جدل الخريطة والقصيدة: قصة العلاقة بين الثائر والشاعر
بين يدي الجدل :
هي نموذج متفرد في تاريخ تحرر الشعوب، تلك العلاقة التي جمعت ياسر عرفات بمحمود درويش، حيث نعثر على ذاك التلاقي بين الثائر والشاعر، الذَيْن يربطهما جدل درامي استثنائي.
وحيث لا تكتمل كينونة هذا إلا بحضور ذاك، فقد شكلا تقاطبا عجيبا بين السياسي والثقافي، بين البراغماتية والمبدئية، والأهم من ذلك كله، بين النسبية والإطلاق.
لقد كان في حاجة إلى من ينظم خريطته في شكل قصيدة، فكان محمود.
فقد كان في حاجة إلى من يرسم قصيدته في شكل خريطة، فكان ياسر.
بُعد آخر من الصعب تجاهله، وهو الخلفية الأيديولوجية لكليهما؛ فالأول كان ذو نزعة إسلامية قومية، رافقته إلى آخر حياته، والثاني كان شيوعيا قحا، وظل كذلك إلى آخر كلمة كتبها. لكن الجميل في تلك العلاقة، أن خلافا بهذه الخلفية بين الرجلين لم يسجل أبدا بينهما.
لقد أعاد ياسر عرفات صياغة الهوية السياسية للوطن الفلسطيني، فيما أعاد محمود درويش صياغة هويته الثقافية.
إنه جدل القصيدة والخريطة، وتقاطب الفكرة والدولة.
قبل التلاقي:
بين خط حياة ياسر عرفات وخط حياة محمود درويش، مساحات تلاق وافتراق، فقد ولد الأول بالقاهرة سنة 1929، بعيدا عن بلده فلسطين، في حين ولد الثاني بعده باثنتي عشرة سنة، في قرية البروة قرب الجليل.
وفي الوقت الذي دخل فيه الأول لكلية الهندسة، كان الثاني يتهيأ لدخول المدرسة.
وحين توقيع الهدنة مع الكيان الصهيوني، عاد ياسر إلى الجامعة ليتم دراسة الهندسة، في حين رجع محمود رفقة أسرته، ليجد أن قريته قد محيت ولم يعد لها أثر، وحلت محلها قرية زراعية صهيونية (موشاف) صارت تسمى: “أحيهود”، وتجمع سكاني صهيوني (كيبوتس) صار يسمى”يسعور”.
وربما من تلك اللحظة بدأت تتشكل لدى محمود حاسته اللغوية، وأخذ يشعر بخطورة استبدال الكلمات. وحتى تظل قرية “البروة” الجليلية حية في ذاكرة أسرته، فقد قرر جده اقتناء أرض وبيت مُطلين على القرية الممسوحة.
يصف محمود تلك المرحلة فيقول، في رسالته إلى توأم شعره سميح القاسم، فيقول :
وبعد تخرجه من كلية الهندسة سنة 1950، تم انتخابه رئيسا لاتحاد طلاب فلسطين بالقاهرة بين عامي 1952 و1956. وفي المقابل كانت قرية محمود المسلوبة تغذي عاطفته وخياله. فبدأ، مع نهاية المرحلة الإعدادية يتجه نحو كتابة أولى نصوصه وبواكير قصائده.
ومع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، استدعي كل من كان قد شارك في حرب 48، وكان من ضمنهم ياسر عرفات، وهو ما زكى رغبة قوية عنده للتفكير في الحل المسلح لقضية فلسطين. إلا أن اتفاقية مصر وأطراف العدوان حرمه من الاستمرار في الجيش، فغادر نحو الكويت سنة 1957، ليعمل مهندسا. وفي ذات السنة عقد الفلسطينيون مؤتمر براغ الفلسطيني، ليكون أول مناسبة يحضر فيها عرفات بكوفيته البيضاء وجاكيته العسكري، الذي رافقه بقية حياته، مدة خمسين سنة. في ذات الوقت كان محمود درويش يبحث عن إطار يمارس من خلاله مقاومته السياسية، فانتمى للحزب الشيوعي الإسرائيلي، وعمل في صحافة الحزب، مثل: صحيفتي “الاتحاد” ثم “الجديد” والتي أصبح مشرفًا على تحريرها بفضل نبوغه الأدبي والصحفي. ليشترك فيما بعد في تحرير جريدة “الفجر” الفلسطينية. ولينهي تعليمه الثانوي في كفر ياسيف سنة 1958. وفي تلك السنة بالذات، قام ياسر عرفات بجولة واسعة في أرجاء فلسطين مع أحد أقدم مؤسسي الثورة وهو محمود علي أبو بكر من جنين، والذي كان من المقاتلين القدامى.
وبين سنتي 1959 و1964، مارس ياسر عرفات بنفسه العمل الصحفي، من خلال كتابته في مجلة “فلسطيننا” حيث أصبحت هي المنبر الإعلامي لحركة فتح قبيل انطلاق الكفاح المسلح.
بين سنتي 1961 و1972، سيعرف محمود درويش تجربة الاعتقال، حيث حكم عليه النظام الصهيوني بالسجن تسع سنين، بعد تصريحاته السياسية ضد الصهيونية، حيث سيكتب خلاله قصائد ديوانيه: “أوراق الزيتون” و”العصافير تموت في الجليل” الذي نشره عقب نكسة 67 التي عاش مرارتها من داخل زنزانته.
في تلك الفترة كان ياسر عرفات يطور تجربته النضالية بعد أن أسس مع رفاقه حركة فتح سنة 1964، وأصبحت الممثل الأبرز للشعب الفلسطيني ونواة منظمة التحرير الفلسطينية، العضو في مجلس جامعة الدول العربية. ثم بدأ العمل المسلح ضد كيان إسرائيل مطلع سنة 1965 بعملية نفق عيلبون.
وجاءت النكسة، فقبل عرفات بقرار التقسيم 242، ليصبح الأردن مقر قيادتها.
مرحلة التلاقي :
وبعد عملية الكرامة التي أثبتت فيها منظمة التحرير جدارتها في الصمود أمام الجيش الإسرائيلي، كتب محمود درويش قصائد ديوانه: “حبيبتي تنهض من نومها” الذي نشر سنة 1970، تجاوبا مع بدايات العمل المسلح الذي يقوده ياسر عرفات. فكان أول تواصل غير مباشر من جهة محمود درويش بياسر عرفات.
وفي الوقت الذي كان ياسر عرفات يؤسس فيه قواعد جديدة جنوب لبنان، حصلت أحداث أيلول الأسود سنة 1971، فغادر غور الأردن رفقة المسلحين الفلسطينيين، واستقر في بيروت.
بعد ذلك بسنة سوف يخرج محمود درويش من السجن الإسرائيلي ويتوجه إلى الاتحاد السوفياتي، الذي لم ترقه الإقامة فيه، ليعود قافلا نحو القاهرة. ويعمل مع محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام، وينشر قصيدته: “سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا” التي اعتبرها الكثير عاكسة لمرحلة فتور ثوري لدى محمود بعد خروجه من السجن، وصدمته من النموذج السوفياتي الذي طالما آمن به.
لكن الموعد الحقيقي مع ياسر عرفات سيكون عند انتقاله من القاهرة للاستقرار في بيروت، سنة 1973. حيث ستكون أطول فترة مجاورة بينهما إلى أن فرقهما، لفترة، حصار بيروت سنة 1982.
في تلك الفترة، عمل رئيسًا لتحرير مجلة “شؤون فلسطينية”، وأصبح مديرًا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بتكليف مباشر من ياسر عرفات.
ستتوطد علاقة ياسر بمحمود إلى درجة أن كلفه بكتابة أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنة 1974، حيث كتب درويش الجملة الأشهر في تاريخ الدولة الفلسطينية، والتي رددها العالم العربي بعدها، ولخصت القضية الفلسطينية، وهي: “لقد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية ثائر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”. في ذات السنة التي نشر فيها ديوانه: “محاولة رقم7”.
وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، وجد ياسر عرفات نفسه في عين العاصفة، بما كان يعني أن يكون درويش نفسه في نفس موقفه، ولكن من موقع الأديب والصحفي الذي يعكس موقف المنظمة ويدافع عن حقها في الوجود. حيث نشر ديوانه “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق“.
وخلال سنة 1975 سوف تبدأ شهرة محمود درويش في التحقق، وهو في خضم المعاناة، على يد الشاعر والفيلسوف اللبناني روبير عبد الله غانم، عندما بدأ هذا الأخير بنشر قصائد لمحمود درويش على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الأنوار التي كان يترأس تحريرها.
كان لمحمود درويش الدور الكبير في ربط ياسر عرفات باليسار الإسرائيلي، وهو البعد الذي اعتبره الكثير نوعا من الاختراق الفلسطيني للكيان الإسرائيلي. فبفضل هذه “الوساطة” الدرويشية، أصبحت لياسر عرفات علاقة قوية بالصحفي الإسرائيلي اليساري المرموق أوري أفنيري، الذي كان يدافع عن وجهة النظر الفلسطينية في المعسكر الإعلامي الإسرائيلي.
غير أن الخلاف الأول والأكبر بين ياسر ومحمود، سوف يكون سنة 1977، على إثر نشر مركزه لمقالة كتبها صديقه إلياس خوري، منتقدا فيها ممارسات المنظمة، والتي أغضبت عرفات الذي قام بإرسال قوة أمنية لتداهم مركز الأبحاث للقبض على خوري، مما دفع درويش للاستقالة من رئاسة مركز الأبحاث.
فكانت فترة قطيعة بينهما دامت ثلاث سنوات، غادر على إثرها إلى تونس، ولم يعد إلى بيروت إلا بعد نجاح وساطات للصلح بين الشاعر والثائر. فأسس مجلة “الكرمل”، لتمثل مرحلة جديدة في تبلور تجربة درويش الأدبية.
كان ياسر عرفات خلال فترة غياب درويش، قد عارض اتفاقية كامب ديفيد سنة 1978. واشتد عليه الحصار في لبنان، ليصل ذروته عند محاصرة شارون لغريمه التاريخي، في يونيو 1982.
وحينما كان ياسر عرفات يحصن موقعه في طرابلس 1983 لمواجهة المنشقين عنه، إذا بمحمود درويش يفاجئه بزيارته سراً، في ظروف أمنية وسياسية وعسكرية غاية في الخطورة. تلك الزيارة التي ستظل ماثلة في ذهن الثائر، ركز وفاء وتضحية من الشاعر.
حينها أرخ تلك الملحمة التاريخية، برائعته الخالدة: “مديح الظل العالي”:
“هي هجرة أخرى/.. فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما / سقط السقوط، وأنت تعلو فكرة / ويدا / وشاما / لا بر إلا ساعداك / لا بحر إلا الغامض الكحلي فيك / فتقمص الأشياء كي تتقمص الأشياء خطوتك الحراما/ واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربي / حتى لا يعلقها وساما / واكسر ظلالك كلها كيلا يمدوها بساطا أو ظلاما.”
غير أن تلك المرحلة، برغم روحانياتها العالية، وشفافيتها الشاعرية، سوف تنتهي قريبا، بافتراق جديد بين ياسر ومحمود، حيث توجه الأول إلى تونس، وظل الثاني مشردا بين دمشق والقاهرة وتونس وباريس. فشغل منصب رئيس “الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين”، كما كانت لديه فرصة لدخول فلسطين زائرا والدته، بدعم وتسهيل من أحد الأعضاء العرب بالكنيست.
وبينما كان محمود يواجه تشرده، كان عرفات يواجه الانشقاق الأكبر في تاريخ المنظمة، والذي وقف فيه محمود درويش موقف الداعم لرفيق نضاله، متوجا ذلك بديوان: “حصار لمدائح البحر” الذي حول ياسر عرفات إلى رمز لا يضاهى للثورة الفلسطينية. وقد ظلت هذه الصور متواترة في كتابات محمود منذ ذلك الوقت إلى آخر ما كتبه عنه.
ستمثل حادثة نجاة ياسر عرفات من محاولة اغتياله في تونس على يد الموساد سنة 1985 عنصرا جديدا، من عناصر الطابع الأسطوري الذي سيضفيه محمود على ياسر، خاصة حينما تتوالى حوادث محاولات اغتياله أو موته.
مع اندلاع الانتفاضة الأولى التي أسس لها ياسر عرفات سنة 1987 من مقر المنظمة بتونس، أطلق محمود درويش ديوانه الجديد “ذاكرة النسيان”.
انتخاب محمود درويش عضوًا في منظمة التحرير كان ضد قوانين المنظمة التي تشترط حضور درويش. وباقتراح من ياسر عرفات شخصيا، تم انتخاب محمود درويش عضوًا في منظمة التحرير غيابيا، مخالفا قوانين المنظمة التي تفرض حضور المرشح، ثم اعتمده مستشارا خاصا له، وهو ما يعكس ذروة التوافق الذي أصبح بين الثائر والشاعر.
وقد كانت سنة 1988 مسرحا لأربعة أحداث هامة في حياة ياسر عرفات وبالتالي في مسار القضية الفلسطينية :
كان الأول هو اغتيال الموساد الإسرائيلي رفيق دربه خليل الوزير (أبو جهاد) والمشرف المباشر على الانتفاضة خلال شهر أبريل.
وخلال شهر نوفمبر سوف يعلن ياسر الاستقلال الفلسطيني، أمام البرلمان الجزائري، ولم يكن كاتب الإعلان الذي تلاه ياسر غير محمود.
أما الحدث الثالث فقد كان من المفروض أن يلقي ياسر عرفات خطابا جديدا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن الولايات المتحدة رفضت منحه تأشيرة الدخول، فتقرر نقل مقرها إلى جنيف.
ولأجل تخفيف الضغط عليه، دعاه صديقه وزير خارجية السويد حينها السيد ستين أندرسون. ورتب له لقاء مع وفد يهودي أميركي برئاسة محامية أميركية هي ريتا هاوزر. وبهذه المناسبة لم يستأمن على مرافقته إلا محمود درويش وياسر عبد ربه. والذي كان الهدف منه اعتراف اسرائيل بمنظمة التحرير، في مقابل إعلان عرفات نبذ الإرهاب وقبول القرارات الدولية. ذاك الأمر الذي وافق عليه ياسر عرفات، واعدا أن يضمنه خطابه، ذاك الخطاب الذي يكلف بصياغته مرة أخرى محمود درويش.
وحين عودته إلى تونس، وقد وجد ياسر عرفات عاصفة سياسية أمامه، بسبب ما تم اعتباره تنازلا وتفريطا كبيرين، كان محمود مرة أخرى واقفا بجنبه، ومدعما له.
مرحلة الافتراق:
وفي سنة 1989، بدأ ياسر عرفات اتجاه مسار السلام بكل قوة، حيث فتحت الإدارة الامريكية له باب الحوار، خلال ولاية رونالد ريغان. وفي هذه اللحظة، بدأ محمود درويش، صاحب مقولة: “أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا”، يجد نفسه غريبا عن هذا المسار، فأشغل نفسه برسائله مع رفيقه الأدبي سميح القاسم، حيث نشرا في العام الموالي كتاب: “الرسائل”. خاصة وأن ياسر عرفات قد تورط دون استشارة، في موقف دعم اجتياح الكويت، مما عرضه لعزلة مزدوجة داخل المنظمة وفي العالم العربي.
ومع ذلك، وقبل انقضاء ذلك العام، استأمنه ياسر عرفات على كتابة البيان الختامي للمؤتمر الخامس لحركة فتح، الذي انعقد بتونس، مع أنه لم يكن عضوا فيها. وهي الوثيقة التي لا تزال تعتبر مرجعا تاريخيا في مسار حركة التحررالفلسطينية.
سوف تمثل 1993 سنة القطيعة بين مساري ياسر ومحمود، وذلك بعد توقيع عرفات اتفاقية أوسلو، حيث طلب درويش من عرفات قبول استقالته من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، إذ كان يدرك مدى فداحة انفجار العلاقة بين قطبي الهوية الوطنية: السياسية والثقافية. رافضا أن يتولى منصب وزير الثقافة الذي اقترحه عليه عرفات.
ومن تلك السنة، تراجع محمود عن دوره في تأريخ الحركة السياسية الفلسطينية عبر شعره ومقالاته، فانخرط كليا في العمل الأدبي، حيث أصدر أربعة دواوين على التوالي: “ورد أقل” و “أحد عشر كوكبا” و “هي أغنية” وأرى ما أريد“.
وحتى حينما عاد عرفات إلى رام الله، وعاد محمود نفسه إليها كانت لقاءاتهما مع دفئها صامتة، مشفوعة بمعاني اللوم والعتاب.
وبالرغم من القطيعة المباشرة بين الشاعر والثائر، إلا أن كلا منهما قد احتفظ بتلك العواطف النقية العميقة التي يستحيل أن تندثر، لمجرد التفاوت الذي حصل بين القصيدة والخريطة.
فقد أصدر محمود ديوان “لماذا تركت الحصان وحيدا” سنة 1995، والذي كان ياسر عرفات لا يزال حاضرا في قصائده بقوة، بل لقد تنبأ فيه محمود بموت عرفات مسموما من قبل إسرائيل، حين شبهه بالملك الضليل امرؤ القيس، ممتزجا مع شخصية المسيح الصليب، وذلك قبل موته بعشر سنين. فقال :
“يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ/ أباك على شوك صبارة ليلتين، / ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم / سيرة الدم فوق الحديدِ …”
وفي الوقت الذي تكرست فيها المفارقة بين ياسر ومحمود، راح عرفات في مسار تكوين الدولة في إطار اتفاقية أوسلو، كما عقد اتفاق كامب مع إيهود باراك، في ذات السنة التي ستندلع فيها الانتفاضة الثانية سنة 2000. هذه الانتفاضة التي ستمثل سببا مباشرا في بداية فرض الحصار على عرفات، حيث سيمنعه شارون من حضور القمة العربية ببيروت سنة 2002، في نفس السنة الذي سيدعو فيها جورج بوش لتجاوز عرفات وتشكيل قيادة فلسطينية جديدة، مما اضطر عرفات للتنازل عن بعض صلاحياته الرئاسية.
وينوب عنه محمود بقوله في قصيدته “مطر ناعم في خريف بعيد“:
“وطني لذة في القيود / قبلتي أرسلت في البريد / وأنا لا أريد / من بلادي التي ذبحتني / غير منديل أمي / وأسباب موت جديد“.
ولينتهي كل ذلك مع مرضه الغريب سنة 2004، ووفاته بباريس، ودفنه في مدينة رام الله.
حضرة الغياب:
في تلك المرحلة كلها كان درويش قد كرس نفسه لمساره الشعري، فنشر ديوان: “سرير الغريبة” سنة 1999، وديوان: “جدارية” سنة 2000، إضافة إلى مقالات وحوارات مختلفة سنة 2001.
وكما كان ياسر عرفات حاضرا قبل ذلك فقد ظل حاضرا فيما بعد؛ فقد نشر درويش ديوان: “حالة حصار” ليعبر عن حالة ياسر عرفات الذي انتهى به مطافه النضالي محاصرا في مقر إدارة السلطة برام الله. وذلك تزامنا مع منع شارون لعرفات من حضور القمة العربية سنة 2002.
وفي السنة التي ستشهد وفاة عرفات، كتب قصيدته: “لا تعتذر عما فعلت”، وفيها نسجل تماهيا فريدا بين ذاته السرية وذاته الشخصية، وكأنه يخاطب عرفات فيها، فيقول لهما:
لا تعتذر عما فعلت – أقول في / سري. أقول لآخري الشخصي: / ها هي ذكرياتك كلها مرئية: / ضجر الظهيرة في نعاس القط/ …. / “هل هذا هو؟” اختلف الشهود: / لعلهن وكأنه. فسألت: “من هو؟” / لم يجيبوني. همست لآخري: “أهو / الذي قد كان أنت… أنا؟” فغض / الطرف. والتفتوا إلى أمي لتشهد / أنني هو.. فاستعدت للغناء على / طريقتها: أنا الأم التي ولدته / لكن الرياح هي التي ربته / قلت لآخري: لا تعتذر إلا لأمك!!!”
وعند وفاة عرفات، سوف يؤرخ لحظته تلك، بقوله: ” “فاجأنا بأنه لم يفاجئنا”. وفي ذكرى الأربعين كان قد كتب: “تأخر حزني عليه قليلاً، لأني كغيري توقعت من سيد النجاة أن يعود إلينا هذه المرة أيضاً ببداية جديدة، لكن الزمن الجديد أقوى من شاعرية الأسطورة ومن سحر العنقاء… لم ينتصر في المعارك العسكرية، لا في الوطن ولا في الشتات. لكنه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني ووضع المسألة الفلسطينية على الخارطة السياسية الإقليمية والدولية، وفي بلورة الهوية الوطنية للفلسطيني اللاجئ المنسي عند أطراف الغياب، وفي تثبيت الحقيقة الفلسطينية في الوعي الإنساني، ونجح في إقناع العالم بأن الحرب تبدأ من فلسطين، وبأن السلم يبدأ من فلسطين”
وبعد وفاة عرفات، سوف لن يتأخر درويش في اللحاق به، فقد فعل ذلك قبل انقضاء أربع سنوات. نشر خلالها ست دواوين وكتابا نثريا. بعد أن نعاه مرتين بنص لا يزال حاضرا إلى اليوم.
لقد التقى ياسر ومحمود، في معظم مسارات حياتهما، لأن عرفات كان سياسيا حالما، وكان درويش شاعرا براغماتيا؛ فعرفات لم يكن ذلك السياسي البراغماتي الفج، فقد رفض إملاءات باراك في كامب دايفيد، وقبل أن يستشهد محاصرا. كما أن درويش لم يكن ذلك الشاعر الحالم، فقد قبل قرار التقسيم، وشارك في التفاوض مع الكيان الإسرائيلي.
وبين السياسي الحالم والشاعر البراجماتي التقت السبل في نقطة ما بين شخصيتين طبعا بمسارهما تاريخ القضية الفلسطينية ومن خلالها تاريخ العرب المعاصر، على الرغم مما كان بينهما من تمايزات.