الصورةالسياسةالسيميائياتتجلي الحريةعلم العلاماتمن اختيارناموقعنا

قراءة سيميائية في التواصل السياسي

تحليل لخطاب رئيس مخلوع

-بشار الأسد نموذجا-

بعد تسعة أيام على هروب الرئيس المخلوع بشار الأسد، نُشرت رسالة باسم الرئاسة السورية، اليوم 16 ديسمبر 2024، على حساب منصة تلغرام “رئاسة الجمهورية السورية”، بعنوان: “تصريح للرئيس بشار الأسد حول ظروف خروجه من سوريا”.

من منظور سيميائي، يمكن تصنيف هذه الرسالة، ضمن إطار “خطاب الأزمة”، وهو نمط من الخطاب السياسي الذي يظهر في فترات السقوط أو الانهيار السياسي والعسكري. هذا النوع من الخطاب، يحمل خصائص وظيفية ودلالية محددة، تهدف إلى إعادة تشكيل الإدراك الجماعي للواقع الجديد، سواء عبر التبرير أو الدفاع عن الذات، أو محاولة استعادة الشرعية.

وهنا، سنحاول تقديم قراءة سيميائية سريعة لخطاب بشار المكتوب، بمحاولة تفكيك عناصر النص (الدوال والمدلولات)، وفحص الرموز والعلامات المستخدمة في الخطاب، وصولًا إلى كشف الدلالات العميقة التي يحاول النص إيصالها أو إخفاءها.

  1. العنوان والزمان والمكان:

إن اختيار كلمة “تصريح” بدلاً من “خطاب” يرمز إلى محاولة التخفيف من أهمية الحدث وكأنه مجرد توضيح موقف، في حين أن الحقيقة هي انهيار سياسي وعسكري كبير. وهي محاولة غير موفقة للتهوين من واقع الأمر، ويعطي انطباعا بكون صاحب الخطاب مفصول تماما عن الواقع.

فمن خلال اختيار المكان (موسكو)، كمنطلق للرسالة، يحمل دلالة رمزية قوية، من جهتين:

  • التأكيد على الارتباط المصيري لصاحب الخطاب (بشار) بالحليف الروسي، مما يؤكد ارتهانه السياسي والعسكري لروسيا، وهو ما يضطر بالهدف النهائي للخطاب نفسه.
  • محاولة استخدام المكان كرمز، لإعادة إظهار نوع من القوة المستعارة بعد السقوط. وهو ما يكرس المعضلة السابقة.

وأما من خلال اختيار الزمان، فإن تأخير إصدار الرسالة حتى 16 ديسمبر بعد سقوط نظامه في 8 ديسمبر، يبرز ترددًا أو حاجة للمراجعة والتهيئة، مما يعكس حالة من الاضطراب يعيشها.

2. العلامات اللغوية والدلالات الأساسية

يحاول صاحب الخطاب، من خلال العلامات اللغوية، أن يوصل أربع دلالات:

  • دلالة الثبات والصمود:

فهو يستخدم كلمات تنتمي إلى معجم المقاومة والنضال، خاصة مثل “الأمانة” و”التضحية” و”الثبات”.. هادفا إلى تثبيت صورة الرئيس القائد المقاوم، غير متخلٍّ عن دوره.

ويدل ذلك على محاولة استعادة الشرعية والولاء العاطفي من الجمهور، بعد الخسارة العسكرية.

  • دلالة الانسحاب التكتيكي:

وقد استخدم كلمة “انسحاب” بدل “هروب”، محاولة من صاحب الخطاب إعادة تشكيل الإدراك الجمعي للهزيمة. وهي لغة خطابية تُعطي الفشل العسكري معنى إيجابيًا بربطه بـ “التكتيك”، وهي محاولة لتجميل الواقع.

  • دلالة المؤامرة والعدو الخارجي:

استخدام صاحب الخطاب لإشارات ضمنية إلى العدو الخارجي، تلميحات عن دعم دولي للثوار، يدل على توظيف استراتيجية وضع الضحية، لتبرير الهزيمة، وتحميلها لقوى خارجية بدلاً من المسؤولية الذاتية.

  • دلالة غياب النداء المباشر للشعب:

مما قد يكون مفاجئا، أن صاحب الخطاب لم يلجأ إلى عبارات من قبي: “أيها الشعب” أو “يا أبناء سوريا”، وهو أسلوب شائع في خطابات بشار السابقة. وهو ما يعكس فقدانًا للثقة بقاعدة الدعم التقليدية، أو إدراكًا منه بانهيار سلطته الرمزية.

3. اللغة: الدال والمدلول:

على مستوى اللغة، يمكن أن نسجل ملمحين اثنين:

  • لغة الهدوء والرتابة:

إذ هناك غياب للنبرة التصعيدية، أو التحدي التقليدي المعروف عن بشار، مما يدل على نوع من عدم الرغبة في استفزاز أي طرف، كما أنها محاولة لتهدئة الوضع بعد حالة السقوط. وهو اعتراف ضمني بفقدان السيطرة، وإن حاول نفيه بشكل مباشر.

  • لغة التجريد والغموض:

لقد استخدم صاحب الخطاب، لغة تعميمية، مثل “المعركة” و”الأمانة”، دون تحديد خطوات ملموسة. وهو نوع من التجريد للغة من أي تفاصيل، ليعكس قدرا من العجز عن تقديم أي رؤية مستقبلية واضحة للوضع.

4. الرمزية في الغياب البصري:

إن اختيار النص المكتوب بدل الظهور المصوّر، يحمل ثلاث دلالات عميقة:

  • الغياب الجسدي:

فعياب صاحب الخطاب عن الصورة، يُؤكد التراجع الرمزي للسلطة. وفي السيميائيات، يعتبر الظهور البصري معزّزا لحضور السلطة، بينما الغياب يعني “فقدان الحضور”.

  • استعارة القوة:

إن إصدار التصريح من العاصمة موسكو، يضع صاحب الخطاب في ظل روسيا، وكأنه يستعير القوة الرمزية للحليف. وهو تصريح مباشر بالارتهان بالغير.

  • إخفاء الحقيقة:

إن تجنّب الكاميرا قد يخفي حالة الضعف النفسي أو الجسدي، والتي قد تعزز إدراك الجمهور لحقيقة “الهزيمة” التي تلبست بصاحب الخطاب.

5. الخطاب كإعادة تشكيل للواقع:

تُظهر السيميائيات أن النص يهدف غالبا إلى إعادة إنتاج الواقع، وهو ما يحاوله هذا النص، من خلال ثلاثة مدلولات:

  • محاولة تحويل الهزيمة إلى “انسحاب تكتيكي”.
  • محاولة إظهار تصوير خروجه كـ “قرار مسؤول” وليس نتيجة انهيار فعلي.
  • محاولة تعويم الشرعية، من خلال كلمات عاطفية مثل “الأمانة” و”التضحية”، رغم انفصال هذه اللغة عن الواقع الجديد.

الاستنتاج السيميائي

ينطوي هذا الخطاب على ما يلي:

  1. تناقضات رمزية بين الدلالات المعلنة، مثل “الصمود”، والدلالات الضمنية، مثل “الاعتراف بالهزيمة”.
  2. غياب الصورة يكشف ضعف الحضور الرمزي لصاحب الخطاب، مقابل محاولة تجميل الواقع بالكلمات.
  3. يوظف النص رموزًا كلاسيكية، مثل: “المؤامرة والتضحية والأمانة”، غير أنها قد أصبحت مستهلكة وغير قادرة على إنتاج المعنى الذي يسعى صاحب الخطاب لإيصاله.

في النهاية، تُظهر القراءة السيميائية، أن الخطاب هو محاولة غير موفقة، لإعادة بناء سلطة مفقودة، من خلال الرموز والكلمات، لكنه يعاني من فجوة دلالية بين المضمون والواقع الفعلي.

صورة رسالة بشار:

ماهر الملاخ

ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى