السياسةالشهودالفلسفة والتاريختجلي الحريةمن اختيارنا

عوامل الصدع الستة في بنيان إسرائيل بعد 7 أكتوبر

(انهيار المقولات المؤسِّسة وقيام العوامل الناقضة)

بقلم: ماهر الملاخ

مقدمة:

لم يكن السابع من أكتوبر مجرّد تاريخٍ ينضاف إلى سجلات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، بل لقد جسّد التحدي الوجودي الأكبر في تاريخ إنشاء الكيان: حيث كانت تلك هي المرة أولى التي تهاجم فيها إسرائيل بريا على الأراضي التي تضمها، وبالتالي كانت هي المرة الأولى التي لا تطرح فيها على نفسها سؤال النصر والهزيمة، بل أصبح السؤال الذي فُرض عليها هو سؤال البقاء والزوال.

وللجواب عليه غرق الكيان العبري في عمق وعيه الأكثر قتامة وإظلاما، فأفرز المخزون الاستراتيجي لشره المطلق، والذي كان متواريا خلف أقنعة الدبلوماسية ولغة السياسة. ففي ذلك اليوم لم تتهتّك منظومات أمنه وحدها، بل تشرذمت معها منظومات المعنى والقيم. وما بدا في ظاهره اختراقًا عسكريًا، كان في جوهره اختراقًا أنطولوجيًا لهويةٍ تأسست على أساطير التفوّق والسيطرة والأمان.

فمنذ قيامها، نسجت الصهيونية حول نفسها شبكةً من المقولات التي شكّلت درعها النفسي والرمزي: من “الجيش الذي لا يُقهر”، و”إسرائيل بيتنا”، إلى “الله معنا لأن الدولة معنا”، و”كل يهودي هو سفير لإسرائيل”، وأن “الصهيونية هي حامية اليهودية”… كانت تلك الشعارات تعمل كمنظومة عقدية-سياسية تَضمن تماسك الجماعة العبرية وتُسكّن قلق الوجود اليهودي. حتى اندلع  طوفان الأقصى لا ليخرق حدود غلاف غزة فحسب، بل لكي يخترق كل تلك المقولات المؤسِّسة ذاتِها، مبدّلًا مفعولها من أسطورة تأسيس إلى نكبة وجود.

لقد بدأت إسرائيل منذ ذلك اليوم، تتعرّى أمام نفسها، قبل أن تفعل ذلك أمام العالم، كما لم تتعرَّ من قبل: فانكشف جيشها أمام المقاومة في غلاف غزة، وانكشفت معه عقيدتها أمام المؤمنين بها في الداخل، كما انكشفت سرديتها أمام مؤيديها في الخارج. وتحوّلت “الدولة المعجزة” إلى مختبرٍ مفتوح لانهيار الرموز: فالمقدّس فقَد قداسته، والقويّ تزعزع يقينه، والمطمئنّ اكتشف أنه كان يقطن داخل فخٍّ عنكبوت منسوج من خيوط الخوف.

فما جرى لم يكن هزيمةً في معركة، بل تفكّكًا في اللغة، والتي تُعرِّف الوجود الإسرائيلي نفسه، عبر ست مقولات تأسيسة مرصوصة، مثّل اختلال كل منها عرَضا من أعراض ذلك الانفجار المعنوي الكبير الذي أصاب الكيان في عمقه؛ تلك المقولات التي طالما ضمنت بقاء “الذات الصهيونية” منسجمة، بالرغم من علل الاختلاف والصراع والتشرذم، وهو ما سجّل لحظة انكسارها، على نحوٍ جعلها حالة تناقض مع ذاتها.

بهذا المعنى، لم يكن طوفان الأقصى حدثًا في الجغرافيا الترابية، بل شكّل حدثًا في الميتافيزيقا السياسية لإسرائيل، مؤذنا بانتهاء زمن الشعارات الزائفة، وانطلاق زمن المرايا الكاشفة: فإسرائيل اليوم لا تواجه مقاوميها، بل أصبحت تواجه كينونتها.

وبذلك، سيكون هذا المقال عبارة عن جولة سريعة في الذهنية الصهيونية المتصدعة، بفعل كل ما حدث ويحدث، مسلّطا الضوء على الأعراض الستة الكبرى التي تشرخ اليوم، بينياته وفئاته وعلاقاته ووقائعه، بشهادات مفكريه وممثليه، لا بأحكام مناوئيه ومقاوميه:

العَرَض الأول: التداعي الحرّ لجدار الأمن النفسي داخل إسرائيل

 (من مقولة “إسرائيل بيتنا” إلى واقع “إسرائيل فخّنا”)

يعلن الكاتب الصهيوني آدم شاتز (Adam Shatz) في مقالته التحليلية بعنوان: “عالم ما بعد 7 أكتوبر” “The World since 7 October”، المنشورة في London Review of Books (المجلد 47، العدد 13، 2024)، أن “ما بعد السابع من أكتوبر هو بداية إسرائيل جديدة، أكثر خوفًا، وأقل اطمئنانا، وأكثر انفصالًا عن القيم التي ادّعت تمثيلها”. ويضيف أن ما جرى “قد أجبر الإسرائيليين على مواجهة سؤال الوجود لا سؤال البقاء فقط، لأن الدولة التي وُلدت على عقد الأمان الأبدي، قد اكتشفت فجأة أن هذا الأمان ليس إلا وهماً قابلاً للانكسار في أي لحظة.”

هذه الشهادة الصادرة من داخل الوعي الصهيوني نفسه، تكشف أن ما انهار في السابع من أكتوبر لم يكن جدار حماية مادي فحسب، بل جدار الإيمان بمعنى الدولة ذاتها: فالشعور الجمعي بالأمان الذي شكّل ركيزة الهوية الإسرائيلية، تحوّل إلى مصدر دائم للتوتّر. ولقد بات المجتمع العبري يعيش بين هاجس البقاء وشكّ المعنى، وبين الصخب العسكري والفراغ الوجودي.

إنّ “التداعي الحرّ لجدار الأمن النفسي” هو في جوهره لحظة انكشاف جماعي لأسطورة “الملاذ” التي قامت عليها الدولة العبرية. فقد حوّل السابع من أكتوبر ذاك “البيت” إلى جبهة مواجهة، و”الملاذ” إلى بؤرة خوف. فسكن الفزع قلب مجتمع، طالما اعتقد أنّ الاستيطان بالقرى المحصّنة والتمترس خلف الجدر المشيّدة، كفيلة بتأمين حياة الاغتصاب داخل حدود الاحتلال. وبذلك انهارت الطمأنينة المصطنعة، ليحلّ محلّها توتّر دائم ووعيٌ بالهشاشة لا يغيب.

وهكذا انقلبت المقولة المؤسسة “إسرائيل بيتنا” إلى نقيضها الواقعي: “إسرائيل فخّنا“. فالوطن الذي وُعد أن يكون ملاذًا ليهود العالم، تحوّل إلى مصيدة خوف جماعي؛ كل خروجٍ منه مخاطرة محققة، وكل بقاءٍ فيه تهديدٌ مؤجل. إنّ إسرائيل التي بُشّر بها كـ”ملجأٍ أخير”، غدت اليوم أكثر الأماكن حاجة إلى التأمين، تُرمّم قبتها الحديدية كل يوم، بينما صفّارات الإنذار لا تكفّ عن الصراخ في سمائها.

العرَض الثاني: الانكشاف المريع للوهم الأمني الإسرائيلي

(من مقولة «نحن نراقب العالم» إلى مقولة «الجيش المقهور وإن كان متفوّقًا»)

في الاتجاه ذاته، يكتب المفكّر والكاتب اليهودي البريطاني جوناثان فورمان (Jonathan Foreman) مقالًا بعنوان: “القصة التي لم تُرو عن فشل إسرائيل في 7 أكتوبر ” The Untold Story of How Israel Failed on October 7 ، ونُشر في مجلة (Commentary 2024)، يُبرز فيه أن ما انكشف في ذلك اليوم هو هشاشة منظومة الاستخبارات والسيطرة التي طالما تباهت بها إسرائيل، مؤكدًا أن “الدولة التي اعتقدت يوما أنها تراقب كل شبر من العالم، لم تعُد ترَ حتى ما يجري خلف سياجها.”

هذه الجملة وحدها تختزل انهيار “اليقين الأمني الإسرائيلي” الذي تأسست عليه صورة دولة الكيان منذ 48. فإسرائيل لم تُهزم عسكريًا فقط في السابع من أكتوبر، بل انكشفت ذهنيًا؛ إذ سقطت أمام أوهامها الخاصة، فتحوّل “النظر من علٍ” إلى حالة عمى وصمم، وانقلبت المراقبة المطلقة للعالم، إلى عجز تام عن رؤية الذات.

إن ما حدث يمكن تسميته بـ”الانكشاف المريع للوهم الأمني الإسرائيلي“، وهو ليس فشلًا تقنيًا فحسب، بل سقوطًا فلسفيًا لأسطورة، كانت تمثّل العمود الفقري للهوية الصهيونية: أسطورة السيطرة والمعرفة المطلقة. فشعار “الجيش الذي لا يُقهر” و”الموساد الذي يراقب العالم“، لم يكونا مجرد دعاية عسكراتية واستخباراتية، بل كان خطابًا وجوديًا، يبرّر التوسع والهيمنة، ويُقنع الداخل والخارج بأن التفوّق الأمني هو جوهر البقاء.

غير أنّ طوفان الأقصى قد أسقط في لحظة كل هذه الأسطورة دفعة واحدة: فقد ظهرت القوة العسكرية في صورة ضعفها، واليقظة الاستخباراتية في ظلمة عماها. لم تكن الهزيمة ناتجة عن قوةٍ مضادة تفوقها، بل عن غرور ثقةٍ لازمها، جعل إسرائيل عاجزة حتى عن سماع تحذيرات نفسها. وهكذا تحوّل سلاحها الأشدّ فتكًا، ثقتها المفرطة بالأمن، إلى نقطة ضعفها الاكبر. وذلك مصير كل قوة لم يسندها ضمير، مصير التفكك من الداخل لحظة تُختبر تحت مجهر الحقيقة والمعنى. فكلّ تفوّق عارٍ عن الوعيٍ الأخلاقيّ ما هو إلا هزيمة مؤجَّلة ولو إلى حين.

وبذلك انتهت المقولة المؤسسة “نحن نراقب العالم“، ليحلّ محلها واقع “الجيش القابل للقهر ولو كان متفوّقًا“.

العرَض الثالث: الاهتزاز الأعمق للكينونة الصهيونية

(من مقولة “إسرائيل معجزة قيام الشعب من الرماد” إلى واقع “إسرائيل العودة إلى الرماد في ثوب الجريمة”)

أما الكاتب والروائي الصهيوني درور ميشاني Dror Mishani ، فقد عبّر عن صدمة داخلية أشدّ مرارة، في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية Le Monde، بتاريخ 25 مارس 2025، حين صرح بأن “المجتمع الإسرائيلي قد تحوّل إلى مجتمع مهووس بالانتقام”، وأن ما سقط في السابع من أكتوبر “ليس فقط جدار الأمن، بل جدار المعنى”. ميشاني يرى أن إسرائيل ما بعد الطوفان فقدت قدرتها على التوازن، لأنها تقاتل اليوم وهي فاقدة البوصلة الأخلاقية التي كانت تبرّر وجودها في نظر ذاتها والعالم.. وأن ذلك اليوم، يقصد 7 أكتوبر، “قد أعاد تعريف الهوية اليهودية في الغرب، وأجبر آلاف اليهود على إعادة النظر في علاقتهم بإسرائيل”. قبل أن يضيف: “هكذا تحوّلت الصهيونية من يقين جمعي، إلى سؤال مفتوح داخل المجتمعات اليهودية، بعدما كانت الرابط المقدّس الذي يوحّدهم، حول دولة تُقدَّم بوصفها معجزة التاريخ.” (المرجع:Senor, Dan. “The Future of American Jewry After October 7.” Commentary, . Interview, Le Monde, 25 March 2025)، إنه الاهتزاز الأعمق للكينونة الصهيونية.

فلطالما صوّرت الصهيونية نفسها كبعثٍ جديد لشعب نجا من المحرقة، لكنها اليوم تواجه محرقة معنوية داخلية، فبعد طوفان الأقصى، لم يعد “القيام من الرماد” سرديةً ملهمة، بل مرآةً تعكس عودة الرماد إلى الوعي الجمعي ذاته. لقد انكشفت الكينونة الصهيونية كهوية تعيش على العدوان والمجازر والإبادة. فصدّرت لداخل كيانها الخوف لا على المعنى، والتصدع لا الهوية.

لقد بنت الصهيونية هويتها على الخوف من الفناء، لا على الإيمان بالحياة، فوجدت نفسها بعد السابع من أكتوبر أمام رمادٍ جديد، لا تصعد منه معجزة منتظرة، بل يطرح بقوة أسئلة حاضرة. فمن قام من الرماد بلا معنى، سيعود إليه ولو بعد حين. إنه “الهولوكوست الذاتي” آخذ في الإضطرام.

وهكذا استبدلت الصهيونية بني إسرائيل مقولة: “إسرائيل معجزة قيام الشعب من الرماد“، بواقع: “إسرائيل العودة إلى الرماد بالاحتراق التلقائي” (Spontaneous Combustion)، فلقد استُعيدت اللغة ذاتها، لكن في اتجاهٍ معاكس: فالمعجزة لم تُحيِ من رماد، بل جعلت الرماد يتنفس من جديد في صورة دولة تحرق ذاتها.

العَرض الرابع: الانكسار الروحي للمجتمع اليهودي المتدين

(من مقولة “إيلوهيم معنا لأن الدولة معنا” إلى مقولة “الله ضدنا لأن الدولة معنا”)

حتى داخل المؤسسات الدينية اليهودية، لم ينجُ الوعي المتشظّي من الزلزال الذي أحدثه السابع من أكتوبر. ففي تعليقٍ بعنوان: “تأملات حول السابع من أكتوبر وتداعياته” “Reflections on October 7th and its Aftermath”، نشره موقع Jewish Berkshires سنة 2024، كتب الحاخام آفي دابوش (Avi Dabush) من ولاية ماساتشوستس: “لقد فقدتُ إيماني بأنني سأعيش لأرى إسرائيل في سلامٍ مع جيرانها.” عبارة قصيرة، لكنها تُختصر انهيار ثالوثٍ شكّل لبّ الإيمان الصهيوني: الدولة، القوة، والبركة.

لقد كانت مقولة “الله معنا لأن الدولة معنا” الركيزة التي جمعت اللاهوت بالمدفع، والمعبد بالثكنة. لكن بعد 7 أكتوبر، بدأ الحاخامات أنفسهم يشعرون بأن الرابط الروحي بين “العناية الإلهية” المشفوعة ب”القوة العسكرية” قد انقطع: فالأحداث لم تمسّ الأجساد فقط، بل أصابت الإيمان في مقتل. والمصلّى الذي كان يُرفع فيه الدعاء لانتصار الجيش، صار يُرفع فيه الصراخ على معنى الوجود ذاته.

إن ما يمكن تسميته بـ”الانكسار الروحي للمجتمع اليهودي المتدين” هو أعمق من فقدان الإيمان بالسلام؛ إنه فقدان الإيمان بالاختيار نفسه. فبعد أن رُفع اسم إيلوهيم لتبرير الاستيطان والاحتلال، صار الانسحاب الإلهي من معركة “الحق المقدّس” و”الأرض الموعودة” أوضح برهان على أن السماء قد أغلقت بابها في وجه المعبد المسلّح. فلم يعد الربّ غطاءً سياسياً يُبارك القتل والهدم، ولم تبق الدولة تجسيداً للعهد القديم، بل تحوّل الاثنان إلى شاهدين مشدوهين على فراغ المعنى.

في الحالة الصهيونية، تفكّكت العلاقة بين المقدّس والسياسة حين صارت السماء تُستخدم لتغطية الأرض، فتعَرّى الإله المصنوع من تمر الدولة.، إذ إن “ربّ الجنود” الذي بُشّر به في المزامير، عاد ليقف على الأطلال يسائلهم: أين السلام الذي وعدتموني إياه؟

وهكذا انتهت المقولة المؤسسة “إيلوهيم معنا لأن الدولة معنا” لتحلّ محلها المفارقة الموجعة “الله ضدّنا لأن الدولة معنا”. فالحضور الإلهي تحوّل من وعدٍ إلى غياب، ومن حمايةٍ إلى مساءلة. لم يعد الربّ يُذكَر في ضمير الصلاة، بل في نشرات الحرب. وذلك حال من يُستَعمل السماء لتغطية الأرض، لا يجني في الأخير غير الفراغ… فراغٌ يتردّد فيه صدى السؤال الذي لم يجرؤ أحد منهم على طرحه: من حقا معنا؟

العرَض الخامس:الأزمة العالمية للهوية الصهيونية اليهودية

(من مقولة “كل يهودي هو سفير لإسرائيل” إلى واقع “كل يهودي سفير ضميره”)

في مقاله التحليلي: “مستقبل يهود أمريكا بعد السابع من أكتوبر” The Future of American Jewry After October 7 المنشور في مجلة Commentary سنة 2024، يكتب المفكر والكاتب الأميركي الصهيوني دان سينور (Dan Senor): “لقد أعاد السابع من أكتوبر تعريف الهوية اليهودية في الغرب، وأجبر آلاف اليهود على إعادة النظر في علاقتهم بإسرائيل… لقد باتت الصهيونية سؤالًا أكثر منها يقينًا، بعد أن كانت رمزًا موحدًا للجماعة اليهودية حول العالم.”

بهذه العبارة، يعلن سينور نهاية زمن “التماثل الآمن” بين الدين والدولة، بين اليهودي وإسرائيل، بين الهوية والعَلَم. إنها لحظة اهتزاز عالمي للوعي اليهودي، إذ أصبح كثير من أبناء الجاليات اليهودية في الغرب يكتشفون، أن المسافة الأخلاقية أقرب إلى الإيمان من الولاء السياسي.

وبذلك سقطت مقولة “كل يهودي هو سفير لإسرائيل” التي روجتها الدبلوماسية الإسرائيلية طيلة عقود لتجعل من كل يهودي ذراعًا ناعمة للدولة. كانت تل أبيب ترى في الشتات شبكة تواصل دعائي متميّز، وفي الهوية الدينية وقودًا للشرعية السياسية. لكن طوفان الأقصى قد قلب هذا الشعار إلى عبء، إذ لم يعد ملايين اليهود في أميركا وأوروبا يقبلون أن يُختزل انتماؤهم الديني في ولاء لدولةٍ متهمة بجرائم حرب. فالهتاف في شوارع نيويورك وباريس ولندن لم يكن ضد اليهودية، بل ضد من اختطفها باسم إسرائيل. وبها احترقت ورقة معاداة السامية احتراقا.

منذ ذلك اليوم، خرجت الديانة اليهودية بمعية العرق اليهودي من عباءة السفارة، إلى فضاء الضمير. ففي الجامعات والشوارع الغربية، قد أعلن آلاف اليهود، طلبةً وموظفين وفنانين، أن ولاءهم الأول هو للحق لا للقوة، وأن الانتماء الإنساني حين يتناقض مع الهوية السياسية، فإن الأخيرة تفقد معناها. وهكذا وُلدت يهودية جديدة، متحرّرة من الابتزاز الصهيوني، ومتجاوزة التوظيف الإسرائيلي؛ يهوديةٌ تُعرّف نفسها لا بالعلم الذي يُرفع فوق الجثث، بل بالقيم التي تُحيي الإنسان. وبذلك شرع الدين والعرق كلاهما ينفكان من براثن الأيديولوجيا.

إنّ ما نشهده اليوم هو أزمة عالمية للهوية الصهيونية، أكثر منها للديانة والعرق اليهوديين، إذ فقدت الدولة احتكارها للتمثيل، وبدأ الوعي الفردي باستعادة سيادته الأخلاقية. فبعد أن كانت دولة إسرائيل بطاقة فخر جل اليهود في العالم، أصبحت عبئًا يُتجنّب ذكره في العلن. ومن السفارة إلى المسافة، تغيّر موقع الانتماء من التمثيل إلى التبرؤ، ومن الولاء إلى المحاسبة.

وهكذا استُبدلت المقولة المؤسسة “كل يهودي هو سفير لإسرائيل” بواقع “كل يهودي سفير ضميره“. فلم يعد اليهودي يتحدث باسم الدولة التي كان ينتمي إليها، بل باسم الإنسان الذي فيه. ومن كان بالأمس يُرسل رسائل الدعاية من تل أبيب، صار اليوم يبعث برسائل الإنذار منها. لقد بدأ الصوت تحرّر من الخطاب، والهوية من وصايتها، وشرعت اليهودية في التحلل من ظِلّها السياسي.

العرَض السادس: تهديد الأيديولوجية الصهيونية لمصير الديانة اليهودية

(من مقولة «الصهيونية حامية اليهودية» إلى مقولة «الصهيونية مقبرة اليهودية»)

وفي عددٍ خاص من مجلة (K La Revue 2024)، وهي من أبرز الدوريات المهتمة بشؤون يهود أوروبا، نُشرت مقالات لعددٍ من الباحثين الصهاينة الذين أقرّوا بأن ما جرى في السابع من أكتوبر “قد أعاد تشكيل الهوية اليهودية في الغرب”، وأشار التقرير إلى أن كثيرًا من الشباب اليهود في الجامعات الأميركية خرجوا إلى الشوارع يهتفون ضد العدوان على غزة، لا لأنهم تخلّوا عن يهوديتهم، بل لأنهم اكتشفوا أن الدفاع عن الكرامة الإنسانية هو اليوم الدفاع الحقيقي عن جوهر الإيمان.

هذه الشهادة الصادرة من داخل الأوساط الأكاديمية اليهودية تعبّر عن لحظة وعي مستحقة في الضمير اليهودي أمام كل الجرائم التي ارتكبت باسمها: فالصهيونية لم تعد درعًا لليهودية، بل خطرًا عليها. وحين يُستعمل الدين لتبرير القتل والاحتلال، تنقلب الحماية إلى تهديد، ويغدو ما يسُمّي “الخلاص الأرضي” سرقةً علنيةً لروح الخلاص السماوي.

لقد أرادت الصهيونية أن تُخلّد الإيمان عبر الدولة، فإذا بها تُحوّل الدولة إلى آلة تستهلك الإيمان. أرادت أن تحمي الشريعة، فإذا بها تحاصرها داخل غرفة عمليات للإبادة الجماعية. وهكذا أحرقت الدولةُ اليهودية باسم الأيديولوجيا، وأحرقت الأيديولوجياُ الدينَ باسم الدولة. وما كان يُروَّج له باعتباره اتحادًا مقدّسًا بين “شعب الله المختار” و”أرض الميعاد” هو في طريقه نحو الانفصال الضروري بين قيم السماء ومصالح الأرض. والذين عليهما أن ينفصلا، في الحالة الصهيونية، وإلا جنت الثانية (الصهيونية) على الأولى (اليهوجية) ، بعد أن اتكأت الأولى على الثانية.

إن ما نعيشه اليوم هو حالة تهديد مباشر من الأيديولوجية الصهيونية للديانة اليهودية: فالفكرة التي زعمت أنها حامية العقيدة تحوّلت إلى آلةٍ تمحو قداستها؛ إذ نُزعت الهالة الروحية عن اليهودية، حين جرى تحويلها إلى مشروع إحلالي عدواني، يُقاس بعدد الغارات الجوية التي تقصف شعبا أعزل، لا بعدد الصلوات التي تطهر شعبا مذنبا، فالعقيدة في هذه الحالة لم تعد تُعاش كإيمان للخلاص، بل أصبحت تُستهلك كخطاب للتعبئة.

وهكذا انتهت المقولة المؤسسة “الصهيونية حامية اليهودية” ليحلّ محلها واقع “الصهيونية محرقة اليهودية“. فلقد غدت الفكرة القومية درعًا ضد الدين ذاته، تُخرس الحاخام باسم الأمن، وتختصر التوراة في نشيد عسكري. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد المشكلة بين الإيمان وأعدائه، بل بين الإيمان ومَن ادّعى حمايته.

خاتمة:

وهكذا، حين انقضّت صواريخ السابع من أكتوبر، لم تكن تسقط على قواعدٍ عسكرية فقط، بل على منظومة رمزيةٍ كاملة، شكّلت هوية إسرائيل منذ قيامها: ففي غضون ساعات، تحوّلت المقولات التي بُنيت عليها الصهيونية إلى شظايا متناثرة في الوعي الجمعي: الجيش الذي لا يُقهر خسر هيبته، والدولة التي وُصفت بالملاذ الآمن صارت فخًّا خطرا، والمعجزة التي قامت من الرماد عادت إليه من جديد.

إن ما حدث هو انهيار في قاموس اللغة الصهيونية، قبل أن يكون انهيارًا في ميدان الجبهة الإسرائيلية: فالمفردات التي كانت تُلهِب المخيال العبري، تحوّلت إلى عبءٍ عليه: “الاختيار” و”النجاة” و”القداسة و”الحماية” و”التمثيل”… كلّها فقدت معناها حين أصبحت مبررا للاغتصاب والإبادة والعدوان. والنتيجة اليوم، أن إسرائيل لم تعد مشروعًا سياسياً مأزوما فحسب، بل أصبحت ظاهرة نفسية ذهانية تبحث عن تفسير: فكيف يمكن لدولةٍ قامت باسم النجاة أن تعيش على الخوف، ولدينٍ ادّعى السلام أن يتغذّى على الحرب، ولأمةٍ تزعم الحماية أن تُهدِّد نفسها بنفسها قبل أن تهدد وجود غيرها؟

لقد كشفت متوالية طوفان الأقصى أن الصهيونية قد شارفت على حدّها الأقصى: فحين تمتلك كلّ السلاح وتفقد كل المعنى، لا يعود الخطر خارج الحدود، بل في داخل الفكرة نفسها. وما كان يُقدَّم كدليل على “الاختيار الإلهي” أصبح برهانًا على التيه الجديد: تيه في الذات، لا في الصحراء، في اتجاه صعود نحو الشتات الجديد.

ومن بين هذا الركام والدمار والدماء، سيكتب التاريخ يومًا ما أن الصهيونية، التي ادّعت أنها أنقذت اليهود من المحرقة، انتهت بأن أشعلت محرقتها الخاصة في معنى يهوديتها نفسها، وحققت هولوكوستها في ذاتها.

ماهر الملاخ

ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى