الشهودالعمرانالعمران المعنويالفلسفة والتاريخالقيمتجلي الحريةمن اختيارناموقعنا

فلسطين واحتمالات الانتصار.. لإرادة التحرير على بنية الاحتلال

-انتصارات الدم على السيف-

بقلم: ماهر الملاخ

بين المعنى والسيف… من يملك النصر؟

في الأزمنة التي تختلط فيها الهزيمة بالصمت، ويُعاد تعريف الحق وفق موازين السلاح لا موازين القيم، يبدو السؤال عن “انتصار إرادة التحرير على بنية الاحتلال” وكأنه حلم رومانسي، وأمل عاطفي غير واقعي. لكن الحقيقة التاريخية قد تجلي على غير ذلك: فالتاريخ يعلمنا أن النصر لا يُقاس بما يقع على الأرض فقط، بل بما يصمد في الوعي، وما يتسلل إلى الذاكرة، وما يغيّر بنية العالم من طرف خفي.

يُبنى الاحتلال على سردية أن وجوده “ضروري” و“أخلاقي”، وأن مقاومته “خطر” و“إرهاب”. وفي مقابله تقوم إرادة التحرير على إدراك متجذر، بأن الوجود المقموع ليس وجودًا فائضًا، بل نقيضًا ضروريًا للباطل، وتنشأ في الظلال، حتى تُربك المركز. وتنطلق في الهوامش، لتصل إلى تفكيك الشرعية المزيفة من قواعدها.

لقد سقطت الإمبراطوريات دائمًا حين اهتز المعنى الذي يبرّرها، لا فقط حين فقدت السيطرة: فقد كانت الإمبراطورية البريطانية في أوجها، حينما بدأ المهاتما غاندي صومه الصامت، لا حربه الصاخبة. والنظام العنصري في جنوب إفريقيا لم يسقط حين تحقق توازن القوة بينه وبين المقاومة، بل حين صار صوت نيلسون مانديلا من السجن أعلى بكثير، من صوت بنادق بوغوتا في الشوارع.

وحينما نتأمل ذروة التفوق العسكري الصهيوني اليوم، يمكننا أن نلاحظ بسهولة، تآكله الأخلاقي السريع، وانكشافه الرمزي المريع، وتناقضه القيمي المفضوح، أمام ضمير شعوب العالم.

من هنا، لا يصح أن يُطرح السؤال: هل يمكن لإرادة التحرير أن تنتصر على بنية الاحتلال؟ بل ينبغي أن يُعاد صياغته ليصبح: كيف يمكن لإرادة المعنى أن تنتصر على بُنية السيف؟ وكيف يتفكك النظام المتدثر بالشرعية المزيفة حين تتخلى الضحية عن خوفها وخنوعها واستسلامها أمام الاحتلال.

هذا المقال لا يقدّم إجابات نهائية، بل يفتح ممشىً فلسفيًا بين أطلال القوة وأطياف الحرية، مستندًا إلى وقائع التاريخ، وتجارب الشعوب، والحدس العميق بأن النصر يبدأ حين يُنتزع من اللغة، لا فقط من الأرض.

فلسطين… إرادة المعنى في وجه بنية السيف:

في عالم تُشرعن فيه القوة باسم “الأمن”، ويُجرَّم فيه الدفاع عن الذات تحت لافتة “الإرهاب”، تبقى فلسطين الاختبار الأوضح لمدى صدق مفاهيم العدل والشرعية في النظام العالمي المعاصر. فالفلسطيني، منذ نكبته الأولى، لم يُواجه الاحتلال بضعفه فقط، بل بصبره، ولم يُجابه الجرافة بالبكاء فقط، بل بالحديد والنار أيضًا. لقد عرفت فلسطين المقاومة بكل أشكالها الممكنة: من الكلمة إلى الحجر إلى الكفاح المسلح إلى الذاكرة الحية.

ولعل ما يجب تأكيده منذ البدء، أن المقاومة المسلحة للفلسطينيين ليست خيارًا طارئًا، بل فعلًا مشروعًا تؤيده الشرائع الدولية نفسها. فقرار الأمم المتحدة رقم 37/43 (1982) – وغيره من قرارات لاحقة – ينص صراحة على “حق الشعوب الخاضعة للاحتلال الأجنبي أو السيطرة الاستعمارية في الكفاح بجميع الوسائل المتاحة، بما فيها الكفاح المسلح.”

إن الشرعية هنا لا تمنحها الرغبة، بل يُنتجها الظلم المتراكم حين تغلق كل الطرق أمام العدالة. ومع ذلك، فإن جوهر الصراع الفلسطيني–الصهيوني لا يُختزل في بندقية أو منصة تفاوض، بل في البنية العميقة للشرعية. فبينما تبني الصهيونية كيانها على هندسة قانونية وسياسية ودعائية كثيفة، يستمر الفلسطيني في إنتاج شرعيته من جراحه، من صموده، من مقاومته، من معناه.

لقد ظل الفلسطيني، رغم المجازر والشتات والحصار، قادرًا على إعادة تشكيل ذاته كصاحب حق، لا كضحية متوسلة. في مخيمات اللجوء، في سجون الاحتلال، في شوارع جنين، في أنفاق غزة، وفي المنفى البعيد… ظل يدافع بالسلاح حين لا صوت يُسمع، ويبدع بالرمز حين يُصادر الكلام، ويُقاوم بالبقاء حين يُجتثّ الوجود.

إن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد ثنائية “معنى أو بندقية”، بل هي توليفة تاريخية يقاوم فيها الشعب بالسيف حين يجب، وبالقصيدة حين تزفّ البندقية والشهيد، وبالزمن حين يُختزل الحاضر لصالح المعتدي.

وإنه ليس من قبيل الصدفة أن يكون أكثر ما يُرعب الكيان الصهيوني اليوم ليس فقط الصواريخ النافذة في عمق كيانه الهش، بل الفتى الذي يرفع حجرًا، واللاجئ الذي يستعصي على نسيان عنوان بيته في حيفا، أو المسعف الذي يُنشِد وهو تحت القصف: “سوف نبقى هنا… كي يزول الألم.”

من هنا، لا تُفهم فلسطين كقضية سياسية عادية، بل كحقل فلسفي مفتوح لفهم العلاقة بين الشرعية والشرط التاريخي، بين الكفاح والمعنى، بين سيف يُشهر دفاعًا، وبنية احتلال تذوب تحت ضغط المقاومة ووضوح الحق.

شرعية الإرادة… بين السيف والمعنى:

منذ أن وُلد الكيان الصهيوني في قلب الجغرافيا الفلسطينية، لم يكن احتلال الأرض مجرد فعل مادي، بل إعادة تعريف شرعية الوجود على أساس الغلبة. لقد سعت الصهيونية إلى أن تُقنع العالم أن تأسيس كيانها الاستيطاني هو “تعبير تاريخي عن العدالة”، بينما تُحوّل الفلسطيني إلى شبح خارج التاريخ، مطلوب منه فقط أن يفاوض على ما تبقّى من أنفاسه.

غير أن الفلسطيني، منذ اللحظة الأولى، لم يُسلم بالصيغة الاستعمارية للشرعية. فقد رفض أن يكون مجرد موضوع إنساني لشفقة الأمم، أو متفرجًا في مسرح العدوان. فجاء الرد عبر فعل مركّب: بالمواجهة المسلحة حين أُغلقت السُبل، وبالمعنى حين جُرِّدت الحقيقة من منصاتها.

إن شرعية المقاومة الفلسطينية ليست محل سجال فلسفي، بل حقيقة قانونية منصوص عليها في الميثاق الأممي، ومؤيدة في قرارات لا تُعدّ، بل إنها واحدة من أشكال إرادة التحرير حين يُمنَع الوصول إلى التحرر بالوسائل السياسية.

ومع ذلك، فالمقاومة لم تكن بندقية فقط. لقد فهم الفلسطيني مبكرًا أن العدو لا يحتل الأرض فحسب، بل يحتل أيضًا اللغة، والذاكرة، وحق تعريف “المجرم” و”الضحية”. ولهذا كانت الإرادة الفلسطينية تحفر شرعيتها في المعاني بقدر ما كانت تقاتل على الأرض.

ولعل المفارقة الكبرى، أن ما يعتبره الاحتلال “جرائم إرهاب” هو ما يؤسس في الوعي الكوني لفلسطينيتها الحقيقية. فالفتى الذي يحمل الحجر لا يُطالب فقط باستعادة أرضه، بل بإعادة تعريف الشرعية التي نزعتها عنه قوى الاحتلال والتواطؤ.

بين الاعتراف القسري والشرعية الجوهرية:

لقد أفلحت الصهيونية في انتزاع “الاعتراف الدولي”، أو بالأحرى لقد منحتها بنية النظام العالمي الشرعية القانونية، لتوظفه ضمن المحور المركزي لهيمنته على العالم العربي والإسلامي.. غير أن ما فشل فيه ذلك النظام، منذ أكثر من سبع وسبعين سنة، لكنها لم تُنتج أبدا “شرعية أخلاقية”. والفلسطيني، وإن حُرِم من الاعتراف الكامل، إلا أنه راكم شرعيته من خلال الصمود، والمقاومة، والعدالة المكشوفة. فكما قال المفكر إدوارد سعيد: “الفلسطينيون قد يُهزمون عسكريًا، لكنهم لا يزالون ينتصرون أخلاقيًا، لأنهم يُعبّرون عن ضمير العالم الصامت.”

لقد دلت الوقائع وأطوار الصراع المرير مع العدو الصهيوني، أن الشرعية لا تُمنح من مجلس الأمن، بل تُصنع حين تتقاطع إرادة المعنى مع إرادة القتال. والفلسطيني، في مقاومته اليوم، لم يطلب اعترافًا من أعدائه، بل فرض على العالم أن يرى احتلالًا لا يمكن تجميله، وشعبًا لا يمكن شطبه.

زخم المعنى في مقابل ثقل البنية:

حين قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش: “الهوية هي ما لا نُفكر فيه حين نكون، وما لا ننساه حين يُراد لنا ألا نكون.” فهو لخص جوهر زخم المعنى: أن تكون، لا لأنك أقوى، بل لأنك أصدق. إنها قانون انتقاء طبيعي، لا يعرف له داروين له سبيلا. هذه “الكتابة تحت النار” هي ما يُربك البنية، لأن المعنى الصادق لا يُحاكى، ولا يُشترى، ولا يُخضع للعلاقات العامة. الاحتلال يُنتج البنية ليثقل الوجود، أما التحرير فيُنتج المعنى ليُربك الثقل. والبنية قد تُرهب، وقد تدمِّر، لكنها لا تُقنع ولا تجتثّ، بينما المعنى قد لا يُسمع دائمًا، لكنه لا يُمحى أبدًا.

الاحتلال لا يحكم بالسلاح وحده، بل بـ”الثقل” أيضًا، ثقل البنية، والمؤسسات، والقوانين، والخرائط، والنصوص الدولية التي تُعيد إنتاجه كواقع مشروع. هو لا يغزو فقط، بل يجثم: يُراكم بنى السلطة، ويُهندس المعاني، ويُنتج خطابًا يجعل من وجوده “ضرورة” ومن مقاوميه “تهديدًا للسلم العالمي”.

في المقابل، لم تبدأ المقاومة الفلسطينية من جيش نظامي، ولا من مؤسسة أممية، بل من الفراغ الحارق للشرعية، ومن إدراك جمعي بأن الاحتلال لا يُقاوم فقط بالقوة، بل بكشف زيف شرعيته، وفضح سرديته، وتفكيك رموزه.

ولهذا، جاءت المقاومة الفلسطينية متعددة الوجوه: بندقية تُقاتل في جنين، وصاروخ يُطلَق من غزة، وقصيدة تُنشد في مخيم، ومفتاح يُرفع في مظاهرة، وطفل يُرشق بحجر في ساحة مسجد، وأسير يُضرب عن الطعام ببدنه العاري.

هذه كلها ليست “أشكال تعبير” فحسب، بل أسلحة وجودية تُربك بنية الاحتلال لأنها تجعله دائم التبرير، دائم الدفاع، دائم التشكيك في شرعيته، رغم امتلاكه كل أدوات الفرض.

لقد بنت الصهيونية روايتها على سردية تقنية مدعومة بوثائق ودبلوماسية وشبكات تأثير عالمي. أما الفلسطيني، فواجهها بكل ما لا يُؤرشف: بالحنين وبالرموز وبالأغاني وبالملامح وبالإصرار على أن المحتل، مهما تدثّر بالقانون، يبقى غريبًا.

إن معنى المعنى الفلسطيني أنه لا يستسلم لبنية الاحتلال لا بالسلاح ولا باللغة. فهو لا يكتفي بالمواجهة العسكرية، بل يقاوم الاحتلال في قدرته على احتلال اللغة، والسيطرة على الذاكرة، وتطبيع الجريمة.

كيف يشتغل زخم المعنى والإرادة؟

لا يحتاج المعنى إلى تمويل، بل إلى ذاكرة، ولا يحتاج إلى مؤسسة، بل إلى حضور داخلي يُربك استقرار المعتدي. كما لا يحتاج إلى خطاب سياسي بالضرورة، بل إلى نَفَس تأويلي طويل يُفسد شرعية اللحظة. ولهذا، يخاف الاحتلال من اللافتة الصغيرة على جدار المخيم، كما يخاف من صاروخ يُطلق من زنزانة تحت الأرض. لأنه يعرف أن كل هذه الأفعال، مهما تباينت، تنبع من جذر واحد: رفض الهيمنة وتفكيك البنية.

إن المعنى لا يُلغي المقاومة المسلحة، بل يُعمّق مشروعيتها. وحين يلتقي السيف بالذاكرة، فإن الاحتلال، رغم سطوته، يُصبح كثيفًا لكن هشًّا، حاضرًا لكن مهددًا، ظاهرًا لكن مكشوفًا. ولا غرابة في أن يستهدف الاحتلال تلك الرموز والمعاني، إما مباشرة بالقمع والمنع، أو بمحاولات الاستخفاف بسطوتها وجبروتها.  

مظاهر انهيار الاحتلال من الداخل:

ليست الهزيمة دائمًا سقوطًا مدوّيًا، ولا تَعلُق دائمًا براية تُنتزع أو حدود تُخترق. ففي كثير من الأحيان، تبدأ الهزيمة في الداخل، حين يفقد المعتدي يقينه، وتضطرب سكينته، وتبدأ منظومته في التآكل الذاتي.

فالاحتلال الصهيوني اليوم، رغم تفوقه العسكري والاستخباراتي، يعيش اليوم هشاشة داخلية غير مسبوقة. ليست هشاشة عسكرية، بل أخلاقية وسردية ووجودية. فكلما ازداد بطشًا، ازداد اضطرارًا إلى التبرير؛ وكلما توسّع، ازداد اغترابًا عن الأرض والمعنى.

وتظهر هذه الهشاشة من خلال المظاهر التالية:

  • ظاهرة تضخم الحاجة إلى التبرير: فالاحتلال الذي كان يتصرف دون تفسير، بات يُصدر بيانات، ويرافق قصفه بمؤتمرات صحفية، ويشرح للعالم لماذا قتل أطفالًا أو دمّر مستشفى. وهذا بذاته علامة اضطراب: حين تضطر القوة لتبرير وجودها مرارًا، فإنها تعترف ضمنًا أن وجودها محل شك.
  • ظاهرة استنزاف الخطاب أمام مقاومة لا تموت: فعشرات العمليات البطولية، والاشتباكات في الضفة، وصواريخ غزة، تجبر العدو على الاعتراف بأن المشكلة ليست أمنية، بل وجودية. لقد باتت الرواية الصهيونية تكرر نفسها وتفقد أثرها حتى في أوساط داعميها.
  • ظاهرة فقدان السيطرة على صورته في الوعي العالمي: فمن جنوب إفريقيا إلى أيرلندا إلى كندا، تنقلب المزاجات الشعبية تدريجيًا: الصورة التي كانت تُرسم لإسرائيل كدولة “صغيرة محاصَرة” تتهاوى لصالح صورة “القوة الغاشمة”. وهذا التآكل في الصورة، هو جزء من الهزيمة الداخلية البطيئة.
  • ظاهرة تصاعد الذعر الوجودي داخل مؤسسات الاحتلال: لا يكاد يخلو خطاب سياسي أو عسكري إسرائيلي اليوم من تحذير من “تفكك داخلي” أو “حرب أهلية” أو “سقوط المشروع”. وهي إشارات تدل على أن الاحتلال لم يعد يُقاتل فقط المقاومة، بل يُقاتل صورته أمام نفسه. لذلك قال فرانتز فانون: “حين يبدأ المستعمِر في تقليد لغة الضحية، فهو يعلن بداية هزيمته.. والثورة لا تُسرّع التاريخ فقط، بل تُستعاد من خلال لحظات كثيفة من الذاكرة التي تقاوم النسيان.”

 وهذا ما يحصل: الاحتلال الصهيوني يتحدث عن المعاناة، والحق، والقلق، وكأنه يريد أن يُلبس نفسه جلد الضحية، لا لأنه بات ضحية فعلاً، بل لأنه فقد القدرة على الإقناع كسيد. إن الاحتلال يبدأ في السقوط لا حين يُهزَم عسكريًا فقط، بل حين يُجبَر على شرح نفسه… وحين يتكرر دفاعه أكثر من تكرار هجومه، يكون قد دخل طور الانهيار الرمزي.

وبذلك، يمر سقوط الاحتلال من ثلاثة مراحل:

  • من التحصين إلى التبرير: فالاحتلال الذي كان يُمارَس دون تردد، بات يُدار بمنطق الدفاع الإعلامي، وكأن العالم بات يُشاهده من خلف مرآة مهشّمة. ومن عمليات صامتة في الخفاء، إلى عمليات تُبرَّر قبل أن تُنفَّذ.
  • من الهيبة إلى القلق الوجودي: فالنخبة الصهيونية لم تعد تناقش فقط حدود القوة، بل إمكان زوال الكيان ذاته. ويمتلئ الخطاب الداخلي امتلأ بسؤال: “ماذا لو فشل المشروع؟”، وهو سؤال لم يكن مطروحًا في السابق إلا على خصومه.
  • من احتلال الأرض إلى محاولة احتلال الوعي: فالفشل في قمع المقاومة في غزة والضفة والشتات، دفع إسرائيل إلى الهجوم على المناهج، والرموز، والمفردات، وحتى الروايات. وهو ما يعني أن السيطرة المادية لم تعد كافية، وأنها بدأت تخشى ما لا يُقمع: المعنى.

قانون النصر الكامن المتراكم:

في الحروب التقليدية، يُقاس النصر بانهيار العدو، أو انسحاب قواته، أو رفع راية المنتصر فوق ركام المعركة.
لكن في الصراع الفلسطيني–الصهيوني، حيث يمتد الزمن، ويتداخل السلاح بالرمز، والمأساة بالأمل، يتجاوز النصر تعريفه العسكري المباشر، ليصبح فعلًا تراكميًا يتشكّل في الوعي، ويتجذر في الزمن، ويتكثف في المعنى، وليتمثل في صفة “النصر المتراكم للمقاوم، المفضي إلى السقوط المتداعي للعدو”.

فمن ينتظر أن يحقق الفلسطيني نصرًا عسكريًا حاسما باهرا، فهو ينتظر مشهدا لم يتحقق في التاريخ أبدا، لأن المقاوم يحقق النتصاره على المحتل، لا بالمناجزة، ولكن بالمطاولة، ليحقق النصر الكامن المتراكم.

فما هو “النصر المتراكم”؟

إنه ذلك النصر الذي لا يُذاع في نشرات الأخبار، بل يُروى في قصائد الأسرى، ويُوشى على اكفان الشهداء، ويُكتب بدماء الجرحى على جدران النزوح. إنه حين لا يُهزم الفلسطيني رغم موازين القوى، ولا يستسلم رغم اختلال الدعم، ولا يندثر رغم عقود التشريد. فالنصر الكامن هو حين يُدرك العدو أنه لا يواجه مقاومة مؤقتة، بل مشروع بقاء متجذر في الأرض والضمير.

ومن تجليات النصر الكامن المتراكم ما يلي:

  • التراجع السياسي والمعنوي للعدو سياسيًا دون معركة مباشرة:

يحدث هذا عندما يُجبر الاحتلال على تعديل سلوكه أو تغيير قراراته تحت ضغط المقاومة غير المباشرة: شعبية، إعلامية، رمزية، أو قانونية، دون أن يخسر في معركة ميدانية. مثل انسحاب الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000 دون اتفاق سلام أو تسوية، بل تحت ضغط مقاومة مستمرة استنزفت شرعيته وأربكت حساباته. وإلغاء “مسيرة الأعلام” في القدس أو تغيير مسارها عدة مرات خوفًا من انفجار الغضب الفلسطيني، كما حدث في مايو 2021 و2022، رغم أن الاحتلال هو المسيطر ميدانيًا. وتجميد مشروع قانون الطرد الجماعي لعائلات الأسرى أو تهويد التعليم، بعد حملات إعلامية وضغوط رمزية ومواقف أوروبية أو أممية.

  • فشل محاولات التطبيع مع الاحتلال في الضمير الشعبي:

فالنصر هنا ليس في إفشال الاتفاقيات، بل في فشل أثرها النفسي والسياسي على وجدان الشعوب، بحيث تظل فلسطين قضية حيّة رغم كل محاولات “التبريد”.. فرغم توقيع اتفاقيات “أبراهام” (2020)، فإن استطلاعات الرأي في المغرب وتونس وقطر والأردن والكويت والجزائر تظهر رفضًا شعبيًا واسعًا للتطبيع ودعمًا قويًا للقضية الفلسطينية. وانسحاب رياضيين عرب من مباريات ضد لاعبين إسرائيليين، رغم التهديد بالعقوبات، لأن الشعور الشعبي أقوى من التعليمات الرسمية. والرفض الشعبي الواسع للمهرجانات الثقافية المشتركة مع إسرائيل، حتى في دول مطبّعة، وهو ما دفع كثيرًا من الفنانين العرب والعالميين للمقاطعة الطوعية.

  • التصنيف السلبي العالمي المستمر للمحتل:

فرغم ما تملكه إسرائيل من تحالفات دولية ونفوذ سياسي وإعلامي رهيب، بدأ العالم يشهد تحوّلًا في الرؤية الأخلاقية نحوها، ولم يعد “سردها الأمني” كافيًا لتبرير ممارساتها: مثل صدور تقارير رسمية من منظمات دولية محترمة، كتقرير هيومان رايتس ووتش Human Rights Watch (2021)  بعنوان: “عتبة الفصل العنصري: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد”.، وتقرير منظمة العفو الدولية Amnesty (2022) التي أعلنت صراحة أن إسرائيل تمارس “نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين”.. وتبنّي مؤسسات أكاديمية غربية لحملات مقاطعة أكاديمية وثقافية (BDS) بسبب ممارسات الاحتلال. وإدانات شخصيات فكرية وفنية بارزة (مثل روجر ووترز، ونعوم تشومسكي، وجوديث بتلر) للكيان بوصفه استعمارًا عنصريًا لا ديمقراطية محاصَرة.

  • تحول عواصم الصمود والمقاومة إلى رموز للحق والعدل والكرامة:

فرغم الحصار والدمار والظروف المعيشية القاسية، تحولت غزة من صورة للبؤس الإنساني إلى رمز للصمود العالمي، يستحضره الأحرار في كل القارات: فلقد أصبحت شعارات مثل “كلنا غزة”  تتردّد في احتجاجات في نيويورك ولندن وكيب تاون وكوالالمبور وسانتياغو.. واستخدام اسم “غزة” كرمز في ثقافات متعددة، مثل: إطلاق أسماء “غزة” على أبناء، وشوارع، ومقاهي، ومراكز طبية. وإبداع آلاف القصائد والأغاني والمقالات التي تُستلهم من غزة رمزيةَ التحدي والبقاء. بل حتى في الخطاب الصهيوني أصبحت غزة “مأزقًا رمزيًا”، لا يستطيع الاحتلال إخضاعها ولا إسكات رمزيتها.

إن النصر المتراكم لا يُقاس بخرائط أو معاهدات، بل بانحناء السردية، واضطراب الجلاد، واستعصاء الضحية على النسيان. وحين تُنتزع هذه المكاسب دون حرب مفتوحة، فهذا دليل على أن إرادة المقاومة بدأت تتجاوز حدود الميدان لتحتل موقعًا ثابتًا في الوعي العالمي. ولقد كتب غسان كنفاني: سابقا: ليس المهم أن يموت الإنسان، بل أن تُحفظ القضية حيّة.” لكن الفلسطيني فعل ما هو أعظم: لقد حافظ على القضية حيّة، وبقي حيًا معها، يقاتل، ويكتب، ويحب، ويُنجِب، ويستعيد اسمه كل صباح. لذلك يقول المفكر الفرنسي إتيان دي لا بويسي: “حين يتوقف الخاضع عن الاعتقاد بأن القوة شرعية، تبدأ إمبراطورية القوة في الانهيار.” وفي فلسطين، هذا التوقف عن “التصديق” قد بدأ منذ زمن. والجيل الجديد، المولود تحت الاحتلال، لا يطلب إذنًا ليؤمن بأنه على حق.

وهنا تُولد فلسفة النصر الكامن: أن تنتصر دون أن يُعلن عنك المنتصرون، وأن تبقى حين أراد لك العالم أن تُمحى، وأن تكتب التاريخ من قاع الهزيمة كمنجم يُنبت فيه المعنى. إن النصر ليس لحظة انقضاض، بل مسار تأويلي طويل، حين تتراكم فيه الإرادة حتى تُعيد تعريف الواقع. وفي فلسطين، ما هو كامن اليوم، قد يكون هو الشرارة التي تُسقط البنية غدًا… لا لأنها ضعيفة، بل لأنها فقدت معنى بقائها.

حينها.. تنتصر إرادة التحرير على بنية الاحتلال:

ليست القضية الفلسطينية مجرد ملف سياسي مؤجل، ولا مجرد صراع على الأرض والحدود. إنها، في جوهرها، مواجهة وجودية بين من يحتل الأرض باسم المؤسسات، ومن يستعيد الحق باسم المعنى.

ولذلك، فإن الإجابة عن سؤال: هل يمكن لإرادة التحرير أن تنتصر على بنية الاحتلال؟

ليست إجابة تقنية، ولا عسكرية، بل أنطولوجية في عمقها: هل يستطيع الوجود المقموع أن ينتصر على آلة الهيمنة إذا امتلك المعنى، والرمز، والذاكرة، والاتساق الداخلي؟

في الحالة الفلسطينية، رأينا كيف تضعف البنية حين تضطر إلى تبرير نفسها، وحين يتآكل خطابها أمام طفل يحمل حجرًا، أو قصيدة تُتلى في جنازة، أو أغنية تُغنّى في المخيم. ولقد رأينا كيف تفقد “الشرعية المفروضة” قوتها حين تتشقق تحت ضغط المعنى المولود من رحم الألم.

إن الاحتلال ليس فقط جدارًا يُبنى، بل وهم يُصدّق. وحين يتوقف الناس عن تصديقه، يبدأ في الانهيار… حتى لو ظل واقفًا لبعض الوقت. لأن السرديات تموت قبل أن تسقط الجيوش. ولذلك، فإن انتصار إرادة التحرير على بنية الاحتلال، ليس فرضية عاطفية، بل حتمية فلسفية تتكرّر في تاريخ الإنسانية. فكما سقطت الإمبراطوريات، وسقط الأبارتهايد، وسقط جدار برلين، فإن بنية الاحتلال الصهيوني ستسقط… لأنها تقف على رُكام أخلاقي، ولأن الفلسطيني لا يزال يملك ما لا يُشترى: المعنى.

عشر كيفيات تنتصر فيها الإرادة على البنية:

وفيما يلي نختم بعشر كيفيات تحقق بها إرادة التحرير (المعنى) انتصارها على بنية الاحتلال (الهيمنة)، ليس فقط بالرغبة أو الرمزية، بل بآليات تأثير واقعية ومركبة:

  • حين تعيد الضحية تعريف نفسها خارج ثنائية الضعف والشفقة: لأن الاحتلال لا يخاف من الضحية الباكية، بل من الضحية الواعية، التي تعرف أنها على حق… وتقاتل لأجله.
  • حين تُراكم المقاومة رموزها وطقوسها ومعناها الذاتي المستقل عن خطاب العدو: أي حين لا تنتظر تبريرًا، بل تُنتج شرعيتها من داخل تاريخها ولغتها وشهدائها وأسراها.
  • حين يضطر المحتل إلى تفسير أفعاله أكثر مما تُضطر المقاومة إلى تبرير ذاتها: فالاحتلال حين يُبرر، يكون قد دخل منطق الدفاع… والشرعية لا تُدافع عن نفسها، بل تُفترض.
  • حين تُعيد الشعوب الحرة في العالم تعريف العدالة على ضوء القضية الفلسطينية: وتكفّ عن تصديق الرواية الجاهزة للمحتل، فتبدأ في رؤية الفلسطيني ككاشف لمأزق العالم، لا مجرد ملف ضمنه.
  • حين يتحوّل كل قمع إلى صورة توثّق الجريمة لا إلى وسيلة لإخفائها: فكل شهيد يُصور، وكل مجزرة تُوثّق، وكل نكبة تُروى، تصبح عبئًا على البنية، لا دعمًا لجبروتها.
  • حين لا يستطيع الاحتلال إلغاء السؤال الوجودي: “لماذا هو هنا؟: ويصبح وجوده، رغم مؤسساته، لا يجد جوابًا أخلاقيًا أو تاريخيًا مقنعًا أمام الضمير العالمي.
  • حين تبقى فلسطين حيّة في وجدان الأجيال رغم التشريد، والحصار، والتهجير، والتطبيع: ويظل الطفل في المخيم يُعيد تعريف انتمائه دون أن يُدرّس ذلك في كتب رسمية.
  • حين تصير أدوات القهر عاجزة عن اختراق الإرادة الداخلية للفرد الفلسطيني: فالأسير يخرج من السجن أكثر صلابة، والشهيد يُورّث المعنى لا اليأس، والغزاوي ينشد تحت القصف: “سوف نبقى هنا”.
  • حين يُنتج الفلسطيني ميدانًا خارج منطق العدو: “الزمن التأويلي بدل الزمن المؤسسي: فلا ينتصر عبر المؤشرات الظرفية، بل عبر التراكم طويل النفس، الذي لا تستوعبه بنية الاحتلال.
  • حين تتحول فلسطين من “قضية جغرافية” إلى “بوصلة معيارية” لتحديد من يقف مع الإنسان ومن يقف مع الجلاد: وعندها، يصبح الانتصار ليس فقط على الاحتلال، بل على النظام العالمي الذي شرّعه.
  • حين تصنع الإرادة فعلًا يتجاوز حدود الزمن، والمعنى الذي لا يُقصف، والسرد الذي لا يُمحى… فإن البنية، مهما ثقلت، تبدأ بالانهيار من حيث لا تتوقع.

وهو ما نحن بصدد عيش إحدى أهم فصوله، منذ السابع من أكتوبر 2023. وهكذا فإن فلسفة النصر في فلسطين لا تقوم على حدث مستقبلي يُنتظر، بل على حركة دائمة من التراكم الرمزي، من الاحتفاظ بالكرامة رغم المجازر، ومن إعادة خلق المعنى من أنقاض البيوت، ومن أكفان الشهداء، ومن خيم اللاجئين. إن النصر لا يحدث في الزمن فقط، بل يُصنع في الذاكرة، ويتجذّر في الوعي، ويتحوّل إلى زخم لا تقوى عليه الجدران ولا التحالفات.

وإن غدا للمستبشرين به لصادق.

ماهر الملاخ

ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى