تكوين النخب المغربية والتونسية: من القوميين إلى الإسلاميين 1920-2000
(قراءة في كتاب)
للكاتب بيير فيرميرين Pierre Vermeren
1. الكتاب والكاتب:
في اكتوبر 2002، نشر الكاتب الفرنسي بيير فيرميرين Pierre Vermeren ، كتابه: ” تكوين النخب المغربية والتونسية: من القوميين إلى الإسلاميين 1920-2000″ “La formation des élites marocaines et tunisiennes : Des nationalistes aux islamistes 1920-2000. وهو من مواليد 20 يناير 1966 بفردان، مؤرخ فرنسي وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة باريس 1 بانتيون السوربون منذ عام 20121. ومتخصص في المجتمعات المغاربية والعربية البربرية.
وتذكرنا جدية بيير فيرميرين في هذا البحث، بجدية عالم السياسة الأمريكي جون واتربوري، حين كتب بحثه المؤثر: أمير المؤمنين: النخبة السياسية المغربية: دراسة في السياسة الانقسامية” The Commander of the Faithful: the Moroccan Political Elite: –a Study in Segmented Politics، وذلك سنة 1970.
عاش بيير فيرميرين تسع سنوات في مصر والمغرب وتونس، حيث قضى ست سنوات منها مدرسا للتاريخ الاقتصادي والجغرافيا في الصفوف الإعدادية الاقتصادية والتجارية بمدرسة ديكارت الثانوية بالرباط بين سنتي 1996و2002.
بمعنى انه أعد بحثه هذا خلال تلك السنوات التي قضاها مدرسا بالمغرب، وهو نص منقح لرسالة الدكتوراه.
كما أنه عضو في مختبر السوربون والهويات والعلاقات الدولية والحضارات الأوروبية (SIRICE)، كما كان عضوا في معهد العوالم الأفريقية، وهو مدير درجة الماجستير المهنية في التعاون الدولي في أفريقيا. والشرق الأوسط (CIAMO)12، وقد ساعد في تأسيسه في باريس 1 عام 2014، إضافة إلى كونه مديرا مشاركا لمجموعة “مكتبة بلاد الإسلام” في منشورات السوربون. وفي 2020-2021، تم تعيينه ضمن وفد CNRS في IRMC (معهد البحوث حول المغرب المعاصر) في تونس. وهو أيضًا رئيس الجمعية الفرنسية لتاريخ ما وراء البحار (SFHOM)، ومدير المجلس العلمي لمؤسسة ذكرى حرب الجزائر والمعارك في المغرب وتونس (FM-GACMT) ورئيس المجلس العلمي لـ LAIC ( مختبر تحليل الأيديولوجيات المعاصرة).
وهذا النص المنقح من رسالته في الدكتوراة، لذي بين أيدينا، لم يكن هو البحث الوحيد في هذا الاتجاه، فقد سبق له أن كتب سنة 2001، بحثه حول: “المغرب في مرحلة انتقالية”. كما كتب بعد ذلك بحثه حول: “تاريخ المغرب منذ الاستقلال، وذلك سنة 2002. و”المغرب العربي: الديمقراطية مستحيلة” سنة 2004. و”أفكار متلقاة حول المغرب” سنة 2007. و”مغرب محمد السادس، المرحلة الانتقالية غير المكتملة” سنة 2009. و”أفكار متلقاة حول المغرب العربي، سنة 2010. و”بؤس تأريخ “المغرب الكبير” ما بعد الاستعمار (1962-2012) سنة 2012. و “صدمة عمليات إنهاء الاستعمار، من حرب الجزائر إلى الربيع العربي: سنة 2015. و”فرنسا في أرض الإسلام. الإمبراطورية الاستعمارية والأديان، القرنين التاسع عشر والعشرين” سنة 2016. و”تاريخ الجزائر المعاصرة” سنة 2022. و”المغرب في 100 سؤال، مملكة المفارقات” سنة 2020.
إضافة إلى اعمال مشتركة مثل: “تاريخ الشرق الأوسط من الدولة العثمانية إلى يومنا هذا. ما وراء المسألة الشرقية” سنة 2016. و”المنشقون من المغرب العربي منذ الاستقلال”، سنة 2018. و”وضع الإخوان المسلمون في اختبار السلطة. مصر” سنة 2024. و”أفكار متلقاة عن العالم العربي” سنة 2012. و”تاريخ الشرق الأوسط في العصر الحديث” سنة 2015. و”وعد الربيع، تونس 2011-2017″ سنة 2018. و”السياسة والأخويات في المغرب العربي وغرب أفريقيا” سنة سنة 2018. و”كيف يمكنك أن تكون أمازيغيا؟ فقدان الذاكرة” سنة 2022. و”العالم العربي والحرب العالمية الثانية. الحرب، المجتمع، الذاكرة. قصص مشتركة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، سنة 2022. و”الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا – تاريخ الرؤوس – جغرافيا. المدن والمستعمرات، المجتمعات الاستعمارية، من مؤتمر برلين (1884-1885) إلى اتفاقيات إيفيان” سنة 2023. و”من أنقذ الحركيين؟ شهادات ومواد عن تاريخ غير معروف” سنة 2024.
كل ذلك، يدل على أننا بصدد نوعية علمية أكاديمية متخصصة، لها ارتباط عضوي بالفضاء العربيو، والإفريقي والمغاربي، بغض النظر عن خلفيات واتجاهات مدرست التحليلية، التي يمكن ان يتم التحقظ عليها، إلا انها تبقى مفيدة لكل مهتم بشان نهضة هذه المنطقة من العالم.
2. نظرة عامة:
يركز فيرميرين على دراسة تشكل النخب في المغرب وتونس من بداية القرن العشرين حتى عام 2000. يسلط الضوء على تأثير التعليم في تكوين هذه النخب، بدءًا من النخب الوطنية وصولاً إلى النخب الإسلامية.
ويتناول في كتابه، الدور الذي لعبته المدارس خلال فترة الاستعمار وما بعدها في تشكيل النخب، وكيف أسهمت هذه المؤسسات التعليمية في ترسيخ فئات اجتماعية جديدة، وخلق تناقضات بين مسارات التعليم النخبوي والتعليم المخصص للفئات الأقل حظًا. يوضح الكتاب أيضًا تأثير سياسات التعريب وتطور الحركات الإسلامية في المنطقة على هيكل التعليم ونظام النخب.
زهز يغطي أربعة أجيال من النخب، بدءًا من الأجيال التي حصلت على البكالوريا كمدخل للتعليم العالي حتى منتصف القرن العشرين، ثم الانتقال إلى الأجيال التي استفادت من التغييرات السياسية والاجتماعية بعد الاستقلال. يتعمق الكتاب في فهم كيف تأثرت هذه الأجيال بالتحولات السياسية والاجتماعية، بما في ذلك تأثير الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات الاجتماعية.
3. تناقضات مسارات التعليم:
الكتاب يستند إلى مصادر متعددة، بما في ذلك الأرشيفات الفرنسية والمقابلات الشفوية، ويستخدم منهجية تجمع بين التاريخ الاجتماعي وعلم الاجتماع لتحليل كيفية تطور هذه النخب عبر الزمن وتأثيرها على المجتمع المغربي والتونسي.
يتناول الكتاب التناقضات بين مسارات التعليم النخبوي والتعليم المخصص للفئات الأقل حظًا ويبرز بعض المظاهر والنتائج لهذا التباين. وذلك من خلال ما يلي:
1. التناقضات في الفرص التعليمية: يتميز التعليم النخبوي في كل من تونس والمغرب بمسارات تؤدي إلى مناصب ووظائف عالية المستوى، مثل المهندسين والأطباء والاقتصاديين. هذه المسارات غالبًا ما تكون متاحة فقط للطلاب من خلفيات اجتماعية ميسورة، خاصة الذين يمكنهم متابعة تعليمهم في الخارج أو في مؤسسات تعليمية خاصة. من ناحية أخرى، يواجه الطلاب من الطبقات الاجتماعية الفقيرة مسارات تعليمية أقل تأثيرًا، مما يحد من فرصهم في الارتقاء الاجتماعي وتحقيق مناصب مؤثرة【10:1†source】.
2. التمييز على أساس الخلفية الاجتماعية: يظهر الكتاب أن التلاميذ من الخلفيات الفقيرة يواجهون تحديات إضافية مثل التأخر في دخول المدرسة وزيادة معدلات الرسوب، مما يؤدي إلى اختيارات تعليمية أقل جذبًا مثل الأدب مقارنة بالعلوم والاقتصاد التي يفضلها الطلاب من الخلفيات الغنية【10:3†source】.
3. النتائج الاقتصادية والاجتماعية: هذا التباين أدى إلى فجوة كبيرة في سوق العمل، حيث يظل الخريجون من المؤسسات التعليمية النخبوية في فرنسا أو الخارج بشكل عام أقل تأثرًا بالبطالة مقارنة بزملائهم الذين درسوا في المؤسسات المحلية. هذا التفاوت يؤدي إلى تزايد التوترات الاجتماعية والاقتصادية، ويعزز من حالة عدم المساواة داخل المجتمع.
هذه الفوارق تسلط الضوء على التحديات التي يواجهها النظام التعليمي في كل من تونس والمغرب في توفير فرص متساوية للجميع، وهو ما يساهم في تعزيز الفجوة بين النخب والطبقات الأقل حظًا.
4. التعريب وتطور الحركات الإسلامية:
تناول بيير فيرمارن تأثير سياسات التعريب وتطور الحركات الإسلامية على هيكل التعليم ونظام النخب في المغرب وتونس. وذلك من خلال ما يلي:
1. سياسات التعريب:
في المغرب، بدأ التعريب كوسيلة للحد من الهيمنة الثقافية الفرنسية وإعادة تأصيل الهوية الوطنية. من خلال سياسات مثل تعريب المناهج الدراسية، خاصة في المواد الأدبية والتاريخية والفلسفية، سعت السلطات إلى تعزيز اللغة العربية كمكون أساسي في النظام التعليمي. ومع ذلك، لم يتمكن التعريب من الوصول إلى التعليم العالي، مما خلق فجوة كبيرة بين التعليم الأساسي والثانوي من جهة والتعليم العالي من جهة أخرى.
اما في تونس، فقد نفذت سياسات التعريب بشكل أكثر تنظيماً، حيث بدأ التعريب في التعليم الابتدائي وانتقل تدريجياً إلى التعليم الثانوي. ومع ذلك، واجهت هذه السياسات مقاومة، خاصة فيما يتعلق بتعريب الفلسفة والمناهج الأدبية، مما أثار جدلاً واسعاً حول جودة التعليم وتهميش اللغة الفرنسية.
2. تطور الحركات الإسلامية:
لقد أدى تعريب التعليم، خاصة في المغرب، إلى زيادة تمركز الحركات الإسلامية داخل النظام التعليمي. وجدت هذه الحركات في التعريب وسيلة لتعزيز هويتها الثقافية والدينية، مما ساعد في تأطير نقاشات سياسية وثقافية داخل الجامعات والمدارس. كما أن النقص في التعليم العالي المعرب أدى إلى تزايد البطالة بين الخريجين، مما ساهم في انخراط البعض في الحركات الإسلامية كبديل لتحقيق التغيير الاجتماعي.
3. النتائج والتحديات:
أدت سياسات التعريب إلى إنشاء نظام تعليمي ثنائي، حيث تكون النخب الفرنكوفونية ذات مكانة خاصة بفضل إتقانها للغة الفرنسية، بينما يعاني المتعلمون باللغة العربية من التهميش في السوق الوظيفية. هذا التباين ساهم في خلق نوع من “الفصل الاجتماعي” داخل النظام التعليمي، مما يعزز من استمرارية الفجوة بين النخب والفئات الأخرى.
هذه النقاط تلخص التأثير العميق لسياسات التعريب وتطور الحركات الإسلامية على هيكل التعليم والنخب في المغرب وتونس كما ورد في الكتاب.
5. الاجيال الأربعة:
تناول بيير فيرمارن أربعة أجيال من النخب في المغرب وتونس، كل منها تميز بخصائص وسياقات تاريخية وسياسية مختلفة:
- الجيل الأول: الرواد (Pioneers): من أوائل القرن العشرين حتى حوالي عام 1956:
نشأ هذا الجيل خلال فترة الاستعمار وشارك في تأسيس الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار. شملت هذه الفترة الأجيال التي حصلت على تعليمها الأولي من خلال البكالوريا الفرنسية، والتي كانت تُعتبر بداية للتعليم العالي. كان لهؤلاء الأفراد دور بارز في تأسيس الحركة الوطنية في البلدين، حيث أسسوا وشاركوا في الأحزاب السياسية والحركات الاستقلالية.
- الجيل الثاني: جيل الاستقلال (Independence Generation): من حوالي عام 1956 حتى أواخر الستينات.:
ظهر هذا الجيل خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وشارك في بناء الدول الوطنية بعد الاستقلال في عام 1956. كان هؤلاء الأفراد غالبًا من خلفيات عائلية لها تاريخ طويل من التعليم والتأثير في المجتمعات، وقد استفادوا من الاستقلال ليصبحوا قادة سياسيين واقتصاديين في دولهم. احتفظ هذا الجيل بالسلطة لفترة طويلة، وغالبًا ما كان يُعتبر من النخب التقليدية التي استمرت في السيطرة على المشهد السياسي والاقتصادي.
- الجيل الثالث: جيل الاحتجاجات (Protest Generation): من أواخر الستينات حتى منتصف السبعينات:
عرف هذا الجيل فترة الستينات، وتميز بالاحتجاجات والمطالبة بالديمقراطية والإصلاحات الاجتماعية. لم تكن هذه الجيل ضد المستعمر الفرنسي، بل ضد الأنظمة الوطنية الجديدة التي كانوا يرونها غير ديمقراطية وقمعية. تعرض هذا الجيل للقمع من قبل الأنظمة الحاكمة، مما أدى إلى إحداث تغييرات في السياسات التعليمية والاجتماعية لتجنب تكرار تلك الأزمات. كان هذا الجيل أيضًا شاهدًا على انتشار الحركات الإسلامية التي بدأت في التعبير عن مطالب اجتماعية وسياسية جديدة.
- الجيل الرابع: جيل الأزمة (Crisis Generation): من منتصف السبعينات حتى نهاية القرن العشرين:
يمثل هذا الجيل الأفراد الذين تلقوا تعليمهم بعد فترة الاستقلال، وتحديدًا في السبعينات والثمانينات. تميز هذا الجيل بتأثير العولمة وتزايد البطالة بين خريجي الجامعات، مما أدى إلى شعور بالإحباط والانضمام إلى الحركات الاحتجاجية والإسلامية. تميزت هذه الفترة بتعريب التعليم وتزايد الفجوة بين التعليم النخبوي والتعليم الموجه للفئات الأقل حظًا.
5. تأثيرات الاجيال الأربعة:
- تأثيرات الجيل الأول:
كان هذا الجيل مهمًا في تأسيس الهياكل الوطنية والمشاركة في الحركات الاستقلالية في المغرب وتونس. فاستفاد أبناؤه من فرصة الحصول على تعليم عالي، غالبًا من خلال المدارس الفرنسية، حيث كان البكالوريا الفرنسية يُعتبر المدخل الأساسي للتعليم العالي. هذا التعليم جعلهم نخبًا مثقفة تحمل الأفكار القومية والتقدمية.
وكان من ضمن تلك المؤسسات التي أطرت هذا الجيل في تونس: ثانوية الصادقية (Collège Sadiki)، التي قدمت تعليمًا متقدمًا ومتنوعًا للطلاب التونسيين. إضافة إلى ليسيه كارنو (Lycée Carnot)، والتي كانت فضاء لتعليم العديد من الطلاب التونسيين الذين أصبحوا فيما بعد شخصيات بارزة. كلا المؤسستين، مثلا حضنا لنخب متعلمة تأثرت بشدة بالثقافة الفرنسية. كلية الصادقية على وجه الخصوص كانت مؤسسة تعليمية قدمت مناهج دراسية باللغتين العربية والفرنسية، ما ساهم في تشكيل نخبة تونسية تتحدث الفرنسية بطلاقة وكانت على دراية بالأدب والفكر الفرنسيين.
وقد تخرج من تلكما المؤسستين، كل من الحبيب بورقيبة، الذي التحق بجامعة باريس حيث درس القانون والعلوم السياسية. حيث تأثر بالأفكار الجمهورية والعلمانية الفرنسية. وتجلت هذه التأثيرات في سياساته بعد الاستقلال، حين أصبح اول رئيس لتونس بعد الاستقلال، حيث تبنى سياسات تدعو إلى تحديث المجتمع التونسي وفصل الدين عن الدولة. على سبيل المثال، قراره بإلغاء جامعة الزيتونة التقليدية وتحويلها إلى مؤسسة تعليمية حديثة يعكس تأثير التعليم الفرنسي ورغبته في تعزيز التعليم العلماني الحديث في تونس. إضافة إلى محمود الماطري، الذي درس الطب في فرنسا وتخرج كطبيب، ثم عاد إلى تونس حيث أصبح شخصية بارزة في الحركة الوطنية. ثم نجد المنجي سليم، الذي أكمل دراسته في فرنسا، حيث حصل على شهادة في القانون، ثم لعب دورًا مهمًا في الدبلوماسية والسياسة التونسية بعد الاستقلال.
وقد كانت هناك مشاركة كبيرة من الطلاب في الحركات الوطنية، خاصة خلال الاحتجاجات ضد مؤتمر الإفخارستية في قرطاج عام 1930، حيث ساهم الطلاب من مدارس مثل كلية الصادقية وليسيه كارنو في تنظيم الاحتجاجات. قاد هؤلاء الطلاب، بمن فيهم علي بلحاج وسلامة التونسي، الحركة الشبابية التي أصبحت فيما بعد جزءًا من التنظيمات الوطنية الكبرى.
اما في المغرب، فقد استهدفت ثانوية مولاي يوسف (Collège Moulay Youssef) أبناء البرجوازية الفاسية والرباطية والسوسية. ومع أن مدارس القرويين قد قدمت تعليمًا تقليديًا، لكنها بدأت حينذاك، في استيعاب الأفكار الحديثة والتوجهات الجديدة. وكان من ثمارها أحمد بلافريج، الذي انتقل إلى انتقل إلى فرنسا، حيث واصل تعليمه العالي في السياسة والقانون. وقد تأثر بالفكر الفرنسي في القومية والحقوق السياسية. بعد عودته إلى المغرب، ساهم في تأسيس حزب الاستقلال وكان له دور بارز في الحركة الوطنية المغربية. كان بلافريج يعتبر من النخب المثقفة التي عملت على نشر الأفكار القومية ومناهضة الاستعمار الفرنسي، وذلك باستخدام اللغة الفرنسية كأداة للتواصل مع الإدارة الاستعمارية والجمهور الواسع.
إضافة إلى محمد الفاسي، الذي انتقل إلى باريس لإكمال دراساته في القانون والعلوم السياسية. وقد كان مفكرًا وأكاديميًا بارزًا، وشغل مناصب مهمة في التعليم والسياسة، وترأس أول كيان فرنكوفوني إفريقي. ثم نجد حسن الوازاني، وبارغم من انه درس في جامعة القرويين، إلا أنه أكمل دراساته العليا في فرنسا، حيث حصل على شهادة في الفلسفة.
هذه المدارس والنخب كانت جزءًا أساسيًا من المشهد التعليمي والسياسي في المغرب وتونس، وساهمت في تشكيل الهوية الوطنية الحديثة، والوعي السياسي خلال فترة الاستعمار وما بعدها .
في تلك الفترة، يوضح الكاتب، كيف أصبحت اللغة الفرنسية لغة النخبة والتعليم العالي في المغرب وتونس، مما أدى إلى إنشاء طبقة اجتماعية جديدة وفجوة ثقافية واجتماعية. إليك بعض النقاط الرئيسية المدعومة بأرقام وسنوات وقرارات:
ففي عام 1957، وقعت اتفاقية ثقافية بين فرنسا والمغرب، تهدف إلى “تنظيم العلاقات الثقافية بين البلدين على أساس تعاقدي، وتحديد الشروط التي سيتم بموجبها نشر اللغة والثقافة الفرنسية في المغرب”. وفي تونس، أنشئت البعثة الجامعية والثقافية الفرنسية (MUCF) لدعم التعليم الفرنسي. فقد كان هناك توجه نحو التعريب (تعريب التعليم) منذ الستينات، ولكن مع ذلك، استمر استخدام الفرنسية كلغة رئيسية في التعليم العالي، وخاصة في العلوم والطب والهندسة. هذا الاختلاف اللغوي بين التعليم الثانوي والعالي خلق فجوة كبيرة. لقد أصبحت النخبة المتعلمة باللغة الفرنسية تحتل مناصب رفيعة في الحكومة والقطاع الخاص، مما خلق فجوة اجتماعية وثقافية بينهم وبين الأغلبية التي لم تتلق التعليم الفرنسي. في عام 1975، كان هناك حوالي 15,877 طالب مغربي يدرسون في فرنسا، مما يعكس استمرار التوجه نحو التعليم الفرنسي العالي.
وفي تونس، عام 1991، صدر قانون يجعل الدراسة باللغة الفرنسية إلزامية من السنة الثالثة في التعليم الأساسي، مع تخصيص ساعات مكثفة تصل إلى 11.5 ساعة في الأسبوع للفرنسية في السنة الخامسة. وأصبح الفرنسية لغة إلزامية في امتحان البكالوريا، بجانب الإنجليزية، منذ الدورة الأولى في 1993-1994.
تظهر هذه الأمثلة كيف أن التعليم والثقافة الفرنسية لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل النخب في المغرب وتونس، ما ساعد على نقل القيم الثقافية والسياسية الفرنسية إلى هذه المجتمعات.
لقد كان لهذا الجيل دور بارز في تأسيس الحركات الوطنية، سواء في تونس أو المغرب. شاركوا في تأسيس الأحزاب السياسية والمجموعات التي كانت تسعى لتحقيق الاستقلال من الاستعمار الفرنسي:
- تأثيرات الجيل الثاني:
بعد الاستقلال، تم تنفيذ سياسات تعليمية تهدف إلى توطين التعليم وتوسيع فرصه للمواطنين. شملت هذه السياسات تعزيز المدارس والجامعات الوطنية لتأهيل الشباب لشغل مناصب قيادية في الدولة. وقد استفاد هذا الجيل من الفرص التعليمية التي وفرتها الدول المستقلة حديثًا، حيث تم تأهيلهم في مجالات متعددة مثل الإدارة والهندسة والقانون، مما أهلهم لشغل مناصب حكومية وإدارية رفيعة. ففي تونس، تم تنفيذ قرارات لتوسيع التعليم العالي وتوطين التعليم، مثل إنشاء كلية الصادقية وتجديدها لتلبية احتياجات الدولة الناشئة. وأما في المغرب، فقد بدأت السياسات التعليمية تتجه نحو تعريب المناهج، لكن اللغة الفرنسية بقيت قوية في مجالات العلوم والهندسة، مما ساعد على الحفاظ على التواصل مع المؤسسات التعليمية الفرنسية.
في تونس، مثلا، تم اتخاذ قرارات لتعزيز التعليم العلمي والتقني، مثل إنشاء المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس (ENIT) في 1968، التي ساعدت على تدريب المهندسين التونسيين، وفق المنهج الفرنسي. وعلى ذلك النهج سار المغرب في غنشاء المدارس العليا المتخصصة.
لقد كان لهذا الجيل دور أساسي في بناء المؤسسات الوطنية وتعزيز السيادة الوطنية، فشاركوا في صياغة الدساتير الوطنية وتأسيس الهياكل الحكومية التي شكلت أسس الدول الجديدة. وكان المرجع الأساس في التشريع هو التشريع الفرنسي. وبذلك كانت هذه الفترة مليئة بالطموحات لبناء دول حديثة ومستقلة تماشياً مع الأفكار الوطنية، وفق المرجع الفرنسي.
مع تعزيز الاستقلال، ظهرت تحديات داخلية مرتبطة بتوزيع السلطة والثروة، فبدأت تظهر خلافات بين النخب الحاكمة والجماهير حول قضايا مثل العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
ففي تونس، حصلت أحداث يناير 1978 (الخميس الأسود)، حيث تصاعد التوتر بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة التونسية بقيادة الرئيس الحبيب بورقيبة، بسبب المطالبات بتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور. كما حصلت أحداث في 26 يناير 1978، حيث اندلعت مظاهرات واسعة في تونس العاصمة ومدن أخرى، وقُوبلت بقمع شديد من السلطات، مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا واعتقال آلاف الأشخاص. ونتيجة لذلك، وخاصة أواخر الستينات والسبعينات، حاولت الحكومة التونسية تعزيز التنمية الاقتصادية من خلال برنامج إصلاحات زراعية وصناعية. ومع ذلك، واجهت هذه السياسات تحديات كبيرة مثل الفساد والمحسوبية. وكان من بين تلك الشخصيات الرئيسية، كل من هادي نويرة (رئيس الوزراء)، محمد مزالي (وزير التعليم ثم رئيس الوزراء).
أما في المغرب، فقد اندلت، خلال الستنيات، الاحتجاجات العمالية والطلابية ذات التوجه اليساري، والتي كانت تعبر عن جيل ما بعد الاستقلال، وتطالب بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية. فقد شهدت الدار البيضاء احتجاجات كبيرة بعد إصدار وزارة التربية والتعليم المغربية قرارًا يقضي بمنع الطلاب الذين تجاوزوا سن معين من الاستمرار في التعليم الثانوي. قُوبلت الاحتجاجات بعنف شديد من قبل السلطات، مما أسفر عن سقوط المئات من الضحايا، اسفرت عن دخول البلاد في مرحلة “الاستثناء”. حدثت محاولتا انقلاب في 1971 و1972، حيث تصاعد الاستياء داخل الجيش المغربي وبعض الأوساط السياسية بسبب ما اعتُبر فسادًا وسوء إدارة من قبل القصر الملكي. كلا المحاولتين فشلتا وتم قمعهما بشدة.
لقد ساعد التعليم على خلق طبقة جديدة من المتعلمين الذين كانوا يحملون طموحات كبيرة في التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
لقد كان الجيل الثاني جيل بناء وتأسيس، حيث ساهم في تشكيل البنية الأساسية للدول المستقلة حديثًا في المغرب وتونس. وقد كانت تلك التوترات بمثابة مقدمة للتحولات الاجتماعية والسياسية التي ظهرت في الأجيال اللاحقة.
- تأثيرات الجيل الثالث:
تميز الجيل الثالث من النخب في تونس والمغرب، بظهور احتجاجات طلابية واسعة النطاق وحركات اجتماعية جديدة، مما أدى إلى توتر العلاقات بين النخب الحاكمة والجماهير. إليك بعض الأحداث المحددة والشخصيات البارزة المرتبطة بهذه الفترة:
ففي مارس 1968، اندلعت احتجاجات طلابية في تونس بقيادة طلاب من جامعة تونس ومدارس ثانوية أخرى. كانت هذه الاحتجاجات جزءًا من حركة أوسع تعبيرًا عن الاستياء من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكانت أهم الجهات المؤثرة فئات الطلاب الذين كانوا جزءًا من اتحاد الطلاب التونسي (UGET)، الذي كان منخرطًا في تنظيم هذه الاحتجاجات.
كما شهدت تونس مظاهرات طلابية في ديسمبر 1977، عندما هاجمت الشرطة جامعة باردو لإخماد الاحتجاجات الطلابية. كانت هذه الهجمة محاولة لإخماد التحرك الطلابي قبل انعقاد مؤتمر UGET في بنزرت. وقد لعب الطلاب والنشطاء في UGET لعبوا دورًا رئيسيًا في تنظيم الاحتجاجات ضد الحكومة.
وخلال تلك الفترة، نشأت بالمغرب، وخاصة في نهاية الستينات وبداية السبعينات، حركات طلابية ماركسية وماوية مثل “23 مارس” و”إلى الأمام” (Ila al-Amâm)، التي كانت تعارض النظام الملكي المغربي وتطالب بالإصلاحات الجذرية. وقد كان أبراهام السرفاتي وسعيد بن سعيد، من القادة البارزين في هذه الحركات، وقد لعبا دورًا مؤثرا في توجيه المعارضة الطلابية ضد النظام القائم.
خلال هذه الفترة، كانت النقاشات حول العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية مركزية في الاحتجاجات. كانت هذه الاحتجاجات تعبيرًا عن الاستياء من البطالة والفقر وغياب الحريات السياسية. كما تأثرت هذه الحركات بالتيارات الفكرية الدولية مثل الثورة الثقافية الماوية وحركات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. هذه الأحداث والشخصيات تسلط الضوء على فترة مليئة بالتوترات السياسية والاجتماعية، حيث كانت النخب الشابة تحاول مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية في كل من تونس والمغرب.
شهدت هذه الفترة بداية الأزمات الاقتصادية التي أثرت بشكل كبير على الشباب والخريجين. مع زيادة معدلات البطالة، أصبح من الصعب على الشباب العثور على فرص عمل مناسبة، مما زاد من شعورهم بالإحباط والغضب. ثم بدأ الشباب، في هذه الفترة، بالتشكيك في القيم الثقافية التقليدية، والبحث عن هوية جديدة. هذا التحول الثقافي كان جزءًا من حركة أكبر شملت دولًا عديدة في المنطقة وخارجها.
وكرد فعل على ذلك التحول، بدأت الحركات الإسلامية تظهر بقوة خلال هذه الفترة، حيث وجدت دعمًا من الشباب الذين كانوا يبحثون عن بدائل للتغيير الاجتماعي والسياسي، بسبب الإحباط من النظام القائم. أصبحت هذه الحركات تمثل جزءًا كبيرًا من الساحة السياسية والاجتماعية. كانت هذه الفترة بداية لظهور حركات اجتماعية وسياسية جديدة شكلت المشهد الاجتماعي والسياسي في العقود اللاحقة.
- تأثيرات الجيل الرابع:
شهد هذا الجيل ارتفاعًا كبيرًا في معدلات البطالة، خاصة بين خريجي الجامعات. أدى هذا الوضع الاقتصادي الصعب إلى زيادة الشعور بالإحباط والاستياء بين الشباب، مما جعلهم أكثر عرضة للانخراط في الحركات الاحتجاجية والإسلامية. زادت الفجوة بين التعليم النخبوي والتعليم للفئات الأقل حظًا من الاستقطاب الاجتماعي، حيث أصبحت الفرص المتاحة للخريجين محدودة بشكل أكبر، ما زاد من التوترات الاجتماعية. وفي هذه المرحلة تم تطبيق سياسات التعريب بشكل واسع، مما أثر على جودة التعليم العالي، مما جعل فرص العمل للخريجين أكثر تحديًا. تم تفضيل النخب التي تلقت تعليمها باللغة الفرنسية، ما أدى إلى استمرار الفجوة بين النخب التقليدية والجديدة. وأدت هذه السياسات إلى تدهور مستوى التعليم في بعض التخصصات، مما أثر على قدرة الخريجين على التنافس في سوق العمل الدولية والمحلية.
في هذه الفترة تزايد نشاط الحركات الإسلامية خلال هذه الفترة، حيث وجدت دعمًا من الشباب الذين كانوا يبحثون عن بدائل للتغير الاجتماعي والسياسي، بسبب إحباطهم من النظام القائم. ساعدت هذه الحركات في تشكيل وعي سياسي جديد بين الشباب، المطالبين بالتغيير والإصلاح.
خاتمة:
في ضوء التحليل الذي قدمه بيير فيرمارن في كتابه “تكوين النخب المغربية والتونسية: من القوميين إلى الإسلاميين 1920-2000″، يمكن استنتاج أن تطور النخب في تونس والمغرب قد تأثر بعوامل متعددة من بينها التعليم والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من خلال تتبع مسارات الأجيال المختلفة، بدءًا من الرواد الذين تلقوا تعليمهم في ظل الاستعمار الفرنسي وصولًا إلى جيل الأزمة الذي واجه تحديات العولمة والبطالة، يمكننا فهم كيفية تكوين النخب وتأثيرها على المجتمع والسياسة.
ويبقى هذا الكتاب مرجعا مهما، لكل مهتم بشأن النخبة العربية، ومنها المغربية والتونسية، في سبيل تشخيص علمي ورصين لهذه الفئة.