزكيان الخوف المرضي من الصحوة الاسلامية وحركتها ـ يتجليان في ما يلي:

الأول: وهو تقرير أمني أمريكي، أصدرته شعبة “مكافحة ـ ما يسمى ـ بالإرهاب”، والتي يرأسها مايكل شيهان، والتابعة لوزارة الخارجية الأمريكية.. ويؤكد على العشر نقاط التالية:

ـ إن الحركات الإسلامية، في إقليم المغرب العربي، تمثل الطرف الأخطر، على ما يسميه التقرير، بمسيرة الاندماج السياسي بين البلدان المغاربية وبين الغرب وإسرائيل.

ـ إن الإسلام السياسي المغاربي والصحوة الإسلامية، ينبئان بوقوع تغيرات غير محسوبة في موازين النظم الحاكمة للإقليم.

ـ إن رفع الحظر السياسي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الجزائرية) وحركة العدل والإحسان (المغربية) وحركة النهضة (التونسية)، سيفضي إلى أسلمة جمهور الناخبين بشكل خاطف وساحق في أي انتخابات قادمة.

ـ إن الولايات المتحدة يجب أن تتعاون مع حكومات المغرب العربي، ضد تلك التجمعات التي تهدد الاستقرار بواسطة العنف.

5 ـ يقترح التقرير لهدم ما يطلق عليه “مجتمع الأحزاب الأصولية”، تشغيل ملايين الشباب المغاربيين في أسواق استثمارية إقليمية ودولية.

6 ـ يحذر التقرير من استعمال مزيد من القمع ضد الإسلاميين، لأن من شأن ذلك أن يوسع من خريطة التعاطف الشعبي معهم.

7 ـ يثني التقرير على اللجوء إلى أساليب ذكية، ومنها: استمالة قيادات معتدلة داخل الأحزاب الإسلامية، وتحييد التيارات الوطنية التي قد تفضل التحالف مع التيار الإسلامي عوضا عن قبول علاقات ائتلافية مع السلطة السياسية.

8 ـ يثني التقرير على دعم القوى والاتجاهات العلمانية الموالية للغرب.

9 ـ يطالب التقرير الأمني الأمريكي أصحاب القرار في العالم الغربي، بضبط بعض المنظمات غير الحكومية النشطة في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، كي لا تتسبب بضغوط داخلية لدول المغرب العربي.

10 ـ يأمل التقرير أن تضع الحياة الانتخابية حدا لتعاظم النفوذ الإسلامي المغاربي، عن طريق ترسيخ آلية التناوب السلمي على الحكم بين أقطاب الطبقة السياسية الحاكمة لدول الإقليم.

وأما التقرير الثاني فيتجلى في رصد خاص، تعده الوكالة اليهودية، التي يرأسها أبراهام بيرغ، والذي يضطلع اليهودي من أصل مغربي: سلومون أزولاي، بدور بارز فيه، وهو المعروف بجولاته البحثية في المغرب وتونس والجزائر. وقد طرح هذا الرصد ما يلي:.

1 ـ إن مستقبل العلاقات بين إسرائيل ودول المغرب العربي، مهما بلغت من تطور، ستكون عرضة ل “الانهيار” المفاجئ، وذلك لقدرة الأحزاب الإسلامية المغاربية، على حشد جبهة اجتماعية مناوئة لـ(الإسرائيليين) على قاعدة خطاب إسلامي قريب من العامة.

2 ـ إن إخفاق الحاخام الياهو باكش دورون، في بلورة حوار روحي مع رجال دين مسلمين، خلال السنوات الثلاث الماضية، قد ترك وراءه خيبة أمل مزمنة لدى الدوائر السياسية في تل أبيب، التي حاولت مرارا إرسال دورون في زيارات إلى الرباط وتونس بين أعوام 1999-97 لكن دون جدوى.

من خلال كل ما سبق، وبالرغم من أهمية ذلك في تعميق الفهم للنظرة الأمريكية الصهيونية لواقع ومآل المنطقة الإسلامية، فإننا مع ذلك نطرح تساؤلا منهجيا حول مدى الأهمية التي يجب أن نوليها لمثل هذا النوع من النصوص، لتفسير علاقة الحكم المغربي بالقوى السياسية في البلاد عامة، وبالحركة الإسلامية خاصة؟؟.

إن الاقتصار ـ في تفسير العلاقة بين الحركة الإسلامية والحكم ـ على استخدام أطروحة “الإسلاموفوبيا”، بالرغم من أهميتها وواقعيتها، إلا أنها تنطوي على قصور منهجي متعدد الجوانب، ومنه:.

أ ـ إهمال المعطى التاريخي:

فصناعة أطروحة “الخطر الإسلامي” لم يشرع في تسويقها تسويقا واسعا إلا مع بداية انهيار المعسكر الشيوعي، أي ابتداء من تاريخ 1985، كما لم يتم تأسيسها فلسفيا إلا مع صامويل هتنجتن في أطروحته “صراع الحضارات” وذلك سنة 1992، في حين يرجع تاريخ العلاقة المتوترة بين الحركات الإسلامية وأنظمتها إلى تاريخ نشوء هذه الحركات نفسها.

ب ـ ضعف الدقة في تحديد قدرة الأنظمة العربية على مقاومة إملاءات القوى الخارجية:.

فمثل هذا النوع من التفاسير يفترض مسبقا وجود سلبية مطلقة لدى الأنظمة أمام الرغبات الأمريكية الصهيونية.. إذ دلت مجموعة من الأحداث على أن هذا الإطلاق قد يحتاج إلى تقييد كبير.

ج ـ التفسير بالعامل الخارجي:.

إن هناك نتيجة سلبية للتفسير الإسلاموفوبي، تتمثل في كونه يندرج ضمن التفسير بالعامل الخارجي، وهو ما لا يسعف في إنضاج اقتراحات من شأنها أن تفيدنا في تحريك العوامل الذاتية لكلا الطرفين، في سبيل تجاوز حالة التوتر والتوجس.. كما أن هذا النمط من التفسير سيؤدي ـ في أحسن الأحوال ـ إلى السقوط في القراءة “المحافظة”، دون أن نتمكن من الكشف عن مكامن قصور تلك العلاقة، أو ننفتح على آفاق تطويرها..

د ـ الانشغال بتبرئة الذات وطمأنة الآخر:.

إن تضخيم أطروحة “الإسلاموفوبيا” سيركب في تفكير الحركة الإسلامية هاجس تبرئة الذات، وتكمن خطورة هذا المنحى في كونه سيؤدي بها إلى فقدان البوصلة الحقيقية للسير. ببحثها المستمر عن شهادة حسن السيرة والسلوك، مما سيرتهن مشروعها تحت سقف خفيض.

إن العلاقة بين الحركة الإسلامية والمؤسسة الحاكمة تحتاج منا إلى تشريح جريء، ونقاش هادئ ورصين، حتى نستطيع فهم حالتها الآنية ـ في ظل العهد الجديد ـ واقتراح أشكال تجاوز هذه الحالة إلى مستوى أنضج، وأقدر على تحقيق ما يرجع على هذه الأمة بالخير والنفع؛ في سبيل هذا المرام سنحاول تبيان حقيقة هذه العلاقة، وذلك بالاعتماد على العوامل الذاتية لكلا الطرفين:.

2 ـ في العلاقة القائمة: علاقة توتر وتوجس.. لماذا ينبغي تجاوزها؟:

على امتداد الوطن العربي والإسلامي، وخلال أكثر من نصف قرن من الزمن، والعلاقة بين المؤسسات الحاكمة والحركة الإسلامية تتراوح بين التأزم المطلق المفضي إلى المواجهة المفتوحة (سوريا، مصر/ عبد الناصر..) وبين التعايش الحذر والذي لا يفضي إلى حالة استقرار (الأردن، المغرب..) دون أن يؤدي كل ذلك إلى استئصال الحركة ولا حتى احتوائها من جهة، كما لم يؤد إلى “أسلمة” المجتمع ولا حتى إلى تغيير الأنظمة.

نعم، لم يشهد المغرب ذلك المستوى الخطير من الصراع الدموي بين الحركة الإسلامية والمؤسسة الملكية، ولربما كان ذلك بسبب خصوصية كل منهما، أو ربما لكون التجربة المشرقية تبدو باستمرار سابقة عن التجربة المغربية، مما يتيح مجالا واسعا لكليهما للاعتبار والاستبصار.

ولكن، ومع ذلك، فالحالة المغربية لم تخرج عن طبيعة التوجس والحذر في العلاقة بين الحركة ومؤسسة الحكم، مما يرشحها ـ عند كل منعطف ـ إلى الإشراف الحقيقي على حالة الانزلاق نحو الصراع المفتوح، ويتجلى ذلك بينا في اختيارات التعامل لكل منهما مع الآخر:.

أولا: من جهة المؤسسة الملكية:.

تتعامل المؤسسة الملكية مع الحركة الإسلامية بآليتين تعكسان خلفية التوتر والتوجس:.

أ ـ إدماج مقدر ومضبوط للإسلاميين:

إن المؤسسة الملكية تعي تمام الوعي أن القبول التام بالحركة في الساحة السياسية، سيؤدي إلى اختلال “توازن” النسق السياسي، والمبني على ضرورة إبقاء حالة التقارب في مستويات القوة والضعف بين القوى السياسية، لصالح الحفاظ على دور الفاعل المحوري في هذا النسق.. كما تعي أيضا أن الإقصاء الشامل للحركة الإسلامية سيؤدي بها إلى دعم المواقف “المتشددة” داخلها، كما سيؤدي ـ في الوقت ذاته ـ إلى إضعاف الإجماع السياسي المرغوب فيه من قبل هذه المؤسسة.. لكل ذلك، فالمطلوب رسميا: تحقيق إدماج مضبوط ومقدر للإسلاميين بشكل يمنعهم من الهيمنة والاكتساح، وكذا إنجاز مواجهة محدودة ضدهم، تمنعهم من التعبئة والتحفز.. وذلك ما يفسر الاستمرار في سياسة “الاعتراف” السياسي والتضييق “القانوني”، كما يفسر أسباب منع جزء من هذه الحركة ـ حركة التوحيد والإصلاح ـ من تكوين حزب سياسي، لدفعها إلى العمل ضمن إطار سياسي معروفة قيادته ومعروفة توجهاتها.

ويبقى أن الهدف الحقيقي من استعمال هذه الآلية هو تحقيق نوع من الإدماج للإسلاميين يسمح بتحقيق التوازن المذكور ويجعل مشروعهم لا يتجاوز سقفا معينا.

ب ـ ضبط المجال الديني وهيكلته.تحتكر المؤسسة الملكية الخطاب الديني احتكارا يحصر قراءته وتأويله في المذهب السني المالكي الخليلي بما ينسجم والتوجه الليبرالي للدولة، كما تبادر إلى تأطير المجال الديني بالعمل على احتواء “منابعه”، ويتم ذلك عن طريق ما يلي:.

ـ التأكيد على تبني الخطاب الأخلاقي بالدعوة إلى تخليق الحياة العامة وبالحرص على تأطير المناسبات الدينية.

ـ تبني المشروع الاجتماعي التضامني وتأطيره، ودعوة القوى الليبرالية “للمجتمع المدني” للانخراط فيه.

ـ إعادة صياغة المشهد الديني، بإعادة هيكلة رابطة علماء المغرب والمجالس العلمية وجمعيات خريجي دار الحديث الحسنية وبعض المراكز الدينية الرسمية.

وتهدف هذه الآلية إلي تكييف الخطاب الديني مع الاختيار الليبرالي المحافظ، بما يمنع الإسلاميين من “الاستفادة” من هذا المجال.

إن الآليتين المذكورتين المستخدمتين تكشفان أن العلاقة بين الجانبين لم تستقر بعد أو تصل إلى حد التطبيع الكامل البعيد عن كل شكل من أشكال الاحتياط والتوجس.

ثانيا: من جهة الحركة الإسلامية:.

إن الحركة الإسلامية بحكم أدبياتها الدعوية وطبيعتها الشعبية، تبقى مهما اختلفت مواقعها السياسية تتميز بأمرين يزكيان حالة التوتر والتوجس بينها وبين الحكم:.

أ ـ مسألة الولاء والبراء:

إن “العدل والإحسان” سواء من خلال “الرسالة” أو “المذكرة” أو حتى “المنهاج النبوي” ـ لا تعبر صراحة عن موقف براء ولا ولاء من الحكم. بل حتى موقف “حركةالتوحيد والإصلاح” بالرغم من تصنيفها التقليدي في دائرة الحركة “المقربة”، فإن السلطة لا تزال تنظر إلى تصريحاتها بالعمل في اطار الشرعية القائمة بنوع من التشكك. ويبدو أن مرد ذلك إلى: كون الجماعة الأولى تأخذ بمبدإ “الواجب” على حساب مبدإ “الممكن”، وذلك من منطلق تقديري مفاده أن اختيارات النظام الحاكم إنما هي اختيارات معزولة لا سند شعبي لها.. في حين تعتمد الحركة الثانية على مبدإ “الممكن” على حساب مبدإ “الواجب”، وذلك من منطلق التعامل مع تلك الاختيارات على أساس أنها لو لم تكن مدعومة من الجماهير الواسعة لما تم تبنيها من قبل النظام الحاكم.

ب ـ استثمار حالتي الإدماج والإقصاء:.

إن طبيعة القضايا والمعارك التي بدأت تطرح أمام الحركة الإسلامية في زمن ما سمي بحكومة التناوب، جعل من الصعب ـ بمكان ـ على أي طرف إسلامي مهما اختلفت مواقعه السياسية أن يتخذ تجاهها موقف الحياد: فقضية “الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” والمحاولة الفاشلة لمنع المصحف والكتاب الإسلامي، مناسبتان أظهرتا بداية تمكن الحركة الإسلامية من توسيع مساحة المعارك لتخرج بها من “قبة البرلمان” إلى فضاء الشوارع.. كما أن قضية “حرب الشواطئ” و”حرب الجامعات” ـ الحالية ـ قد دلت على قدرة الحركة الإسلامية على تبني قضايا الشارع في إطار المؤسسة الرسمية، وذلك في عملية استثمار مزدوجة لحالتي الإدماج والإقصاء.. إن هذه المسافة الواسعة المستخدمة من قبل الحركة الإسلامية بدأت تحدث لدى الحكم نوعا من القلق من حيث كونها ـ أي الحركة ـ بدأت تبرز كفاعل أساسي ومعتبر في الساحة يتمتع بقدرة تعبوية وتسهم نسبيا في تغذية حالة التوتر والتوجس بين الطرفين.

إننا نخشى حقا أن يكون كلا طرفي العلاقة مصابا بحالة تلبست فيها لديهما العناصر الممكن توظيفها لبناء المجتمع وتحقيق المشروع الإيجابي، بالعناصر السلبية.. فهل بالإمكان ـ حقا ـ العثور على جوانب مشتركة وعناصر غير مفعلة لدى الطرفين، بإمكانها أن تشكل مدخلا لعلاقة إيجابية بناءة؟.

وفي سبيل معرفة حقيقة هذه العناصر وتلك الجوانب فإنه يلزم الكشف عنها واستيعابها عن طريق تفكيك البنيات التي يقوم عليها كل طرف، واستحضار المعطيات الحالية المحيطة بهما، لمعرفة ثوابت كل منهما وإمكانات التغيير لديهما.

المشتركة بين الحركة الإسلامية والنظام الملكي.

3 ـ أي عهد جديد لنظام ملكي ثابت؟

في سبيل اكتشاف مدى إمكانية دخول مؤسسة الحكم ـ في عهده الجديد ـ في علاقة جديدة وأكثر إيجابية مع الحركة الإسلامية ، وجب التمييز بين ثوابت هذه المؤسسة ومتغيراتها:

أولا: ثوابت العهود في النظام الملكي:

أن يرث عهد جديد عهدا سابقا في ظل نظام ملكي معناه باختصار: أن يسعى العهد الجديد إلى تأكيد شرعية العهد السابق عن طريق دعم طابع المحافظة عليه والمحاكاة له، بحيث يمثل طابع المحافظة ذاك عنصر قوة مركزي لضمان استمرار النظام الملكي. في حين تبقى هوامش المخالفة والتجديد ـ مهما بلغت ثورية الوارث ـ محكومة بضوابط تضمن صفة “القداسة” التي ينص عليها الدستور: فالعهد الجديد للنظام الملكي المغربي يحتمل إرث أربعة عشر قرنا من التراث الملكي وسبعة قرون من تقاليد وأعراف الأسرة الحاكمة.. ذلك التراث وتلك التقاليد تمثل في مجموعها رصيدا بنيويا للعهد الجديد، انطلاقا من عقد البيعة وانتهاء بالمراسيم والتقاليد البروتوكولية. ويتم تكريس مضامين هذه الثوابت في الخطاب الرسمي في ثلاثة أركان: الإسلام والملكية والوحدة الترابية.

وتدعم هذه الثوابت آليات إجرائية تفرزها الممارسة اليومية للحياة السياسية: آليات تسعى إلى تحقيق توازن النسق السياسي المغربي لصالح الفاعل المحوري فيه، وهو المؤسسة الملكية، حيث تستأثر بعدد هائل من مصادر القوة السياسية، بامتلاكها لصفات دستورية وعرفية وسياسية ثلاثة: فالملك  ـ دستوريا ـ هو أمير المؤمنين: يفصل في قضايا “الدين”، كما أنه ـ عرفيا ـ سلطان شريف: يفصل بين الفرقاء القبليين والسياسيين.

 وأخيرا فهو سياسيا ـ رئيس دولة: يسير دفة الحكم ويسهر على تطبيق الدستور.. ومن مجموع هذه الصفات الثلاثة يتكون ما اصطلح عليه ب “المجال الملكي الخاص”، وهذا المجال له تجل إداري واضح يتمثل في: الجيش (وزير الدفاع)، والعدل (رئيس المجلس الأعلى للقضاء) والشؤون الدينية والداخلية والخارجية.. ولهذا المجال ـ أيضا ـ حساسية بالغة، إلى درجة أن محاولة المس به قد أدى إلى تأجيل مشروع التناوب بضع سنين دأبا(1). إلى حين تراجع أحزاب الكتلة ـ عمليا ـ عن مطالب مذكرتي 1992/09/16 و أبريل 1996، حيث ووجهت بتهمة محاولة المس ب “مقدسات البلاد”، وقد تمت ترجمة حقيقة تلك “المقدسات” بما سمي من حينه بـ”وزارات السيادة” وخاصة وزارة الداخلية..

هكذا نلحظ أن صفة “القداسة” تزحف باستمرار لتنسحب، لا على الثوابت نفسها، بل لتشمل آليات دعم تلك الثوابت أيضا.

ثانيا: حدود وإمكانيات التغيير في العهد الجديد:

إذا كان واتربوري  Waterbury، في كتابه المشهور: «الملكية والنخب السياسية بالمغرب»، قد صنف الحكم الملكي بالمغرب ـ في عهده السابق ـ ضمن النمط السياسي التقليدي في شكله البترمونيالي (أي عقلية امتلاك الضيعة)، فإن بعض إرهاصات العهد الجديد تنم عن إشارات قوية تدل على إمكانية الخروج عن إطار هذا النمط في حدود محسوبة، ليصبح أكثر اعتدالا وأقدر على التواصل مع المعطيات المستجدة في النسق السياسي المغربي: إن رغبة العهد الجديد للنظام الملكي المغربي في اجتراح مسار جديد يحدوه هدفان مركزيان:

أ ـ هدف داخلي: ويتمثل أساسا في نسج علاقة قوية مع القاعدة الشعبية، وذلك عن طريق تبني المشروع الاجتماعي التضامني وتبسيط المراسيم البروتوكولية المحيطة بالمؤسسة الملكية، وإلغاء مظاهر البذخ والتبذير في الاحتفال بالمناسبات الوطنية، إضافة إلى السعي نحو تحجيم الدور السياسي لوزارة الداخلية لصالح الدور الإداري في إطار ما سمي ب “المفهوم الجديد للسلطة“.

ب ـ هدف خارجي: وتجلى هذا الهدف في العمل على تقوية العلاقة بالاتحاد الأوروبي، في أفق تحقيق الشراكة الاقتصادية معه، وذلك عن طريق السعي إلى التخلص من السمعة السيئة في مجال حقوق الإنسان، بإحداث هيئة للتحكيم في التعويضات عن الأضرار والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي في 16/08/1999 ، وكذا تسوية وضعية رموز الملف الحقوقي: بعودة ابراهيم السرفاتي في 01/10/1999 بعد ثمان سنوات من النفي، وبالسماح بدخول أسرة بنبركة في 30/11/1999 ، بعد خمس وثلاثين سنة من الاغتراب، وكذا رفع الحصار عن الشيخ عبد السلام ياسين في 16/05/2000 ، بعد عشر سنوات من الحصار. ويتم كل ذلك بموازاة مع العمل على التخلص من الرموز السيئة سواء السياسية منها أو الإدارية، ومن ذلك إقالة وزير الداخلية السابق إدريس البصري في 09/11/1999بعدما أمضى قرابة ربع قرن من الزمن في منصبه ذاك، وأخيرا إقالة مجموعة من الموظفين الكبار بعد تعريضهم للتفتيش المالي والمتابعة القضائية..

أما إن تحدثنا عن إمكانات التغيير تلك، فسنجدها محدودة بعدد محددات ذات طابع تقليدي تاريخي وذات طابع دستوري تتعلق بالمجال الملكي الخاص: فمنذ اللحظة الأولى من انتقال العهد، تم الحرص على دعم صفة أمير المؤمنين، وذلك باعتماد البيعة كشكل لتعبير النخبة السياسية والإدارية عن ارتباطها بالمؤسسة الملكية.. كما تم التشديد في خطاب ثورة الملك والشعب بتاريخ 20/08/1999 على مضامين البنود الدستورية المتعلقة بقداسة شخص الملك، مما أعطى انطباعا قويا لدى المتتبعين بضرورة استبعاد أي اقتراح يهدف إلى إعادة النظر في صلاحيات الملك بمناسبة أي تعديل دستوري مرتقب على المدى المنظور.. وهكذا، فإننا إذ نلمس إرهاصات التغيير في العهد الجديد، نعيش ـ في الوقت ذاته ـ صور الاستمساك والتشبث بالثوابت المحافظة على الطبيعة التقليدية للنظام الملكي.

 4 ـ أي منحى اعتدالي لحركة إسلامية حديثة؟

ربما يود الذين تعلمنوا ـ أثناء تفسيرهم لظاهرة الصحوة الإسلامية بالمغرب ـ لو ارتكست الحركة الاسلامية نحو متاهات التطرف والتشدد.. وحين يثبت فشل أطروحة الإسلاموفوبيا في استعداء النظام الملكي بالمغرب، يلجأون إلى استراتيجية مغايرة للأطروحة الأولى في الأسلوب مماثلة لها في الاتجاه: فأما الأسلوب المغاير الذي يلجأون إليه فهو اعتبار أن اعتدال الحركة الإسلامية راجع إلى ضعفها لا إلى مبادئها، وهو ـ أي ضعفها ـ يعود إلى كون رئيس البلاد هو نفسه أمير المؤمنين.(2) وأما الاتجاه الذي ينحو إليه هؤلاء هو العمل على إقناع المؤسسة الحاكمة أن الحركة الإسلامية إنما هي حركة سطحية طارئة لا ترقى لأن تعتبر كطرف سياسي يلزم اعتباره في إطار أي مشروع اجتماعي أو سياسي، وإنما ينبغي الإبقاء على إقصائها، فذلك ـ حسبهم ـ هو الوضع الطبيعي لها..

أولا: ثوابت الحركة الإسلامية بالمغرب:

تتحدد طبيعة الحركة الإسلامية بالمغرب انطلاقا من أمرين:

الأول: مسارها التاريخي، والثاني: أدبياتها المعتمدة. فأما على المستوى الأول: فكل المؤشرات تدل على أن هذه الحركة قد نجت من اعتماد العنف وسيلة للتغيير، كما أنها لم تكن في أي لحظة طرفا في أي مؤامرة تسير في اتجاه ذلك النهج. وأما على مستوى أدبياتها: فيمكن اعتماد مرجعين يعكسان ثوابت هذه الحركة: الأول: “المنهاج النبوي” للشيخ عبد السلام ياسين، وهو “ما نيفستو” جماعة العدل والإحسان، وأما الثاني فهو : “الورقة السياسية” لحركة التوحيد والإصلاح، وهو الاختيار السياسي لهذه الحركة، وكلا المرجعين يلتقيان عند نفس الثوابت، ويمكن اختزال تلك الثوابت فيما يلي:

أ ـ الهوية الإسلامية مضمونا للمشروع: وتعني الإيمان بقدرة الإسلام على قيادة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما تعني من جهة  أخرى الإيمان بحاكمية القرآن مرجعا ومآلا، وقانونية الشريعة إطارا وأداة.

ب ـ دولة العدل والشورى إطارا للمشروع: فالدولة القطرية مرحلة للدولة الواحدة، ومن هنا يأتي رفض الحركة الإسلامية المبدئي لأي نزعة انفصالية جديدة مهما كانت مبرراتها. والبيعة رابطة بين وكلاء وموكلين، لا بين أسياد ومماليك. والعدل: تساو في الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، وتوازن بين الصلاحية والمسؤولية، كما أن الشورى ملزمة للحاكم تجاه محكوميه.

د ـ التدافع السلمي وسيلة التغيير: وتعني ممارسة التغيير في إطار علني غير سري، باختيار المشاركة والتفاعل مع الواقع، سواء في إطار المؤسسات الرسمية بالدخول في الانتخابات الجماعية والتشريعية (حركة التوحيد والإصلاح نموذجا)، أو في إطار المؤسسات المدنية من جمعيات وحركات ونقابات عمالية وطلابية (جماعة العدل والإحسان والحركة من أجل الأمة، والبديل الحضاري).(3)

 ثانيا: مؤشرات التغيير في ممارسات الحركة الإسلامية:

إن الاتجاه المعتدل للحركة الإسلامية بالمغرب يسجل باستمرار توسعا ملحوظا، وذلك نتيجة لمعطى خارجي: يتمثل في التجارب والأخطاء التي وقعت فيها بعض الحركات الإسلامية المجاورة، إضافة إلى معطى داخلي يتمثل في مجموعة من المؤشرات الإيجابية التي تلقتها الحركة ـ كما تلقتها بقية القوى السياسية في البلاد ـ مع بداية العهد الجديد والتي تدل على الرغبة في تجاوز تداعيات المرحلة السابقة، هذه المؤشرات التي أجابت عنها الحركة من جانبها بشكل إيجابي سريع: فحركة التوحيد والإصلاح كانت قد أصدرت بيان تأييد لبيعة العهد الجديد في إطار الكتاب والسنة، كما أن حركة البديل الحضاري اعتبرت الملكية الدستورية الديمقراطية عنصرا من عناصر الإصلاح بالبلاد وذلك عبر بيانها الصادر في28/07/1999..(4) بل إن جماعة العدل والإحسان ـ المصنفة رسميا حركة متطرفة ـ قد أوضحت أن رغبتها في تجنيب المغرب الوقوع في الحالة الجزائرية هو ما يدفعها للعزوف عن المشاركة في المؤسسات السياسية المنتخبة، ولذلك فهي لن تتراجع عن هذا الموقف إلا إن لمست قبولا لها من قبل القوى السياسية في البلاد.

إن تلك المؤشرات لها دلالات حقيقية تكمن فيما يلي:

 الأول: القبول بالإدماج مقابل احترام الشريعة: إن ممارسات الحركة الإسلامية ـ تدل على أنها قد تخلت منذ زمن عن مبدأ “تطبيق الشريعة عن طريق الخروج” لصالح مبدأ “القبول بالإدماج مقابل احترام الشريعة”. فالمعطيات السابق ذكرها تدل على ذلك بشكل واضح.. وهذا بدوره يدل على حصول تطور هام في الفقه السياسي لدى الحركة الإسلامية، حيث بدأت تميز بين التصور السياسي والبرنامج السياسي، كما ميزت بين الدولة الإسلامية النموذجية وبين الدولة الإسلامية التاريخية.(5) كما أن تقييمها للواقع بدأ يوجهها نحو الاهتمام بالفرد باعتباره شرطا لإقامة المجتمع المنشود أي أنها بدأت تشعر يوما بعد يوم بضرورة تغليب التربوي والدعوي على السياسي.

الثاني: الاتجاه نحو أجرأة المشروع التغييري: لقد بدأ المشروع التغييري للحركة الإسلامية يتجه شيئا فشيئا نحو ملامسة الواقع السياسي وقضاياه التفصيلية، وقد ساعد انسياب جزء من هذه الحركة إلى المؤسسات المنتخبة على دعم هذا الاتجاه، حيث بدأت تفرض عليها قضايا ومعارك ملموسة ومنها: قضية الربا من خلال مشروع السلفات الصغرى، وقضية التشريع الإسلامي من خلال ما سمي بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وقضية الهوية من خلال ميثاق التربية والتكوين، وقضية الإلتزام الأخلاقي من خلال ما سمي بحرب الشواطئ وغيرها.. كما أن هناك أمرا آخر ساعد على التوجه نحو الخروج من مرحلة الشعارات العامة إلى مستوى القضايا الملموسة، و هو أن كوادر الحركة الإسلامية أصبحت تحتل شيئا فشيئا مهام إدارية مهمة، مما بدأ يؤثر الآن على طريقة تفكيرها فيما يخص إنجاز المشروع الإسلامي العام.

إن هذا الاتجاه الإجرائي حقق للحركة الإسلامية نتيجة هامة تجلت في التمكن من ربط الجسور مع مؤسسة العلماء المحسوبين تقليديا على المؤسسة الحاكمة.

 الثالث: تطوير الفقه الاجتماعي: لقد استطاعت الحركة الإسلامية أن تكون مرجعيات فقهية خاصة بها، حيث مكنها ذلك من تجاوز الفقه السلفي الوهابي الذي حكم سلوكاتها الاجتماعية، مما أسهم في إعادة النظر في مجموعة من العلاقات الاجتماعية والسياسية.

إننا حين نعتمد معيار اعتماد العنف دليلا على المنحى المتطرف، سيبدو لنا بوضوح مدى تهافت الاتجاهات العلمانية التي تأبى إلا تسويق الصورة النمطية للحركة الإسلامية، والمصدرة عبر الدوائر الثقافية والسياسية الغربية، حيث تلصق بالحركةالإسلامية تهمة تبني الخيارات المتشددة، فتقع في “كبيرة” استعداء المؤسسة الملكية ضدها.

5 ـ في العلاقة الممكنة: علاقة الشرعية المشتركة:

أمام كل ماسبق نستطيع القول بأن للإسلاميين ـ من جهتهم ـ “سواد الناس الأعظم” وقاعدتهم الشعبية المرشحة باستمرار للتوسع والتمدد، والقابلة للتعبئة عند كل معركة لها علاقة بالهوية والعمق الديني، كما أن للمؤسسة الملكية من جهتها هي الأخرى “الشوكة والغلبة” وموقعها المحوري في النسق السياسي المغربي، وهي القادرة من خلاله على التصدي بشتى الوسائل التقليدية لأي محاولات تهدف إلى إحداث اختلال****

أولا: معيقات وصعوبات العلاقة الممكنة:

إنه حلم وآمال، دونها وتحققها مصاعب ومعيقات، موضوعية ونفسية، أكبرها وأكثرها استعصاء على التجاوز هناك معيقا ن اثنان:

أ ـ مسألة القداسة وقضية الشورى: تعتبر مسألة قداسة شخص الملك المنصوص عليها في الفصول 19 و23 و28 من الدستور، من أكبر المواضيع الشائكة في الشأن السياسي المغربي، كونها تحتل جوهر المجال الملكي الخاص الذي ذكرناه سابقا، في حين تعتبر الحركة الإسلامية من خلال أدبياتها أن دولة العدل والشورى هي جوهر رسالتها التي تعتبرها إطارا لإنشاء مجتمع مسلم يمارس واجباته تجاه ربه وحقوقه تجاه مجتمعه، وأن دولة العدل والشورى لن تتحقق إلا بوجود الخليفة العادل الذي تربط بينه وبين شعبه بيعة واضحة الشروط والمبادئ: فيقبل الصلاحيات بالموازاة مع قبول تحمل المسؤولية. (6) وللإشارة فقط فإن مفهوم القداسة لم يصبح مفهوما دستوريا في التشريع المغربي إلا مع دستور 1962.

ب ـ العلاقة بالغرب ومحورية الهوية: إن المراهنة الاقتصادية على الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والانخراط السياسي في التوجه الأمريكي، يطرحان في مشروع الحركة الإسلامية، إشكالا متعلقا بكون استرجاع “هوية الأمة” لن يتم إلابالتحرر الاقتصادي والسياسي من الحضارة الغربية، ولئن كانت الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي قد تجد بعض القبول لديها، إلا أن الانخراط في المشروع السياسي الأمريكي ـ الحليف الميداني للمشروع الصهيوني ـ لا يقابل داخل الحركة الإسلامية إلا بالرفض المطلق.

إن إمكانية تجاوز هذه العلاقة القائمة الآن بين الطرفين، لن تتحقق دون أن تصبح قضية القداسة موضوع نقاش علمي ودستوري، بعيدا عن أي حساسية أو مزايدة، ودون البحث عن خيارات اقتصادية وسياسية بعيدة عن مشروع الارتهان الكلي بالمعسكر الغربي.

 ثانيا: إمكانات العلاقة الممكنة:

من خلال استحضار المشترك بين الطرفين، نستطيع تحديد طبيعة العلاقة الممكنة، والتي تتجلى ـ على الأقل ـ في مظهرين اثنين:

أ ـ الشرعية الدينية: من أهم دعائم شرعية المؤسسة الملكية نجد الطابع الديني، وذلك بتبنيها صفة أمير المؤمنين باعتباره “حاميا لحمى الملة والدين”، كما أن الحركة الإسلامية في المقابل تلخص مبرر وجودها في كونها تريد استرجاع الهوية الدينية للأمة الإسلامية.

إن الالتقاء عند الأساس الديني يشكل في حقيقته ـ وبعيدا عن أي توظيف سياسي ـ عامل اشتراك وتعاون، لا مبرر تنافس ومزايدة. نعم إن الحركة الإسلامية تدعو باستمرار إلى ضرورة تحقيق انسجام كلي بين المؤسسة الملكية وطابعها الديني الذي تقوم عليه.. إلا أن مجرد اختيارها للدين أساسا لشرعيتها، يعتبر في جوهره رفضا للطابع اللائكي للدولة، وإن كانت مرحلة التناوب الأولى سجلت محاولات عديدة لاضفاء الطابع اللائكي عليها، الأمر الذي لم يسجل فقط في حق وزراء محسوبين على اتجاه اليسار، بل وجدناه حتى بالنسبة لبعض وزراء ما سمي ب” السيادة” (7) وهو ما يدل على أن الطابع الديني للدولة يجد بعض المقاومة من قبل أطراف متعددة.

ب ـ مسألة الديمقراطية والاختيار السلمي: إن المؤسسة الملكية منذ الاستقلال قد نهجت مسارا ديمقراطيا، على مستوى إحداث المؤسسات على الأقل، هذا المسار الذي يقابله لدى الحركة الإسلامية ذلك الطابع الاعتدالي في التدافع، سواء منها من اختار الدخول في المؤسسات المنتخبة أو من اختار المشاركة السياسية خارجها، وتلك ميزة قلما نجدها في الحالات العربية والإسلامية، الشيء الذي كان له أكبر الأثر على نذرة ضحايا العنف والعنف المضاد.

إن العلاقة الممكنة تكمن في العلاقة المبنية على أساس الشرعية المشتركة وهي الإسلام كدين ومنهج حياة، وكذا على أساس الخيار الديمقراطي السلمي للتدافع، وببناء هذا النوع من العلاقة ستستطيع البلاد الانفتاح على مجموعة من الأوراش يستفيد فيها كل طرف من إمكانات الآخر، ونذكر منها مايلي:

1 ـ الانسجام مع مقتضيات إمارة المؤمنين: وذلك بإعادة مراجعة المجال التشريعي لجعله موافقا للتشريع الإسلامي ـ وبشكل تدريجي ـ وبالتخليق الحق للحياة العامة و فتح الأبواب أمام الحلول الإسلامية للمعضلات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية لتأخذ مكانها الطبيعي.

2 ـ الانسجام مع الطابع الديمقراطي والسلمي: وذلك برفع الحظر السياسي والقانوني على كل قوى التغيير السلمي لممارسة حقها في التعبير والمعارضة، ومن ضمنها قوى الحركة الإسلامية، وكذلك بوقف كل أشكال المتابعة والتضييق على الحريات العامة وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين الذين يمثل معظمهم اليوم معتقلو الحركة الإسلامية.

3 ـ محاربة بؤر الفساد الإداري والمالي: لقد دلت تجربة حكومة التناوب الأولى والثانية على أنها لا تزال عاجزة عن استئصال قوى الفساد الإداري والمالي في البلاد.. ولذلك فإن فسح المجال أمام الحركة الإسلامية والقوى التي لم تتورط في ملفات الفساد والإفساد في البلاد، سيسهم إلى حد بعيد في تحقيق هذا الهدف.

4 ـ استرجاع مؤسسة العلماء لوظيفتها في التوجيه: وهو ما يفرض السعي إلى تشبيبها حتى تتمكن من القيام بدورها في استقلالية وبعيدا عن أي ارتهان أو تبعية سياسية أو أيديولوجية سواء لجهة السلطة أو لغيرها من الأطراف السياسية الأخرى وهو ما سيمكن من استرجاع وظيفتها الإصلاحية في المجتمع، وقدرتها المميزة على التأطير التربوي للجماهير.

5 ـ الإسهام في خدمة القضية الإسلامية الأولى: إن ملك البلاد باعتباره رئيسا للجنة القدس يتحمل بتلك المهمة مسؤولية تاريخية كبرى. كما يبني بها موقفا عربيا وإسلاميا لصالح المغرب وبدون دعم شعبي مستمر لهذه القضية فستبقى هذه المهمة ضعيفة الآثار، ذلك أنقضية القدس ليس لها بعدا سياسيا دبلوماسيا فقط، بل تمتد في عمق الأمة ليكون لها بعدا دينيا وحضاريا، وبذلك تستطيع الحركة الإسلامية أن تقوم بمهمة التعبئة الشعبية المستمرة لصالح هذه القضية المركزية.

إن ماسبق ذكره إنما هو نموذج من المجالات التي بإمكان المؤسسة الملكية مع الحركة الإسلامية أن تقوما فيها سوية بوظيفة مشتركة، وذلك على أساس الشرعية الدينية والخيار الديمقراطي السلمي.

وأخيرا

إن الأجواء التي تعيشها البلاد في هذه الأيام تدل على بداية الفشل المحتوم للحكومة الأولى في ظل التناوب، والتي بدأ معها التفكير في سيناريو سياسي بديل يحافظ على المسار التناوبي، ويحقق السلم الاجتماعي.

وباستحضار ما سبق واستبصارا لما سيأتي فإننا سنكون أمام أحد شكلين، كل منهما يقع في إطار معين:

« الأول: شكل الإصلاح في إطار سياسة التوتر والتوجس: بحيث سيفرض هذا الخيار الاستمرار في سياسة التعامل مع الحركة الإسلامية كطرف يجب احتواؤه مع عزله عن مشروعه، مع دعم عوامل إضعافه حتى لا يخلخل التوازن السياسي العام.

الثاني: شكل التغيير في إطار سياسة العلاقة المشتركة: إذ سيفضي هذا الخيار إلى تعديل سياسة التعامل مع الحركة الإسلامية، بالاعتراف بها كطرف طبيعي ورفع الحظر السياسي والقانوني على كل مكوناتها. وبذلك سيفسح المجال واسعا لقيام تحالف وطني تاريخي بين مكونات إسلامية ووطنية. وسيكون أمام هذا التحالف: إما الدخول مباشرة في تشكيل حكومة التناوب الثانية، في حالة ما إذا استطاع ـ هذا التحالف ـ تنظيم أوراقه،  أو قد يشكل كتلة معارضة قوية لحكومة تكنوقراطية أو مختلطة ستقوم في انتظار تهيؤ هذا التحالف الجديد من تنظيم نفسه، وإن غدا لناظره قريب.

(إن أريد الا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب). اهـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش الجزء الثاني:

1 ـ انظر ندوة: إشكالية انتقال الملك في المغرب، قضايا وأسئلة، التي نظمتها وجهة نظر، ونشرت أعمالها في عددها المزدوج 8 و  9السنة الثالثة: 2000.

   2 ـ انظر مقال: قراءة نقدية لأطروحة أنجلو ـ ساكسونية للأستاذ محمد الخلفي في الرد على دراسة “جان ماري دييب” حول الحركة الإسلامية بالمغرب، وذلك في مجلة “وجهة نظر” العدد الرابع صيف 1999.

   3 ـ انظر كتاب “العدل: الإسلاميون والحكم” للأستاذ عبد السلام ياسين.

4 ـ جريدة الجسر، العدد 57، بتاريخ أكتوبر 1999.

5 ـ ورد ذلك التعليل على لسان كل من نادية ياسين وفتح الله أرسلان في حوارين مختلفين.

6 ـ انظر كتاب: الحركة الإسلامية بين الثقافي والسياسي، ص 67، للأستاذ محمد يتيم، حين حديثه عن: من أجل رؤية سياسية إسلامية تاريخية.

7 ـ انظر جريدة: “الصحيفة” العدد: 95 بتاريخ 28 يوليوز 2000 في موضوع: التوحيد والإصلاح تناقش مفهوم القداسة في الدستور، للأستاذ أنس مزور.

8 ـ انظر مقال: “حوار هادئ حول موضوع ساخن” على هامش جواب وزير الداخلية (أحمد الميداوي) عن سؤال فريق العدالة والتنمية بشأن العري والتفسخ في الشواطئ، للأستاذ محمد يتيم، في جريدة “التجديد” العدد 91 بتاريخ 9 غشت 2000.

9 ـ راجع الكلمة الملكية التوجيهية أثناء تنصيب المجلس العلمي الأعلى  والمجالس العلمية الإقليمية بتاريخ 18 رمضان 1421

*ـ تم استدعاء السيد أحمد الريسوني في رمضان 1420 حيث ألقى درسا حول مقاصد الشريعة الإسلامية في حين لم يلق أي درس في رمضان 1421 رغم استدعائه.

ماهر الملاخ

ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى